صفحات مختارةمازن كم الماز

تعليق على دفاع الأستاذ غياث نعيسة عن الماركسية الثورية

بقلم مازن كم الماز
في دفاعه عن الماركسية الثورية يردد الأستاذ غياث بتركيز كل الحجج التي حشدت تاريخيا لوضع الماركسية على رأس الحركة العمالية العالمية، منذ وقت مبكر رأينا الطريقة الماركسية الخاصة في مقاربة خصوم ماركس الفكريين والتي تربع بواسطتها ماركس على رأس الحركة العمالية العالمية، مع تحولها التدريجي إلى هرم يتصاعد و ينشد من الأسفل إلى الأعلى برباط يقوم على أولوية و عبقرية من هم في الأعلى، مع تشكل الأممية الأولى تاريخيا..بإعلانه كل ما هو خارج عن طاعته على أنه طوباوي أو برجوازي صغير كرس ماركس سلطته داخل الحركة العمالية العالمية، في كل خلافاته من صراعه ضد برودون في فلسفة البؤس إلى نقده للتيارات الاشتراكية السائدة في البيان الشيوعي إلى صراعه مع باكونين في الأممية الأولى التي كرس ماركس من خلالها الأساس الفكري لوضعه كسيد في الحركة العمالية العالمية، أنكر ماركس أية علاقة جدلية بينه و بين الآخرين و كما يفعل أي رجل دين وصم كل خصومه بالهرطقة و أصبح الكلام عن عبقريته تقليدا أو طقسا ضروريا لاستبدال الواقع و حركيته و جدله بحالة جامدة اعتبرت مطلقة خارج التاريخ هي أساس سيطرته المطلقة على الحركة العمالية العالمية، كان الحديث عن عبقرية ماركس و اكتشافه لقوانين النظام الرأسمالي يتعاظم و يتجاوز حتى الحدود التي استطاع ماركس أن يبلغها من خلال مقاربته الاستئصالية تجاه التيارات الاشتراكية الأخرى، كان هو البروليتاري مقابل برجوازية كل التيارات الأخرى أو منشئها الطبقي البرجوازي الصغير، وحده العلمي مقابل طوباوية بقية التيارات، كل هذا تحول فيما بعد إلى شيء أشبه بحقيقة أسطورية مطلقة غير قابلة للنقاش بل و حتى “بديهية” مع انتصار البيروقراطية الحزبية في الثورة الروسية 1917، أصبحت عملية وصم كل ما هو غير ماركسي بالهرطقة الطوباوية أو البرجوازية الصغيرة جزءا أساسيا من التبرير الفكري لسلطة البيروقراطية التي اعتبرت نفسها المثال الحي لديكتاتورية البروليتاريا، و هكذا انتقلت النخبة المتحكمة بالحركة الماركسية العالمية “العلمية” و “البروليتارية” من أطروحة إلى أخرى استنادا إلى الأساس الذي لا يأتيه الباطل الذي وضعه ماركس و كرسه كسلطة عليا داخل الحركة العمالية العالمية، من مركزية الحزب كممثل سياسي للطبقة العاملة إلى فكرة ديكتاتورية البروليتاريا إلى المركزية الديمقراطية إلى إمكانية بناء الاشتراكية في بلد واحد، معززة سلطة ماركس الفكرية داخل الحركة العمالية و خالقة بذلك سلطة سياسية شديدة المركزية تدعي العصمة لأنها ماركسية، علمية و بروليتارية، يمكن لمن عاش في دول المنظومة التي كانت تسمي نفسها بالاشتراكية أو من عاش و يعيش في دول الممانعة أن يرى هذه السلطة و هي حية تحول كل مفاهيم العدالة و البروليتاريا و المقاومة ليس فقط إلى شيء مغترب عن الواقع بل إلى مصدر لاستلاب الناس و تأبيد سلطتها الديكتاتورية، من المؤكد أن الخلاف بين بعض التروتسكيين من الجيل الأول و الثاني مع تحليل تروتسكي للستالينية مثل جزءا هاما من رغبة الكثيرين في الحركة العمالية العالمية تجاوز محدودية هذا النقد التروتسكي إلى فضاءات أوسع تضع كل شيء على المحك دون تردد ، هكذا مثلا كان الإنتاج الفكري لمجموعة اشتراكية أو بربرية الفرنسية و التضامن الانكليزية و الأممية الموقفية عبارة عن محاولات لإعادة تفسير الماركسية ثوريا و بشكل يقلب منطقها السلطوي رأسا على عقب إلى منطق يقوم على أولوية الحرية و الإنسان، لنذكر جيدا هنا الوضع كما شرحه الستالينيون في أوج قوتهم : العدالة هي كل شيء، و الحرية إما ثانوية أو تأتي في مرحلة لاحقة، أما الهدف المركزي – العدالة فهي مرتبطة بشكل مطلق و إجباري بسلطتهم الديكتاتورية.
في سوريا كان بكداش مشهورا بعباراته عن الوحدة الفولاذية للحزب وراء قيادته “الحكيمة”، هذه الوحدة التي عنت حقه المطلق في شطب و طرد من يشاء و تشكيل منظمات موالية لشخصه، و حقه المطلق في القيام بأية مساومات فوقية مع القوى الأخرى و حتى المعادية ما دام يلتزم بتوجيهات الشقيق الأكبر السوفيتي.
إن بناء الاشتراكية من الأسفل لم يكن لسوء الحظ تقليدا ماركسيا، تقوم الماركسية على تراتيبة هرمية صارمة جامدة، ليست عبادة ستالين التي سميت بعبادة الفرد إلا شكلا متوحشا و همجيا منها، ليست القضية في الأسماء، لا توجد مشكلة لا في اسم تروتسكي أو ماركس أو ستالين أو حتى ابن تيمية، القضية هي في الجوهر في المضمون، إذا أراد الأستاذ غياث اشتراكية من الأسفل فهو سيحتاج للناس العاديين أولا، سيحتاج إلى أوسع حرية تمنح لهم، لا إلى مؤسسات هرمية تتبع فيها القاعدة القمة ككل المؤسسات الطبقية السائدة حتى اليوم التي تخدم بالضرورة مصالح الطبقة السائدة، نحتاج إلى مقاربة تعتبر هؤلاء الناس العاديين المرجعية الأولى و الأخيرة و ليست أية نخبة تحتكر حق التحدث باسمهم، ليست القضية هنا أن نثبت أن تروتسكي أو ماركس أو حتى روسو أو ربما باكونين هو من اخترع تعبير الاشتراكية من الأسفل، الضروري أن نحدد الاشتراكية من الأسفل أولا كهدف وحيد يستحق النضال من أجله، هذا هو الاستنتاج الأساسي من سقوط الأنظمة الستالينية و من انحطاط أنظمة رأسمالية الدولة المحلية في مجتمعاتنا، و هذا هو الهدف الوحيد الجدير الذي يستحق النضال سواء ممن يسمي نفسه اشتراكيا أومن الناس العاديين،
و أن نعرفها ثانيا على أنها سلطة الناس العاديين المباشرة على حياتهم دون أية وصاية من أي كان هذه الوصاية التي ستعني في واقع الأمر ديكتاتورية هذه النخبة على المجتمع، هنا أنا لا أفهم الأناركية أو الفوضوية على أنها دين جديد أو عقيدة مطلقة الصحة بشر بها أنبياء أكثر عبقرية من ماركس أو أنبياء بقية الأديان، على العكس تماما، نعرف مثلا أن أوغست كومت قد اقترح استبدال الأديان السماوية بدين أرضي، دين إنساني كتعبير عن مضمون التنوير البرجوازي المعادي للدين، لكن الدين يعني السمع و الطاعة، أي دين، يعني أن البشر غير متساويين و أن هناك بشر هم الأغلبية يحتاجون إلى أن يحكمهم و يقرر لهم آخرون استنادا إلى مبررات جديدة، هذا ضروري بالنسبة لكومت فالديمقراطية البرجوازية لم تكن إلا عملية إنتاج سلطة سياسية تعبر عن الطبقات المهيمنة اجتماعيا، أي الرأسمالية، الأناركية كما أراها هي النفي الكامل للتبعية، للاضطهاد و للقهر و الاستغلال بأي شكل تخفى، الأناركية كما أفهمها هي نفي لفكرة السمع و الطاعة ذاتها ، أي لجوهر الدين نفسه و ليست لدين مثالي أو إقطاعي فقط، نفي لجوهر تبعية الإنسان للإنسان، عبودية الإنسان للإنسان، الأناركية ليست بهذا المعنى دينا جديدا، سلطة جديدة، إنها نفي الدين و السلطة بهذا المعنى، ليست نفيا بمعنى الإلغاء القسري و قمع أتباعه، بل بمعنى ألا يكون أي دين، أرضي أو سماوي، مبررا لأية امتيازات يدعيها أي كان، مبررا لأن يتحكم هؤلاء بالمجموع، أي بمعنى السلطة فوق البشرية، لا تحتاج الأناركية لنفي الدولة، إن ما ترفضه هو إدعاء أي فرد أو مجموعة أو أقلية أحقية حكم و توجيه الآخرين و بالتالي استغلالهم و اضطهادهم، و بالتالي فالمجتمع الذي تعتبر أنه يمثل بداية تحقق الحرية البشرية هو مجتمع يحكم فيه البشر أنفسهم عبر مؤسسات ديمقراطية يكون فيها اتخاذ القرار حرا يعبر عن إرادة كل فرد و المجموع بالضرورة، إن إمكانيات الحرية البشرية غير محدودة، يثبت الإنسان اليوم أكثر من أي وقت مضى الفضاءات الرحبة التي يمكن للحرية أن تفتحها له، لكن هذا يصطدم اليوم أكثر من أي وقت آخر بكل العقائد التي تريد أن تقسم البشر إلى حكام و محكومين، إلى سادة و عبيد، إلى بشر نخب أول و بشر نخب أخير، ليس باكونين وفق هذه الرؤية نبي جديد ، لا يخطأ أو لا يقول الترهات كأي إنسان آخر ، بل هو إنسان جدا بكل ما يعنيه هذا من عظمة و تفاهة، هو باحث لا يكل عن الحرية، ضمن الظروف التي عاشها، هنا تكمن عبقريته و هذه الثورة هي ما تلهمنا نحن الأناركيين، أما أفكاره فهي ليست مطلقة و لا صحيحة بالضرورة، و الأهم من ذلك أنه ليس سيدا على أحد، ليس سيدا يملك أي امتيازات أو حقوق تتجاوز ما يملكه أي إنسان آخر، على العكس من محاولة ستالين مثلا لي ذراع الديالكتيك بإعلانه أن التناقضات في المجتمع الاشتراكي غير تناقضية، و بالفعل فقد جرى حل هذه التناقضات بالحديد و النار، هذا المجتمع لا يمكن أن يمر بمرحلة انتقالية لسبب أساسي أن أية نخبة سوف توكل بمهمة تحرير المجموع ستعمل بالضرورة على تأبيد امتيازاتها إلى الأبد إن استطاعت، لذا يجب من اللحظة الأولى بعد الثورة تدمير كل المؤسسات السلطوية التي تقوم على تحكم أقلية بالمجموع، و كل المؤسسات التي تقمع المجموع لصالح الأقلية الحاكمة مهما كانت ، و استبدالها بمؤسسات قاعدية شعبية تقوم على أقصى ما يمكن من الحرية الفردية و العامة دون امتيازات يختص بها أي كان و ستتطور هذه المؤسسات نفسها نحو المزيد فالمزيد من الحرية للجميع و نحو المزيد من تحقق الإنسان الفردي و الجماعي دون نهاية، هنا يطلب منا الاشتراكيون العلميون الذين يستهترون جريا على مقاربتهم السائدة للتيارات الاشتراكية بدعوات بعضها إلى الارتكان إلى النوايا الطيبة للسادة بأن تركن البروليتاريا إلى النوايا الطيبة لسادتها الجدد، أي لهم : أو رأس الهرم التنظيمي السياسي الماركسي “الطليعي” الذي سيقودهم إلى بر الأمان بكل إخلاص و الذي يجب لذلك أن يتمتع بإمكانيات استثنائية في مواجهة الثورة المضادة ( المقابل النظري للكفار الأعداء في الأديان السماوية ) أي باختصار بوضعية الديكتاتور المطلق، لذلك فإن أية مرحلة انتقالية ستكون إيذانا بنضالات جديدة ضد النخبة الحاكمة الجديدة و ضد ديكتاتوريتها، دعونا نعود من جديد إلى الاشتراكية من الأسفل، الهدف الوحيد الذي يستحق أن نعتبره هدف اليسار الجديد المولود من رحم كل هذا الكم من القهر الفكري و المادي و العقلي الذي أنجب ديكتاتوريات كريهة فاسدة بل و مرعبة و أدى إلى هزيمة تاريخية للحركة العمالية العالمية، ليست القضية اليوم في أن تكون أناركيا أو فوضويا أو تروتسكيا أو أي شيء آخر، أو في الانتساب إلى أقلية نخبوية تزعم لنفسها وعيا أكبر مما حولها و تعتبر كونها أقلية دلالة على هذا الوعي المتفوق و الذي سينتهي بها بالتالي إلى إعلان ديكتاتوريتها كشكل وحيد للحكم المستنير أو الرشيد، فحكام أنظمة رأسمالية الدولة و أزلامهم اليوم هم أيضا أقلية تشتم علنا أو سرا من كل الناس، ليس هذا هو معنى بناء الاشتراكية من أسفل، قسم اليسار اللا ستاليني في فترة ما بعد الحرب بين مادية و مثالية غير نقدية و مادية و مثالية نقديتين، كان من الواضح أن الستالينية قد روجت لشكل غير نقدي من المادية كما يفعل اليوم مثلا الليبراليون منظرو العولمة الرأسمالية في مواجهة عدوهم الأصولي، إن القضية اليوم هي في أن نطور قدراتنا و مواهبنا النقدية لكل شيء، و أولا لكل ما كان حتى اليوم مسلما بديهيا، أبسط ما يمكن قوله مثلا عن الحديث عن علمية ماركس و طوباوية غيره أن هذا ليس فقط مجرد ترديد لمقولات سائدة، بل إنه غير علمي بالمرة و أكثر من طوباوي، إنه وهم، و حتى زيف خدم أسوأ الديكتاتوريات حتى اليوم و استخدم بنجاح لطمس ليس فقط الديالكتيك نفسه بل و حتى الحلم الإنساني بالحرية، قد تكون مهمة التحول من خريجين في المدرسة الستالينية أو المجتمع الأبوي البطريركي الذي نحيا فيه إلى باحثين نقديين عن الحرية و الحقيقة مهمة صعبة رغم أنه يمكن دوما المراهنة على الحلم الإنساني الأزلي بالحرية و العدالة و على الرغبة المكبوتة بالتحرر حتى وسط أسوأ حالات القمع و القهر و الاستلاب، قد يكون من الممكن في كل الأحوال أن ننقل خلاصة تجربتنا و نضالنا للشباب، أن نربي عندهم الحذر الشديد من أية بادرة و علامة على القمع الفكري و السياسي، من أي شكل لتهميشهم و تحويلهم إلى أتباع، و فرض السمع و الطاعة عليهم، قد نكون المبشرين بجنس جديد من البشر وصفه نيتشه و الكواكبي بشغف، جنس من البشر الأحرار يأنف من العبودية و لا يقبل إلا بالحرية، تذكروا أن نيتشه وصف ظهور هذا الجيل الجديد من البشر بالمعجزة الأكبر في تاريخ الإنسان، هؤلاء سيبنون بداية عصر تحقق الحرية البشرية، حيث ستصبح الحرية و العدالة أكثر من مجرد شعارات أو أحلام تداعب الملايين، على العكس من رغبة الماركسيين العلميين بالترويج لسلطتهم الفكرية السياسية كبديل عن السلطة القائمة و التي ستستمر إلى ما شاء الله مجرد سلطة كغيرها تستعبد المجموع كأتباع ملزمين بالسمع و الطاعة أو ربما أسوأ : شكل أكثر شراهة للسلطة و حتى للقمع من سواه، فإن الأناركية تروج لهذا التحول في حياة البشر، أي تحولهم جميعا إلى سادة دون عبيد ، لهذا أنا اليوم أناركي، أي مجرد باحث عن الحرية وسط كل هذا القهر، و لست داعية لأي سيد مهما بدا مخلصا أو أقسم هو و كل أزلامه على ذلك أغلظ الأيمان………..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى