صفحات سورية

لينينية التيار الديني

null


وسام سعادة

يبدو أننا انتقلنا، في خارطة الثقافة العربية، من لحظة يائسة تشايعُ فيها بقايا اليسار في المنطقة بعضاً من تنويعات التيار الديني، لأجل التكتل ضد الهجمة الاستعمارية، إلى لحظة ميؤوس منها، يتولّى فيها التيار الديني بنفسه أمر الحكم على مدى علمانية العلمانيّ، وتقدّمية التقدّمي، وإذا ما كان اليساري أميناً على القضية التي على أساسها يميَّز يمين عن يسار أم لا.

ربّما كان من الأفضل لو بقي التيار الديني بمنأى عن اختلاطه ببقايا اليسار، ومنع تسرّب موروثاتها اليه. قام التيار الديني أو الإسلام الحركي على أساس قناعة بأن اسلام المسلمين ليس كافياً، أو أنه لم يكن كافياً منذ البدء، وانه لا بد من اعادة ضخ الاسلام للمسلمين، ثم سهل على هذا التيار الديني اقران قناعته هذه مع نظرية المؤامرة الكونية. ما كان ينقص هذا التيار هو تلك الموروثات التي أدخلت اليه مفاهيم من خارج السياق النبوي، من مثل «الحتمية التاريخية» و«ضخ الحقيقة». واذا كانت «الحتموية» قد دفعت باليساريين للاصطدام بواقع قوامه الصيرورة، فإن هذه الحتموية، مقرونة بالاسكاتولوجيا المباشرة، أو بـ«الغيب الفعّال»، تجرّ التيار الديني، وتجرّنا معه، الى… الكارثة.

كان من الأهون علينا، لو أن الحالة اقتصرت على «تطوّع» يساريّ، في مكان ما، في وضع ما، أمام حاجة ما، معنوية كانت أم نفسية أم صحية أم مالية، أو لضجر معيّن أو بغية اتقاء عذابات الدنيا والقبر والآخرة، للتنظير لتحالف مع الأصوليين، وبشكل أعم، لتحالف ثلاثي يقوم بين الاستبداد والغيب والفوضوية.

لكن ما يصعب تقبّله حقاً هو أن يبادر التيار الديني بنفسه الى امتحان اليساريين، ليس من جهة فحص ايمانهم الديني، وانما من جهة فحص أمانتهم للتراث الثوري الأممي، وللتركة الفكرية المحفوظة لهم. لا مانع عند هذا التيار الآن في أن يكون اليساريون ملاحدة أو سكارى. بل ان هذا التيار صار يراجع لهم مبادئ الديالكتيك ويسألهم فيها. يقيّم درجة تمرّسهم في المادية التاريخية. يطلب منهم مراجعة كل مكتبتهم من أول «الأنتي دوهرينغ» إلى آخر «مذكرات الماريشال جوكوف».

في بداية الحرب العالمية الأولى، وضع لينين كرّاساً سجالياً ومتشدّداً أسماه «الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي». كاوتسكي هذا، كان عمدة الماركسية، مواصلاً لتراث العظيمين ماركس وأنجلز في نقد الاقتصاد السياسي، ووفياً على نهجهما في الفكر والسياسة إلى حين وفاته، ومن قياديي الاشتراكية ـ الديموقراطية الألمانية، وقد وقف سواء بسواء ضد النزعات الطاردة على يمينها أو يسارها.

أما في بداية هذا القرن الحادي والعشرين، فالمساجلة لا تأتي ممهورة بختم لينين ضد كاوتسكي. بل صار التيار الديني هو من يواصل السجال، متخذاً صفة الادعاء اللينيني ضد أحفاد كاوتسكي، ومتمتعاً بشلة الأنس التي كسبها، من طلائع كشفية «بلشفية» وفلتات صوفية «فوضوية». يبدو أن مهمة التيار الديني صارت مزدوجة: ضخ الاسلام الى المسلمين بحجة أن اسلامهم ناقص، وضخ الوعي الى اليساريين بحجة أن يساريتهم يتهدّدها الزغل، وربما أيضاً تعليم الفاتيكان مبادئ المسيحية، لأنه تحت طائلة التهوّد.

انه مشهد كئيب في سلسلة متمادية منذ قرون عديدة. اذا ما أردنا تلخيص العائق الذهني ـ الماورائي الرئيسي الذي يفسّر الكوارث الثقافية التي منيت بها هذه المنطقة منذ قرون عديدة، لاحتكمنا للمعادلة التالية: انكَ تصادر كتبي ثم تمتحنني فيها، وتتخيل في الوقت نفسه بأني أصادر كتبك وأستفيد منها. سيّان في ذلك ان كانت الكتب المعنية بهذه المعادلة منزلة أو موضوعة، نقلية أو عقلية، تقليدية أو حديثة، علمية أو أدبية. المعادلة هي دائماً: تأخذ منّي، وتقول إني أنا من انحرفت عن المصدر، وإني أنا من حرّفت النسخة الأصلية، تلك التي كتبتها بيدي هاتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى