صفحات مختارة

في ثقافة الإذعان: سوسيولوجيا الخطاب السلطاني ومفهوم الرعية

قصي الحسين
لا تدعي محاولتنا في هذا الشأن، تحليلاً عاماً لموضوع أعم، مثل الرعية، ولا نقداً أو قراءةً، أو حتى تقميشاً، لما قيل فيها أو بصددها، من أساليب الخطابات السلطانية وفنونها عبر الحقب التاريخية العربية والاسلامية التي توالت على صنع سياسات الدولة، بل ترغب في تقديم قراءة سوسيولوجية تاريخانية لواقعات وبنيات حكمت العلاقة الضمنية للسان السلطاني في خطابه الرعوي مع تبلور مفهوم الرعية لدى كل من الكاتب والسلطان.
فالكاتب السلطاني، كان شريك السلطان نفسه، في تحديد مفهوم الرعية. فهو الذي وضع مصطلحاتها وأنشأ فلسفتها وأقام معالمها وبنى حضورها وأسس لتوجهاتها وفاعليتها، لا لتكون أقوى في خدمة نفسها بل ليكون السلطان هو الأقوى والأعظم والأجدر، بها وعليها. ينعكس ذلك بقوة في جميع كتب المصادر التي كتبت للسلطان، فهي تحتقر ما يدعى العامة أو “الدهماء” او “الغوغاء” أو “الأوباش” أو “الرعاع”، أو “قطاع الطرق”، أو “الفساق” أو “الزعار” (الزعران) أو “المفسرين”. وهؤلاء هم عينهم الذين يشكلون القطاعات الواسعة من الرعية، أو ما ندعوه اليوم بالجماهير الشعبية أو بالشعب.
ليس لدينا ها هنا، أن نذهب في تحليل الأسباب الكامنة وراء الاهمال الكلي أو النسبي للواقعات والبنيات التي شفّ عنها التاريخ الاجتماعي، ولا كيف حدث أن اهتم المفكرون والباحثون والكتاب، قدامى ومحدثين، بالدولة السلطانية، وأغفلوا المجتمع المدني، ان جاز استعمال هذه المفاهيم الحديثة، لأن ذلك يذهب بنا مذهباً آخر في شؤون وشجون خطب كتاب السلاطين والسنتهم المتقعرة التي تصف ما في نفوس السلاطين، وحسب، بحيث تتحول كتاباتهم بذلك، مرايا متقعرة تعكس قيعانها، ولا تبارحها الى هموم الرعية وقطاعاتها المنشغلة باحوالها وسبل عيشها وشؤون أمنها وسلمها وتطور حياتها.
ويمكن ان يخضع الخطاب السلطاني، كما ورد في كتب المصادر والمراجع لقراءات وتأويلات عدة، ربما تتباين بين التروي والتثبت والاحكام المتسرعة، كما تحكمه طبيعة النصوص السلطانية، غير أن القاسم المشترك في جميع هذه القراءات والتأويلات، هو أن الخطاب السلطاني، والذي ما انفك يضعه كاتب السلطان، ليس موجهاً الى الرعية، ولا هي معنية أو مخاطبة به، بل هو موجه الى الراعي في موضوع رعيته.
فالخطاب السياسي السلطاني، لا يتعامل مع الرعية، ككيان قائم بذاته، له حيثيات الحضور والغياب، ويشتمل على النقص والكمال، ويجري في تاريخه من أول الدهر الى آخره، بل هو لا يتصور هذه الذات ذاتاً مستقلة تستحق خطاباً مستقلاً بقدر ما ينظر اليها على الدوام كموضوع لذات السلطان، كأقنوم أو قطب أو حصن أو كهف تأوي اليه “الصغار” التي تعرف بالرعية بمفهوم السلطان الذي تشفّ عنه نصوص وخطب ولسن كاتبه الألمعي واللوذعي المتفيهق.
ومما يؤكد لنا هذه الاستنتاجات، هو أن جميع هذه التصورات التي سقناها نجدها تطبع بطابعها المميز الخطاب السلطاني على أنه خطاب موجه الى الحاكم في علاقته بالمحكوم، اي السلطان في علاقته بالرعية. دون أن يهتم بها، الا من زاوية الخضوع التام للسلطان، والانصياع له في جميع الأحوال والظروف، وبذلك تصبح الخطب والنصوص والألسن السلطانية في حقيقتها التاريخانية التي تجلت بها في كتب المصادر عبارة عن مجموعة من التقنيات، يستعين بها السلطان في ادارة شؤون الرعية لا من اجل النظر في شؤونها، بل من أجل ضبطها والسيطرة عليها  واحكام قبضته في أعناقها، لتحقيق هدف اساسي له يتمثل في دوام حكم السلطنة، مهما تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال.
يلح الخطاب السلطاني أولاً بأول على أساليب “تطبيع” الرعية باعتبارها “خدم” السلطان، تنشأ في خدمته وتحيا وتفنى. ثم لا يلبث أن ينتقل الى موضوعات اخرى مثل قواعد تعامل السلطان معها، ومعدلات ظهوره أمامها واحتجابه عنها، بالاضافة الى الحديث عن قدرتها الجبائية، وطرق تجنيدها وأشكاله واساليبه من جهة، وترغيبها وترهيبها من جهة أخرى.
واذا كانت هناك نصوص سلطانية واضحة بعناوينها وفصولها تتحدث عن المفهوم السلطاني للرعية بكل وضوح وعلانية، غير أن هناك بالمماثل أيضاً نصوصاً سلطانية أخرى يتوارى فيها المفهوم السلطاني للرعية من خلال الحديث عن مواضيع أخرى تخص العفو والعقاب والعدل والمال والجند والعمارة ومجلس المظالم والمراتب السلطانية التي يبلغها بعض العامة في البلاطات السلطانية.
فالخطاب السلطاني في مجمله، ومهما تعددت مواضيعه وتنوعت لسنه وأساليبه، هو في خاتمة المطاف، خطاب مبطن حول الرعية. فالهاجس الأول الذي يشغل بال كاتب السلطان نفسه، انما يتمثل في تقوية السلطان وبسط نفوذه وبلوغه المدى الأقصى من الرهبة والسيطرة، والاستقرار، وهي عناصر مؤسساة عادة للملك العضود. ولهذا، فان الرعية والتي لا وجود للراعي من دونها نراها تدخل في خدمة الراعي السلطان اسماً وفصلاً في كل اشكال الخطابات السلطانية، ايجاباً أو سلباً سواء بشكل صريح وواضح أم بصورة التورية وصيغة الاضمار واسلوب الكناية المسكوت عنها.
فالحديث عن جملة الأساليب والألسن في الخطابات والنصوص السلطانية والتي تمثل عادة الحيز الأكبر من الكتابات السياسية لكتاب السلطان ومثقفيه، انما هي في الجوهر تبطن حديثاً آخر، عن تقنيات السلوك السلطاني، من خلال مفهومه هو للرعية، لا من خلال مفهوم الرعية للسلطان. وكذلك فان الكلام في مقومات الملك، من جند ومال وعدل وعمران، انما هو في حقيقة أمره خطاب مقولب عن الرعية التي تعد الجند وتدفع المال وتقيم العمران، لا من أجل نفسها وخدمة وطنها وبلادها، وانما من أجل ان يستقر السلطان على عرش السلطنة.
ولأن الرعية، اساس السلطة ورأس الفتنة، فانه بطاعتها للسلطان وانصياعها لأمره إنما تستقر السلطنة، وبخروجها عنه تعم الفتن والقلاقل. وقد انشغل كاتب السلطان في جميع أنواع خطاباته ولسنه التي دبجها واستثارها، في وعي كل هذه الحيثيات التي تنهض على اساسها اركان السلطة، فأبو بكر الطرطوشي الذي يسلط الأضواء على حضور الرعية نراه يخصص حديثاً مسهباً عنها. فهو يطرح العلاقة الخاصة والوضعية غير المتكافئة بين الرعية والسلطان ومنزلتها منه، كما يحذر الحاكم السلطاني من عواقب الخصال التي تدفع الرعية لذم السلطان، ويذكر بالخصال التي تصلح بها أحوالها. ثم ينتهي للاشارة الى حدود الطاعة المفروضة عليها تجاه السلطان.
كذلك نجد الأمر نفسه عند الماوردي وابن الأزرق، في الحديث عن سياسة الرعية، وكيف يجب أن تتطابق مع سياسة الملك. اذ يطرح الماوردي مختلف التجاذبات والتقاطعات التي توجد عادة بين الرعية والملك والدين، بينما نرى ابن الأزرق يعرض مجموعة التقنيات المحددة بدقة والمتمثلة في ما يجب احترامه من أسس يقوم عليها بناء الرعية، وما يجب اجتنابه من أفعال تخل بنظام بنائها. وبقدر ما يؤكد الأدب السلطاني أهمية الرعية في بنية الدولة السلطانية، فانه يصوغ تصوراً دونياً بشأنها، يرتكز على تهميشها واعتبارها مجرد آلة اشتغال سلطانية. وهذه المفارقة بين أهمية الرعية ومفهومها وتصورها في الخطابات والألسن السلطانية انما تدعو الباحث بحق، الى الانتباه والتساؤل من جهة وتوخي الدقة والحذر في مجمل القراءات والتأويلات للخطابات السلطانية  من جهة أخرى.
والواقع، أن مختلف الكتاب السلطانيين، انما يتفقون بشكل واضح، كما يبدو لنا من خلال نصوصهم، على اعتبار الرعية موضوعاً لذات السلطان، اما الأخلاق السلطانية والتي تتمثل في الكرم والحلم والعفو والعقاب والسخاء والتغافل والحزم والدهاء والترغيب والترهيب، والتي تقع في صلب النص السياسي السلطاني، فما هي الا من التقنيات التي نجد مادتها في الرعية، التي هي موضوع السلوك والمعاملات السلطانية العامة.
في سراج الملوك لابي بكر الطرطوشي، تبدو الرعية، وكأنها جسد مآله الموت لولا الروح السلطانية، وأرضاً ظمآنة من دون ماء وظلاماً حالكاً من دون سراج  أما في كتابات الماوردي، فالرعية تبدو كيتيم تضيع حقوقه من دون ولي وهو السلطان. بل هي أمانة في يد السلطان، وهو وحده المؤتمن عليها، أما عند الشيزري، فالرعية هي غنم سائبة، اذا غاب عنها راعيها، اي السلطان، وهي نبت يتوق الى قطرات الغيث والغيث للرعية هو السلطان.
ويصور ابن عبد ربه الرعية ابلاً تحتاج الى من يقودها، أو ولداً يتعلق وجوده بأبيه. وفي نظر الثعالبي هي الخشب، المهتريء لن يقوّم أوده من دون نار، وفي سائر الكتابات السلطانية، كما عند ابن رضوان وابن طباطبا العلوي، وابو حمو الزياتي وابن الأزرق. فالرعية انما هي كائن مريض، وهو يحتاج الى الدواء السلطاني لاسترداد عافيته.
ولعل هذه التشبيهات المختلفة التي وردت في الخطابات السلطانية انما تشف حتماً عن نوع العلاقة التي تصل بين الرعية والسلطان، اذ تبدو الرعية في افتقار دائماً للسلطان، بحكم حاجتها المتواصلة الى رعايته، وهي تحتاج بالتحديد الى سلطان قوي ذي بطش حتى يرهب رعيته، غير أنه من الصعب التنبؤ بالسلوك السلطاني لأنه يملك نفسه بنفسه ولا أحد يملك حق توجيهه، لأنه فوق اي اذعان لارادة اي كان في جميع الظروف والاحوال.
ان حضور السلطان القاهر، يعني انتفاء الفتنة، والرعية بطبيعتها، تميل الى الفساد، ولا بد لها من وازع يقيها اولاً من نفسها الأمّارة بالسوء، ويسمح لها بالتالي (السلطان، السراج المنير) معالجة صنائعها في أمن وأمان، فالسلطان القاهر هو الذي يمنع انتشار “الظلام” وهياج “الحيوان الشرير” وانفجار “الهوام الخسيس”، وثورة “البرغوث الحقير”.
ولأن جور الرعية اشد من جور السلطان، ولأن الفتنة ايضاً أشد من القتل، فان الوجه المسكوت عنه في الخطاب السلطاني، هو واجب الطاعة، الذي بات أمراً ضرورياً، لأنه لمصلحة الرعية، فمصلحة الرعية تقتضي اذعانها للسلطان مهما بالغ في التنكيل بها والاستبداد بشؤون حياتها.
ويعتبر الخوف من الفتنة أو تفرق كلمة المسلمين مسوغاً كافياً للترويج للاستبداد السلطاني والدعوة اليه. فالاستبداد السلطاني جعله كاتب السلطان شأناً من شؤون الرعية، لأن السلطان لا يجور الا لخلل في الرعية يريد اصلاحه، ولعل صاحب سراج الملوك، أوضح ذلك في خطابه السلطاني حين قال: لم ازل أسمع الناس يقولون: اعمالكم أعمالكم كيفما تكونوا يولى عليكم، الى أن ظفرت بهذا المعنى في القرآن الكريم: وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً.
ويهيمن الطابع العملاني على الخطاب السلطاني، اذ نرى كاتب السلطان يطرق جميع المواضيع المتصلة بالشأن السياسي، ويكشف عن السلبيات والايجابيات في موضوع تعاطي الرعية في علاقتها بالسلطان، وهذا ما يجعله يشير الى شؤون “التغافل” التي يجب أن تكون من ميزات السلطان بالاضافة الى ميزات اخرى مثل “الاحتجاب” عن الأنظار والظهور أمام الرعية واتباع سنن الترغيب والترهيب، وهي من ضرورات حفظ الملك وهيبته.
وتبدو في نصوص الخطاب السلطاني، كتابات متنوعة تشجع السلطان على التودد للرعية وتبسطه معها وتواضعه في اجتماعاته بها. اذ عليه أن يوحي بكونه جميلاً وطاهراً، لأنه القدوة والمثال كما في كتابات المرادي والطرطوشي، وابن رضوان، وابن الأزرق، كذلك يجب ان يظهر بصورة العادل، كله لطف ورأفة، يعفو عن الذنوب، ويبتعد عن الحقد ويرد المظالم، أما كرمه فلا يوصف، لأنه يطاول الرعية عموماً.
وهذه النصوص ترسم صورة مثالية للسلطان، بحيث يختفي الوجه الحقيقي له ويستبدله بقناع جميل، اتقنه له كاتبه، وهو قناع يلبسه السلطان بحذر، بحيث لا يعني ذلك نزولاً الى الشعب ولا يشي بترك كرسي السلطة، انه نوع من الترغيب الذي لا يتنافى اطلاقاً مع سياسة الترهيب التي يعتمدها من اجل الاحتفاظ بالسلطة.
ان معظم الخطابات السلطانية، سواء عند ابن طباطبا أو الماوردي، أو ابن الأزرق، او الطرطوشي، انما تتحدث عن هيبة السلطان، وعن فائدة الرهبة. فهما تخلقان في نفوس الرعايا، مشاعر الوقار، والاحساس بالضعف تجاه القوة السلطانية الطاغية. وهذه الكتابات السلطانية تحذر الرعية ايضاً من السلاطين لكونهم سريعي الغضب، لا يقبلون المشاركة في العز، والأديب السلطاني يذكّر الرعية بمجموعة السلوكات التي تخص العلاقة بالسلطان. وخصوصاً أهل الحاشية، مثل التشبث بالوقار، واجتناب المزاح وضبط آداب الصحبة المتمثلة بالصمت واختصار الكلام وغض العينين وطأطأة الرأس وضم الشفة، وتمثل الخشية في الحضرة السلطانية.
والترهيب السلطاني منه ما يخص شخص السلطان نفسه أو ما يخص مجلسه أو ما يخص خدمه، أو ما يخص مركوبه أو ما يخص موكبه. فاسمه له وقع عظيم وكذلك لقبه الفخم، ومظهر جسده، وغذاؤه ولباسه، وفضاء قصره واهله ورجال حاشيته، والموكب السلطاني بكل جلاله ورهابه.
في هذا السياق، وامام هذا الشخص السلطاني الفريد من نوعه الرهيب في صورته والماضي في قوله وفعله، يمكننا فهم الهالة العظيمة المباغتة للعامة حين النظر اليها، والتي احاطه بها كاتبه واديبه وخادمه المثقف السلطاني، في خطاباته ونصوصه وادبياته التي وضعها لخدمة سلطانه على الرعية، من اجل الحفاظ على الرعية نفسها على حد مزاعمه.
ان النصوص السلطانية بعامة، انما تفيد الباحث، بأن سياسات الترغيب والترهيب محكومة بضوابط صارمة، توضح متى يكون على السلطان ان يلجأ الى الترغيب، ومتى يحكم بالترهيب، ومتى يجب عليه المزج بين الترغيب والترهيب. فاصناف السياسات التي يتبعها السلطان عادة، انما تتوقف على أصناف الرعية.
والحديث عن أصناف الرعية عند كاتب السلطان، قد يوحي بالحديث عن أقسام الرعية، والكلام في هذا الشان لا يحيل الى السوسيولوجيا، من أجل الوقوف على الشطائر والفئات الاجتماعية، بقدر ما يأخذ بعداً معيارياً وعلائقياً متمحوراً حول الذات السلطانية أي ترتيب امور الرعية وفقاً لما يخدم البيت السلطاني. وعلى اساس من هذه القاعدة تبدو الخطابات السلطانية وكأنها تصدر عن ثقافة الفكر السياسي السلطاني نفسه.
بالعودة الى كتابات المرادي السلطانية، نراه يتحدث عن اقسام الناس، وما تقابل به طبقاتهم فيقول: ان العلماء الماضين والملوك المتقدمين قد قسموا الناس ثلاثة أجناس: كريم فاضل، ولئيم سافل، ومتوسط بينهما. وهذا التقسيم نراه ايضاً عند ابن رضوان وابن الازرق، أما ابن الخطيب فيقول بـ”العليون والأوساط والسفلة”، في حين نرى ابن طباطبا يحدد أصناف الرعية بـ”الأفاضل والأوساط والعوام”.
ويتضح لنا من سياق هذه النصوص السلطانية، ان كتاب السلاطين حينما يطرحون هذا النوع من التصنيف ويؤكدون عليه، فانما يسعون الى تبيان ان لكل صنف من الرعية صنفاً من السياسة، كما أوضحنا سابقاً، لذلك نراهم ينتهون للحديث عن الخاصة والعامة. والأديب السلطاني يبين دائماً ضرورة الاعتناء بالخاصة مع الرعاية المشوبة بالحذر من العامة، كما وردت في الكتابات السلطانية لدى ابن الجوزي والقلعي.
ويبدو ان الشيزري قسم الخاصة نفسها “صنفاً متضع في خدمة الملك” يجب مراقبة درجة ولائه “وصنفاً مطبوعاً على الانكماش” لا خوف عليه في ولائه، غير أن كاتب السلطان يعمل دائماً على حصر معنى الخاصة في خدمة السلطان، سواء تعلق بالجانب السياسي او بشخص السلطان نفسه.
في هذا المجال يمكننا القول ان النص السلطاني، لم يكن في يوم من الأيام نصاً تشريعياً. لذلك لم يقنن أو يحدد الحقوق والواجبات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم على الاطلاق، غير أنه فتح الباب للحديث عن واجبات الرعية، كما فعل الطرطوشي في الباب الاربعين من سراج الملوك، تجاه السلطان في حال غضبه، فاذا جار السلطان فعليك الصبر وعليه الوزر، ثم يقول: من خرج على السلطان مات ميتة جاهلية. ويدرج الخطاب السلطاني بعامة، في ثلاثة أعمال لا حق للرعية في النبش فيها. وهي تخص السياسة، والشريعة، وشخص السلطان. يقول ابن ابي الربيع: على الرعية اجتناب الخوض في اسباب السلطان، وحصر نشاطها في الكد والكسب وكل ما يرتبط بالمعيش، واجتناب الخوض في علوم الدين، وان على الرعية ايضاً أن تترك شخص السلطان وشأنه، فلا ينشغلوا بسببه ولا يتتبعوا اسراره وأو يطعنوا عليه او يفتنوا عليه في التعرض لكل ما هو منوط به. ويحرص كاتب السلطان على توجيه الرعية لتعظيم وتفخيم السلطان في الباطن والظاهر والدعاء له، وتربية الأولاد لخدمته، وعلى التماهي مع حالات حزنه وسروره، وعلى تمكينه من التصرف في الحقوق المالية.
في حقوق الرعية على السلطان، نجد ابن طباطبا يذكر بحماية البيضة وسد الثغور وتحصين الأطراف وأمن السوابل وقمع منازعات الرعايا، كذلك يتحدث ابن ابي الربيع عن فض منازعات الرعايا والنظر في شكاواهم وتحقيق الأمن والطمانينة. ولعل الماوردي اجمل القول في حقوق الرعية. وقد عدّها في عشرة. من ذلك: تمكين الرعية من استيطان مساكنهم وادعين والتخلية بينهم وبين مساكنهم آمنين، وكف الأذى عنهم، والعدل فيهم  وتحقيق امن السبل والمسالك الخ… ويؤدي تحقيق هذه الحقوق الى بلوغ السياسة العادلة. وخلافاً لمعظم كتاب السلاطين، نرى كلاً من ابن رضوان وابن الأزرق يعرضان لموضوع السجون وأحوالها، رغم اهمالها في الكتابات السلطانية، فابن رضوان في احدى الاشارات يقول: “فقد حدث ذلك في بعض المدن ما يهول سماعه، ويعظم على الدين وقوعه، نسأل الله العافية من بيع آخرة الملوك بدنيا المساجين”.
طرح ابن رضوان وابن الأزرق خمس نقاط. تتعلق الأولى بمدح السجن والثانية بأقسامه والثالثة بحقوق السجناء والرابعة بمراقبته والخامسة بالتوسل للسلطان ان يكون حليماً متسامحاً. فالسجن تخفيف للعقوبة السلطانية، وأقسامه الفصل بين النساء والرجال من جهة والدعار والمستورين من جهة اخرى، والحقوق تتعلق بطعام المساجين ولباسهم وتنظيف المكان وتسهيل سبل العبادة، أما مراقبة السجن فتتم بملازمة المحابيس وتفتيش الأطعمة، ولا خلاص أخيراً للمساجين الا بالتوسل للسلطان واعلان التوبة أمامه، فاذا عاد أحدهم الى السجن، فان من حق السلطان ان يجعل السجن قبره.
ان واقع السلطة في الخطابات السلطانية جميعاً، تكاد تقوم عموماً على تقنية مألوفة معروفة، قوامها راعٍ يقود الرعية برمتها، كيفما شاء. فالرعية لغة أيضاً، هي الماشية والقطيع، أما الراعي فهو ايضاً الواحد الأحد، وتعدد الرعاة على رعية واحدة، أشبه ما يكون بتعدد الآلهة.
(استاذ في الجامعة اللبنانية)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى