صفحات العالمميشيل كيلو

واقع عربي محزن!

ميشيل كيلو
أعلن قبل أسابيع رقم مذهل يقول إن 40 % من العرب (140 مليون إنسان) يعيشون تحت خط الفقر. وكان قد أعلن قبل أيام قليلة، رقم آخر يقول، إن 11% من مواطني المملكة العربية السعودية فقراء.ثمة، في هذا السياق، شيء لا يحتاج إلى إعلان، يعرفه ويلمسه كل مواطن عربي، هو أن شروط حياة البشر في وطننا العربي تتردى بسرعة، وأن الفقراء يزدادون عددا، ويشكلون قاعدة مجتمعية واسعة تضم الأقسام الكبرى من المنتمين إلى عالم العمل والإنتاج والإبداع، وتشمل القسم الأكثر عددا من العمال والفلاحين، وقسما متزايد الاتساع من الفئات الوسطى، التي يسقط أبناؤها بسرعة نحو قاع المجتمع، وينضمون إلى عالم الذين لا تكفي قوة عملهم لتأمين عيش مقبول، حتى لا أقول، لائق، لهم ولأسرهم، علما بأن إفقار القوى العاملة والطبقة الوسطى يعني إفقار المجتمع، مهما كانت ضخامة ثرواته وكائنا ما كان حجم ما يمتلكه من ودائع واستثمارات، وتشوه اقتصاده، الذي يقوم على فئة مالكة محدودة وضيقة، مهما كان استثمارها باذخا وتبذيريا، بينما الأصل أن يقوم على القوى التي تبيع جهدها في سوق العمل، وقوى الطبقة الوسطى المبدعة والعاملة والمدخرة، التي تمكن أجورها العادلة الاقتصاد الوطني من إنجاز دورة اقتصادية داخلية، تتشابك وتتكامل فيها قطاعاته المختلفة، وتزيد مدخراتها ثروات وطنها زيادة مضطردة، ويشغل استهلاكها عجلة الاقتصاد في الريف والمدينة.
بينما يعني تركيز الثروة في يد قلة وجود حلقات مفقودة والانقطاع في الدورة الاقتصادية الوطنية، وقيام التكامل الاقتصادي على علاقة برانية، حدها الأول قلة من المالكين في الداخل، وحدها الثاني أسواق واقتصاد الخارج، مع ما في هذا من تهديد لاستقلال البلاد العربية، ووضع لثرواتها في تصرف الغير، بدلا من وضعها في خدمة شعب ينتج الجزء الأكبر منها، دون أن يصله شيء يعادل عمله وتضحياته من عائدها.
مثلما تمارس السياسة في أوطاننا قلة تقبع فوق، تمتلك الثروات قلة تقبع بدورها فوق، تنتمي على الأغلب إلى القلة الأولى أو تتداخل معها، فالوطن العربي ليس، سياسيا واقتصاديا / اجتماعيا، وطن العرب. المشكلة التي تواجه أمتنا تتلخص في تحويله إلى وطن لمواطنيه، المحرومين اليوم من حقوقهم ونواتج عملهم، والذين يعملون ويكدحون بصبر من أجل لقمة عيش لا تني تبتعد عنهم وتتضاءل، وحقوق لا يتوقفون لحظة عن دفع ثمنها من حياتهم، دون أن يحصلوا على شيء في الحالتين، فلا الذي يعمل بصمت وتفان يصله أجر عادل مقابل عمله، ولا الذي يطالب بحقوقه وحقوق مواطنيه ينال شيئا غير العقاب والعذاب والتشرد، حتى ليمكن القول إن عالمنا العربي يشبه اليوم هرما مقلوبا يقف على رأسه، يقيم توازناته وممارساته وأفكاره ومصالحه على قبضة محدودة من مواطنيه، يشكلون رأس الهرم، بينما أغلبية الشعب، التي تبلغ في حالات كثيرة قرابة ثمانين بالمئة منه، معلقة في الهواء، تعاني الأمرين من أجل لقمة العيش وشيء من الحرية، وتفتقر إلى أي دور في حياتها.
ويزيد الأمور صعوبة واستفحالا أن المشكلة ليست طبقية، بل هي اجتماعية، وأنها لا تتركز على جهة بعينها، بل هي تطال المجتمع في معظم فئاته، حتى تلك التي لم يولد أفرادها بعد. لو أخذنا واقعنا على حقيقته، لوجدنا أن الشباب بين سن الخامسة عشرة والثلاثين يشكلون حوالى سبعين بالمئة من مجموع العرب، وأن نسبة العاطلين عن العمل منهم تتراوح بين خمسين (في معظم بلدان المشرق العربي) وسبعين بالمئة (في معظم بلدان المغرب العربي)، فإذا أضفنا إليهم عدد النساء غير العاملات ( 80 % من النساء عاطلات تعملن في بيوتهن ولا تعتبرن من القوى العاملة)، ومن يعلمون في قطاعات غير منتجة كالمكاتب الحكومية (قالت صحيفة البعث السورية ذات سنة ان الموظف السوري يعمل 32 دقيقة في اليوم) والذين يتلقون أجورا دون أن يكون لهم مكان حقيقي ومنتج في عالم العمل، وأضفنا إلى هذا كله أن المواطن يبدأ العمل في سن متأخرة ويتركه في سن مبكرة، وأن إنتاجيته تبقى جد متدنية طيلة فترة عمله، أدركنا حجم المصيبة التي نحن فيها، والتي لا يلتفت أحد إليها، لأن من معه يظن أن جميع الخلق معهم، والمتخم يعتقد أن الجياع يأكلون البسكويت والكاتو، حين لا يجدون الخبز، ويكابر حين يقال له إن في بلده عاطلين عن العمل، فينزل بأعدادهم إلى 6 أو 7 % من القوى العاملة، كما ينزل بعدد من هم تحت خط الفقر إلى ما تحت العشرة بالمئة، ليوهم نفسه ومن لا مجال لإيهامهم بأي شيء، أنه يخدم الشعب ويفعل ما هو صائب وصحيح، ويتقاسم الثروة الوطنية مع مواطنيه !.
ثمة هنا ملاحظات عديدة يجب التوقف عندها، لإظهار المدى الذي بلغته المشكلة الاقتصادية / الاجتماعية العربية .
هناك خلل بنيوي بين البلدان العربية، يجعل أقلها سكانا أكثرها ثروات وغنى، والأكثر سكانا فقيرا إلى حد الندرة في ثرواته وموارده. وهناك تفاوت هائل في مستويات العيش بين البلدان العربية، وتفاوت هائل بين مواطن عربي وآخر، وتفاوت أشد هولا بين المواطنين داخل كل بلد عربي. تحدث هذه الضروب المتنوعة من الخلل، بينما نملك أموالا لا يعرف مقدراها إلا الله، وثروات متنوعة ليس لدى غيرنا مثيل لها، أهمها الإنسان العامل والمنتج، صاحب الخبرات الفريدة وباني الحضارة خلال آلاف السنين. غير أن مالنا لا يفيدنا، وثرواتنا تهدر وتبدد، بما فيها قوة عمل الإنسان وخبراته الروحية والحضارية، ويكفينا خزيا أن مليون دماغ عربي يعمل في الخارج، مع أن إعدادهم كلف مليارات الدولارات، لأننا لم نجد لهم مكانا في أوطانهم، فهاجروا وضاعت الأموال التي أنفقت عليهم. ليس الوضع بأفضل حالا بالنسبة إلى مواردنا الطبيعية من أراض ومياه ومواد أولية.
2- هناك تدهور كمي ونوعي في أوضاع بلداننا الاقتصادية والاجتماعية بالمقارنة مع حقبة الخمسينيات من القرن الماضي. آنذاك، كانت معظم بلداننا بلا ديون خارجية، وكان الاكتفاء الذاتي الزراعي عاما على وجه التقريب (باستثناء ثلاثة بلدان). واليوم لا يوجد بلد عربي واحد ليس مدينا بصورة مفرطة للخارج أو في حالة عجز متزايد، وليس هناك اكتفاء زراعي ذاتي إلا في بلد أو بلدين، هذا إن صدقت الأرقام: يقال مثلا إن لدى سوريا اكتفاء ذاتيا في الزراعة، لكن سوريا تستورد بقرابة مليار دولار أميركي سنويا حاصلات زراعية وغذائية!. وسوريا في حال أفضل بكثير من أحوال معظم البلدان العربية وأكثر قربا من الاكتفاء الذاتي من غيرها.
هناك تراجع سريع لحصة العرب في إنتاج وتجارة العالم، في حين أم مالهم في معظمه نفطي المصدر، حصلوا عليه من بيع نفطهم في السوق الدولية. ولو ترك العرب لمواردهم الزراعية والصناعية لهلكوا جوعا دون أي شك .
رغم كل ما يقال، ليس التكامل الاقتصادي العربي واعدا، والدورة الاقتصادية العربية خارجية الطابع في معظم البلدان العربية، لأسباب منها ضعف الاقتصاد العربي واعتماده على منتج واحد غالبا، وعلى الاقتصاد العالمي، الذي تشكل تجارته معه نسبة تتراوح بين ستين وتسعين بالمئة من إجمالي تجارته. ليست الدول العربية الراهنة كيانات ناجحة اقتصاديا، إنها كيانات فاشلة لا تشعر بوجود المشكلة الاقتصادية من أساسها، وتواصل جميعها حديثها الأجوف حول «ثوراتها الصناعية أو الزراعية» وقيام السوق العربية المشتركة… الخ. في تقارير الخبرة التي تصف أحوال العرب، تتكرر دوما عبارة تنتقد أوضاع البنى التحتية العربية، التي تحملها التقارير جزءا وافرا من المسؤولية عن التأخر العربي. لا يضيع كتاب هذه التقارير وقتهم في الحديث عن أي شيء آخر من اقتصادنا، لاعتقادهم، بحق، أن الحديث عن الاقتصاد مجرد عبث فارغ، إن لم تتوفر بنية تحتية أصلا.
قال شاعر عربي (لبناني ) قبل نيف ومئة عام قصيدة يحذر فيها أمته من الموت الشتوي الذي هي فيه، جعل مطلعها :
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب.
هل هناك دعوة أفضل من هذه يمكن توجيهها بمناسبة الحديث عن حال العرب الاقتصادي والاجتماعي المأسوي الراهن ؟!.
كرمى لله: تنبهوا واستفيقوا أيها العرب!.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى