صفحات سورية

دلالات أساسية في المسألة الوطنية

null


تتجلى أهمية المسألة الوطنية كمفهوم وممارسة لا بحكم قوة حضورها السياسي فحسب، بل وأيضاً بحكم المأزق التاريخي العميق الذي وصل إليه الوعي والموقف من هذه المسألة، ولا سبيل لتجاوزه إلا بإنتاج وعي جديد يعالجها بأصالة وجذرية وجرأة، متطرقاً إلى كل الجوانب الإشكالية في هذه المسألة ويربط بين المسألتين الوطنية والديمقراطية في سياق إنتاج ثقافة متقدمة ووعي ناضج يضع في أولى مهماته نهضة المجتمع وإعادة صياغته على أسس تنويرية متقدمة.

إن أهمية المسألة الوطنية برمتها، مستوى حضورها، والتعويم الذي اتخذته، وحالة الاستقطاب وما يرتبط بها من علاقة وتأثر بالعامل الخارجي، إن هذه الأهمية ضرورةٌ موضوعية لمواجهة كل المشاريع المناقضة لبنية المجتمع وإمكانية تطوره وانطلاقه لبناء الدولة المدنية الحديثة.

إن أهميتها لا تأتي من رغبة ذاتية، ولا لجعلها يافطة نتزين بها ونلصقها في واجهات برامجنا، وإنما هي حاجة موضوعية وضرورة واقعية اقتضتها ظروف المجتمع الموضوعية بكل تجلياته وتعقيداته، وهي بالتالي تتطلب منا جهداً وعملاً دؤوباً على صعيد الحوار والتفاعل مع كل القوى والأحزاب والشخصيات المخلصة لشعبها ووطنها، لبلورة فهم عملي لها وموقف صحيح منها.

إن أهميتها تأتي على قاعدة فهمنا أن الإنجاز الديمقراطي هو المدخل إلى حل المسألة الوطنية بكل تعقيداتها ولمواجهة سياسات النظام، واستحواذه على هذه المسألة كرد فعل على الضغوط الخارجية وطمس الأزمات في الداخل تحت غطائها، وهو المدخل لمواجهة المخاطر الجدية التي يتعرض لها الوطن من الخارج.

لهذا علينا في هذه المسألة أن نحدد بدقة موقفاً برنامجياً واضحاً مستقلاً عن النظام، ومن هنا نؤكد على ضرورة إيضاح بعض الجوانب المتعلقة بالمسألة الوطنية لأنها تخدم بالأساس مهمتنا المركزية الأولى المنشودة، المتعلقة بالتغيير الديمقراطي وإلغاء احتكار السلطة وما تفترضه من جهود أساسية.

أولاً: كانت “الوطنية” في سوريا قد تم احتكارها من قبل النظام الاستبدادي، فقد عمل وراكم لها ديماغوجياً لأهميتها له كنظام وسلطة من ناحية علاقتها بأي تفصيل سياسي وتشابكها مع بقية القضايا العالقة، وعلاقة ذلك بالعامل الخارجي وتأثيراته والدمج المقصود بين الوطن والسلطة، واعتبار أن الخطر الذي يهدد السلطة يهدد الوطن بكامله!! واستكمالاً لمنطق “الاحتكار والدمج” عمل النظام بالتالي على تهديد الداخل السوري (معارضة ومجتمع) بأن أي نشاط أو فعل معارض يهدف لفتح أفق العملية السياسية من أجل الانتقال الديمقراطي والإمساك بالمسألة الوطنية (قضية الجولان وغيرها..) بمنطق نقيض أو مختلف عن منطقه ووسائله المطروحة، سيعتبر تآمراً على السلطة وعلى الوطن وإضعافاً للجهد الوطني والعمل الوطني و”الشعور القومي”!!

إن فهمنا لهذه المسألة يرتكز على اعتبار النظام قوة مهيمنة ومتسلطة انطلاقاً من مصالح ضيقة، ولذلك فهو يضع الشروط والعراقيل أمام المشاركة في القرار والحياة السياسية، ويحاول إقناعنا بقبول هذا الواقع بسبب قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي والخطر الواقع على الوطن، وكأن الشعب متخلف وغير جدير بأن يعطى الحريات العامة الأساسية ويأخذ دوره للعمل على هذه المسألة وتحقيق خطوات نضال تراكمية، تعتبر مفتاحاً لنشر ثقافة المقاومة، التي تستلزم التعبئة والتنظيم والممارسة وزج طاقات وإبداعات المجتمع في خدمة هذه القضية بدقة ووعي!!

ثانياً: إن القيمة الفكرية والأخلاقية للمشروع الوطني الديمقراطي تدفعنا إلى تبني مفهوم الانتقال التدريجي الآمن والسلمي، بما يعنيه ذلك من قطع الطريق على أي احتمال تدميري للدولة وخلق فراغ يسوق المجتمع إلى الفوضى، وهذا الخيار يرتكز من حيث المبدأ على الحرص على المجتمع، ومن هنا تأتي معارضتنا للنظام الاستبدادي في سياسته التي توصل ـ وقد أوصلت ـ المجتمع إلى التهشم وتحطيم بنياته التاريخية والأخلاقية وتمزيقه وتجويعه، والوصول به إلى حالة من الهشاشة والانكفاء، بما عزز فرصة النظام في البقاء طوال السنوات الماضية.

إننا نرى أيضاً أن هذا المجتمع مهيأٌ للانفجار والانفلاتات بفعل استمرار وإصرار النظام الاستبدادي على سياسة عدم القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، واحتكار السلطة من قبله عبر مؤسساته الأمنية والقمعية وممارسة التعسف الذي يوقعه على كل شرائح المجتمع، وخصوصاً نخبه وقواه السياسية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بفعل خطورة تهديد العامل الخارجي واستعداده للتدخل المباشر العسكري العنفي، أو غير المباشر بالعقوبات التي تطال المجتمع بالضرورة، و كلا النوعين من التدخل الخارجي يمكن أن يكون بمثابة الشرارة التي تحرق المجتمع وتفجر الصراعات فيه.

هذه المسألة تبدو في غاية الأهمية، وتجاهلها أو التغاضي عنها لا يختلف من حيث الجوهر عن طلبها أو القبول بها، وبالتالي تبدو الحاجة ماسةً إلى وعي وتنبّه دقيقين، ومعالجة جدية لا تتم إلا على قاعدة الاستناد إلى برنامج وطني ديمقراطي يرتقي بالمجتمع إلى سوية سياسية وثقافية وأخلاقية تمكنه من مواجهة حالات ضعفه وتذرره التي سببها الاستبداد، وفضح وتعرية خطر المشروع الأمريكي ـ الصهيوني، وهذا يحتاج بالضرورة موقفاً ورؤيةً صحيحين تدفع المجتمع للالتفاف حول هذا البرنامج وتعزيز آليات عمله وكفاءاته، لمواجهة هذه الأخطار، وحماية وتحصين المناضلين الذين يحملون على عاتقهم مهمة تطبيقه والتعبئة عليه.

ثالثاً: إن مقاربتنا للمسألة الوطنية تقوم من وجهة نظرنا على مبدأ وحدة الوطن واستقلاله وسيادته، وأن صيانة هذا المبدأ لا يمكن أن تكون بدون مواطنة كاملة تعيد انتماء السوريين إلى وطنهم وتزيل اغترابهم عنه أو فيه، وتوفر حقوقاً مدنية و سياسية وثقافية متساوية، وأن الوحدة التي ننشدها هي على الضد من وحدة الخوف والقمع والتسلط التي فرضها نظام الاستبداد، وبالتالي هي وحدة قائمة على التنوع والاختلاف والمشاركة الإيجابية في الحياة العامة، والاستفادة الحقيقية والمتساوية للمواطنين من خيرات الوطن المادية والمعنوية، وهذا لا يتم إلا عبر تحقيق مجموعة من المطالب الأساسية، السياسية والمجتمعية، يأتي في مقدمتها إعطاء وتمكين المواطنين من ممارسة الحريات العامة وإلغاء قانون الطوارئ ورفع الأحكام العرفية وإطلاق سراح معتقلي الرأي وطي ملف الاعتقال التعسفي وتسوية كل تبعاته، والسماح بعودة من كان الاستبداد سبباً في غربته عن الوطن.

إن الديمقراطية مفتاحٌ لحل جملة المعوقات التي تعيق انتماء المواطن لوطنه، وهي السبيل الأكيد ليشارك ويساهم الجميع في صنع مستقبل أكثر إنسانية وتحرراً، وأكثر قدرة على حفظ السيادة.

إن صياغة دستور حضاري متطور لهو هدفٌ أساسي لكل المهتمين بالشأن الوطني بما يكفل ويصون حق المواطن ويحدد واجباته.

رابعاً: إن فهمنا للترابط بين الوطني والديمقراطي يكتسب قيمة خاصة سياسياً وأخلاقياً في مواجهة المشروع الأمريكي ـ الصهيوني الذي يهدف إلى تفتيت أوطاننا ومجتمعاتنا إلى كيانات وتعبيرات مشوهة، تسوّق تحت شعار “ديمقراطية المكونات”.

إن فهمنا لهذا الشعار ينطلق من فهمنا لطبيعة تحققه في الواقع الموضوعي (العراق ـ لبنان ـ فلسطين) وهو تحققٌ واقعي لواقع متخلف، تغلب عليه القناعات المتخلفة، ساهم في إنتاج تكوينات غير قابلة للاستمرار، لكنها في الوقت نفسه قادرة على تدمير المجتمع وتحطيم الوطن، وبالتالي فإننا نرى أن هذا الشعار ـ ديمقراطية المكونات ـ يحمل تناقضاً في داخله، من حيث أن الديمقراطية لا تقوم إلا على مفهوم المواطنة الذي يشمل أفراد المجتمع وتشكيلاته كلها، ويكون ولاء الجميع للدولة التي تعطي الهوية، ويكون ناظم الولاء للدولة هو الدستور، في حين أن الأديان والطوائف والقوميات ما هي إلا تشكيلات اجتماعية ما تحت سياسية، وكل محاولة لإسناد وظيفة سياسية لها ـ سواء بتشكيلها في حزب سياسي أو كيان طائفي أو ديني أو قومي ـ هي بالمحصلة إلغاء لفكرة المواطنة، وتقويض لفرص إقامة علاقة المواطن/الدولة، في مقابل تعزيز فرص ظهور علاقة المواطن/الطائفة .. وغيرها من العلاقات السلبية، وهذا ينسف من الأساس إمكانية قيام الدولة المدنية، أو العلمانية الحديثة، ويقوض بالتالي شعار وهدف “الدولة الوطنية الديمقراطية” التي نسعى جميعاً لتحقيقها والتمسك بها.

إن فهمنا لارتباط الوطني بالديمقراطي يمثل رؤية منسجمة مع هدف بناء مستقبل راقٍ لمجتمع عانى طويلاً من القمع والاستبداد وثقافة الإقصاء والإلغاء، بما يخدم هدف تطوير كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.

خامساً: يدخل في صلب فهمنا للمسألة الوطنية ارتباطها بأفقها الطبقي القائم، ولهذا نؤكد للمراهنين على إنهاء الاستبداد والقمع بالاعتماد على العامل الخارجي، وخاصة الأمريكي، بعد أن تبين إغلاق النظام لكل الأبواب الداخلية في وجه التغيير ـ ونحن هنا لا نخون أحداً ـ أن القناعة بفكرة عقم التغيير من الداخل يعود إلى وعي ملتبس ورؤية ناقصة، وهذا النقص والالتباس قاد هؤلاء إلى الابتعاد عن الموقف السياسي الصائب وتبني مواقف يشوبها الكثير من التعقيدات، ويغلب عليها الانفعال والكيدية والثأرية، وغير ذلك من المواقف اللا منطقية في العمل السياسي.

إن ضياع البوصلة في الرؤية البرنامجية الصحيحة لطبيعة النظام الاستبدادي وتوجهاته الرأسمالية، واعتماده في سياسته الاقتصادية على ما أنتجته العولمة، وانتهاجه اقتصاد السوق المزيّن بـ “الاجتماعي” سيقوده حتماً إلى الانخراط في السوق العالمية وما يقتضيه ذلك من متطلبات قاسية وخطيرة، وبالتالي سيؤدي إلى “لبرلة” سياسته الاقتصادية، وهو ما يؤدي في النتيجة إلى إفقار الشعب وتشكيل الإمبراطوريات المالية.

إن رؤيتنا لهذه المسألة تدخل ضمن فهمنا لارتباط المسألة الوطنية ببعدها الطبقي، وهذا يعني الاستقلالية عن السوق الرأسمالية، والتناقض العميق مع المنظومة الرأسمالية من منظور قوى العمل، وهذا لا يعني تشكيل كيان منفصل وغير متفاعل مع التطورات العالمية، وإنما هو رفض لكل مشاريع الهيمنة والحروب العدوانية، ورفض لكل استغلال، ومعارضة جذرية للاستبداد ونهب الطبقات الشعبية وإفقارها.

خاتمة: إن تاريخنا النضالي وقراءتنا الفكرية والسياسية، والمرارات التي عانينا منها، وتفاعلنا مع الواقع والمجتمع، وقدرتنا على إنتاج فهم نظري وسياسي كان دائماً يتوافق مع هذا الواقع ودلالاته، لأنه من الواقع وظروفه وملابساته وتعقيداته.

إن من يعي الواقع يستطيع أن يبحث في الحلول المنطقية، وأن يضع رؤية برنامجية صائبة، لأنه وانطلاقاً من قناعاتنا الفكرية بأن ما أنتجته الماركسية من أفكار ورؤى وفق المنهج الجدلي المادي التاريخي كان صحيحاً وصائباً، فإننا ننطلق في مقارباتنا لعلاقاتنا مع الواقع والمجتمع من هذا الفهم وهذا المنهج.

فإذا كانت المهمة الأساسية اليوم هي تحديد الرؤية البرنامجية لجملة المسائل المتعلقة بالتغيير الوطني الديمقراطي، فإن الأولوية بقناعتنا تتمثل في ضرورة تحديد أفق وممكنات هذه الرؤية، وتعقيداتها وملابساتها وظروفها، والقوى الفاعلة فيها، وآليات العمل لتحقيقها، ولهذا نعتبرها مهمة وطنية مرتبطة بالداخل السوري وقواه السياسية والمجتمعية، بعيداً عن أي تدخلات خارجية تهدف إلى تفتيت المجتمع وتمزيقه تحقيقاً لمصالحها في الهيمنة.

إن القوى السياسية والمجتمعية السورية مطالبة اليوم وقبل أي شيء آخر بتوضيح الموقف انطلاقاً من هذه الملامح والوقائع والحاجات، وكل ذلك باعتماد الحوار الجاد، وتجاوز كل الالتباسات التي حصلت وقد تحصل، لكي نفوت على كل أعداء الوطن فرصة تمرير مخططاتهم.

** * **

الآن

نشرة غير دورية تصدر عن حزب العمل الشيوعي في سورية

العـــــــدد (49) آذار 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى