صفحات ثقافية

غومورا” رواية وثائقية تكشف النقاب عن أمبراطورية المافيا اليوم

null
روبيرتو سافيانو يفضح مآثم “عامورا” الإيطالية فيحكم عليه أسيادها
بالإعدام مع وعد بالتنفيذ قبل عيد الميلاد
“علينا جميعًا أن نناضل من أجل سافيانو. على الدولة الإيطالية ألا توفّر جهداً من أجل حمايته ومن أجل إلحاق الهزيمة بالـ”كامورّا”. إنها التوصية التي وقّعها في 20 تشرين الأول الجاري ستة من حائزي جائزة نوبل: ميخائيل غورباتشيوف، داريو فو، غونتر غراس، ريتا ليفي مونتالشيني، أورهان باموق، وديزموند توتو، والتي جاءت تضامنا مع الكاتب الإيطالي روبيرتو سافيانو، الذي هدّدته المافيا بالقتل، لأنه تجرّأ على فضح أعمالها وارتكاباتها وامتداداتها، بالأسماء وبالأرقام، وقام بنشر ما جمعه من وثائق ومعلومات في هذا الشأن في كتابه “غومورا”– رحلة في الأمبراطورية الإقتصادية وحلم سلطنة الكامورّا”(•). والعنوان “غومورّا” هو في الوقت عينه، الترجمة الحرفية لكلمة “عامورا”، وتحريف لكلمة “كامورّا” وهي واحدة من عائلات المافيا الإيطالية التي تتخذ من مقاطعة كامبانيا وعاصمتها نابولي، معقلاً لها.
الكتاب هو أول إصدار لسافيانو، المتخرج في كلية الفلسفة في جامعة “فيديريكو الثاني” في نابولي حيث ولد عام 1979 وحيث أقام حتى عام 2006، تاريخ صدور كتابه، الذي بدّل حياته، فبات يعيش متخفّياً ومتنقّلاً بالسرّ تحت حماية نخبة من رجال الأمن لا يفارقونه البتّة، علّه بذلك يتّقي شرّ انتقام “الكامورا”، من دون الكفّ للحظة واحدة عن مواصلة “مقاومته عبر الكلمة” المكتوبة تارة في مقالاته المنشورة في عدد من أهم الصحف والمجلات الإيطالية والعالمية، والمسموعة طوراً عبر مشاركته في أهم التظاهرات الأدبية والحوارات الإعلامية، منابر يعتليها سافيانو لمواصلة الهجوم على “النظام” ـ المافيا… هذا ما كانت عليه حياة الكاتب في العامين الماضيين، إلى أن كشف أحد أعضاء المافيا الموقوفين لدى السلطات الإيطالية، في أوائل شهر تشرين الأول الجاري،  عن مخطّط للتخلّص من سافيانو قبل عيد الميلاد المقبل، لتأخذ حياته مرة أخرى منعطفاً جديداً، ويقرّر مغادرة إيطاليا. فجاءت رسائل التضامن والتشجيع والإستنكار من كل حدب وصوب، ولم يشكّل نداء الستة الحائزين جائزة نوبل، إلا الحلقة الأخيرة (حتى الساعة) من سلسلة الرسائل الشاجبة لذاك الخطر الداهم.
“فليذهب النجاح إلى الجحيم! أريد حياة. أريد منزلاً. أريد أن أغرم، أن أشرب كوبا من البيرة في الأماكن العامة، أن أقصد المكتبة لأختار كتاباً بهدوء بعد قراءة الملخّص على الغلاف. أتوق إلى القيام بنزهة، إلى التمدّد تحت أشعة الشمس، إلى القيام ببضع خطوات تحت المطر. أودّ رؤية والدتي من دون خوف ومن دون أن أرعبها في كل مرة. أحتاج إلى وجود أصدقائي من حولي، إلى تبادل الأحاديث والضحكات معهم، من دون أن اكون أنا دائما محور الحديث، كما لو كنت مريضاً على فراش الموت ولا بدّ لهم من عيادته. اللعنة! عمري ثمانية وعشرون عاماً فحسب!”
“كفى!” أطلقها الروائي الإيطالي الشاب روبيرتو سافيانو قبل أيام قليلة عبر صفحات جريدة “لا ريبوبليكا”، مطالباً باستعادة حياة فقدها في أيار 2006، مع صدور كتابه بنحو خمسة آلاف نسخة متواضعة. ولكن “غومورّا” سرعان ما استحوذ على اهتمام القرّاء، بفضل طبيعته الهجينة التي جمعت الرواية بالوثائقي؛ فالكتاب يروي ويصف ببرودة واقع الأرض التي فيها ولد سافيانو، ابن نابولي ذو السبعة والعشرين ربيعا، الذي تجرّأ في روايته الوثائقية هذه على فضح “النظام” المتمثّل في زعماء الجريمة المنظمة و”عالم الأعمال” الخاص بهم، فاتحاً عيون الإيطاليين على ظاهرة كانت حتى تلك اللحظة، مغمورة، وضامناً لنفسه بذلك موقعاً أكيداً على لائحة “أعداء المافيا”.
تحدٍّ للمافيا
على مسافة أربعة أشهر من تاريخ الصدور، وما إن بدأ الكتاب يخطو خطواته الأولى على درب النجاح الضخم الذي ينتظره، والذي لم يكن أحد يتوقعه بعد، حتى لبّى سافيانو دعوة إحدى المدارس في بلدة كازال دي برينشيبي ليقدّم كتابه في مناسبة افتتاح العام الدراسي. هناك، وتحديدا في الموطن الأم لزعماء عائلة “كامورا”، شنّ سافيانو هجوماً عنيفا على “النظام” وسمّى زعماء المافيا وأعوانهم بالإسم داعياً الطلبة إلى التمرّد عليهم وقال: “سكيافوني، يوفيني، زاغاريا، أنتم لا تساوون شيئاً! أيها الشبان، أذكروا أسماءهم بالصوت العالي، حتى هنا، في أرضنا، هؤلاء ليسوا من هذه الأرض، إنهم يغتصبونها، إنهم يسيئون استعمالها. أطردوهم!”
أثار خطاب سافيانو هذا  الدهشة والصدمة والإعجاب، ولكنه أثار أيضاً سخط الزعماء، ومنذ تلك اللحظة، تبدّلت حياة سافيانو إلى الأبد، لم يعد مجرّد إسم على لائحة أعداء المافيا بل تحوّل إلى عبء، إلى خطر؛ حلّت عليه لعنة العائلة وصدر الأمر: “على سافيانو أن يموت”. فانهالت على الكاتب رسائل التهديد والترهيب بألوان مختلفة، ما اضطر وزير الداخلية يومذاك جوليانو أماتو إلى وضع سافيانو تحت حماية فرقة من رجال الأمن وإلى إبعاده عن نابولي، كتدبير احترازي. تدبيرٌ كان يفترض به أن يكون موقتاً فإذا به يستمر عامين كاملين وهو مرجّح ليطول أكثر بعد.
النجاح
وفي الموازاة، تحوّل “غومورّا” إلى حالة أدبية عالمية، استمرّ بحصد الجوائز الواحدة تلو الأخرى، تسلّم سافيانو أحدثها في المعرض الدولي الأخير للكتاب في فرانكفورت، حيث تقاسم مع المخرج ماتّيو غاروني جائزة “أفضل فيلم مقتبس من رواية أدبية”. باع الكتاب نحو مليون وثمانمئة ألف نسخة، تُرجم إلى أكثر من أربعين لغة في العالم، دخل لائحة “نيويورك تايمس” لأجمل مئة كتاب في العالم، وحوّله المخرج الإيطالي ماتّيو غاروني إلى فيلم سينمائي حمل العنوان نفسه وحصد “جائزة النقاد” في “مهرجان كانّ” لسنة 2008 وسيمثّل إيطاليا في حفل توزيع جوائز الأوسكار المقبل. وكان المخرج المسرحي النابوليتاني ماريو جيرالدي سبق له أن حوّل الكتاب إلى عرض مسرحي جال في أهم مسارح إيطاليا وحطّ رحاله أخيرا في مسرح “ليوناردو” في ميلانو.
سافيانو اليوم لم يعد ذاك الشاب المغمور الذي كان عليه قبل عامين، بل أضحى رمز “الحرب على المافيا”، في إيطاليا وفي الخارج، حتى ولو أن وزير الداخلية الإيطالي الحالي روبيرتو ماروني اعترض على هذه التسمية قائلاً “إنه أحد الرموز وليس الرمز”، مثيراً بذلك موجة اعتراض عارمة وسط الإيطاليين، ليعود فيوضح أنه بكلامه هذا إنما أراد تأدية خدمة لسافيانو والتأكيد له أن الدولة إلى جانبه وتؤمّن له أقصى درجات الحماية وأن محاربة الجريمة المنظمة لا تقع على عاتقه وحده. وبالفعل فإن دوائر الأمن في الحكومة الإيطالية، أوقفت في العامين الماضيين ولا تزال تلاحق عدداً من المتورطين في جرائم عدّة أعطت “الكامورّا” الأمر بالقيام بها أو أعدّتها أو نفّذتها، وكان سافيانو قد ذكرها في كتابه، إن على نحو مباشر أو غير مباشر. وقد تمثّل الإجراء الحكومي الأخير في هذا المجال بإرسال كتيبة من الجيش إلى بلدة كازال دي برينشيبي لتأمين الأمن للسكان، إلا أن سافيانو شكّك في فاعلية هذا التدبير معتبراً أن الطريقة الوحيدة للقضاء على المافيا في إيطاليا هي محاربتها اقتصادياً.
على سافيانو وحُماته الموت قبل حلول عيد الميلاد
فالمافيا في إيطاليا بالغة القوة، و”الكامورا” على سبيل المثال لا الحصر، فائقة القدرات، حيث تمكّن زعيمها، ساندرو سكيافوني الملقّب بـ”ساندوكان” ومن وراء قضبان سجنه، من توجيه تهديد جديد الى سافيانو، عبر إرساله بالفاكس رسالة إلى محاميه يدعو فيها ذاك “الروائي الكبير– من دون تسميته –  إلى التزام الصمت وإلى الكفّ عن تلفيق التهم وتوجيهها إليه”، واعداً بمقاضاته بتهمة القدح والذم. وجاءت تلك الرسالة غداة مشاركة سافيانو في مهرجان الكتاب في مانتوفا في الحادي عشر من شهر أيلول الماضي، حيث ألقى مداخلة جدّد فيها الهجوم على “الكامورّا” ودلّ بالإصبع على مطارديه الذين كانوا بين الحضور، لكن لم يُكشف عنها للإعلام إلا في منتصف الأسبوع الماضي، لتنفي لاحقاً إدارة السجن حيث يمضي ساندوكان عقوبته، أن يكون الأخير قد أرسل أي فاكس.
إلى ذلك، وفي منتصف شهر تشرين الأول، فإن كارميني سكيافوني، أحد أعضاء “الكامورا” “التائبين”، ـ ويقصد بهم رجال المافيا الذين وبعد القبض عليهم يوافقون على التعاون مع الشرطة والإدلاء بمعلومات تساعد التحقيقات، في مقابل التخفيف من العقوبات عليهم و/ أو تأمين الحماية لأفراد عائلاتهم خارج السجن ـ، كشف عن مخطّط أُعدّ وبات في انتظار التنفيذ، للتخلّص نهائياً من سافيانو ومرافقيه عبر تفجير موكبهم على الخط السريع الذي يربط نابولي بروما، قبل حلول عيد الميلاد المقبل.
سافيانو: “سأترك إيطاليا لأستعيد حياتي”
وكأن هذه المعلومة شكّلت النقطة التي فاض بها الكوب؛ إذ أنه حتى ولو أن “التائب” عاد وتراجع عن أقواله، إلا أن ذلك لم يثنِِ سافيانو عن قراره بمغادرة إيطاليا، “أقلّه لبعض الوقت، أظنّ بأنني أستحقّ فترة راحة… لطالما اعتقدت أن الخضوع لرغبتي في التراجع لم تكن فكرة جيدة، لم تكن على وجه الخصوص فكرة ذكية. اعتقدت أن من الغباء ومن غير اللائق التخلي عن الذات، والخنوع لحثالة الرجال، لأشخاص يحتقرونك بسبب أفكارك. وأعمالك وأسلوب حياتك… ولكنني في الوقت الحالي، لا أجد سبباً واحداً يدفعني للتشبّث بالاستمرار في العيش على هذا المنوال، أسير نفسي، أسير كتابي، أسير نجاحي”.  ويضيف سافيانو: “أريد أن أكتب وأن أكتب المزيد لأنني أعشق الكتابة، إنها طريقتي في المقاومة. ولكنني لكي أكتب، أنا في حاجة إلى إغراق يديّ في الواقع، إلى الإحساس به بكل جوارحي، إلى تنشّق رائحته وعَرَقه وليس إلى العيش في غرفة مبرّدة داخل ثكنة للشرطة ـ اليوم هنا وفي اليوم التالي على بعد مئتي كيلومتر ـ متنقلاً كما لو كنت مجرّد طرد، أجهل ماذا جرى وماذا يجري وما الذي يمكن أن يجري بعد. لا يمكنني مواصلة العيش في حالة من الضياع والمرحلية الموقتة الدائمين، هذه الحالة تمنعني من التفكير ومن التركيز على ما يجب عليَّ القيام به. أحيانًا أفاجأ بتسلّل الكلمات التالية إلى تفكيري: أريد استعادة حياتي! فأكرّرها بصمت الواحدة تلو الأخرى، بيني وبين نفسي”.
التضامن والتهكّم
قرار مغادرة البلاد أثار جدالاً عارماً وسط الإيطاليين، سافيانو كان قد تحوّل إلى رمز مناضل في وجه المافيا وها هو اليوم وملامح التعب بادية على محيّاه، بدأ يفكّر جدياً في التراجع ويصرخ مطالباً باستعادة حياته، ولم يرَ من حل أمامه سوى مغادرة ايطاليا. فانهالت رسائل الدعم والتضامن معه والدعوات إلى عدم الخضوع وإلى عدم التراجع ومواصلة النضال، بدأت من محبّيه لتصل إلى أعلى المناصب في الدولة، متخطيةً الحدود الإيطالية إلى ألمانيا التي قصدها الكاتب لتسلم الجائزة من معرض فرانكفورت الدولي للكتاب حيث التقى كاتباً آخر يشاركه مصير العيش تحت الحماية، الأديب التركي أورهان باموق الحائز جائزة نوبل للآداب عام 2006. أما الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي واضع “آيات شيطانية” فرأى أن تهديدات “الكامورّا” لسافيانو أخطر من الفتوى ضدّه، وشدّد على ضرورة أن يترك سافيانو إيطاليا داعياً إياه إلى اختيار مقرّ إقامته المقبل بحذر.
إلا أنه وفي المقابل، ثمّة في إيطاليا من لا يشارك سافيانو والحيّز الأكبر من الإيطاليين هذا القلق على حياته، وثمة من يرى في كتاباته وفي أقواله الكثير من المبالغة، ويذهب بعضهم إلى حدّ اتهامه بأنه شخص يسعى وراء الثروة وبأن الكتاب “غومورا” ليس إلا الوسيلة التي سمحت له بجمع ثروة ضخمة، على حساب تشويه صورة المدينة التي نشأ فيها، نابولي، والبلدات المحيطة، والسكان والناس. يروي سافيانو عن أحد معارفه الذي بادره بالقول عندما رآه يخرج من منزله برفقة رجال الشرطة الموكلين حمايته: “أخيراً نلت ما تستحقّه. ها إن الشرطة تعتقلك!”. وفي سياق مشابه يأتي تشكيك الكاتب والناقد والسياسي الإيطالي فيتّوريو سغاربي بصدقية التهديدات الموجّهة إلى سافيانو، معتبراً أنه لا يمكن “الكامورّا” أن تقتل نفسها بقتلها سافيانو، ويضيف أن المافيا لا تخاف الكلمة بل على العكس من ذلك، تخاف الدولة القوية، ذاهباً إلى حدّ الإقتراح على “الكامورّا” أن تقتله هو بدلاً من سافيانو، كونه هو أيضاً أحد المناضلين ضد المافيا بسلاح  الكلمة.
الوحدة
من غير الواضح بعد ما ستكون عليه خطوة سافيانو المقبلة، وأي مدينة سيقصد في حال مغادرته إيطاليا. لكنّ الأكيد حتى الساعة هو أن سافيانو سئم هذه الحياة، فعامان من العيش “تحت الحماية” هما بالنسبة إليه كالأعوام المئة التي عاشها في الوحدة آل بوينديا لغبريال غارثيا ماركيز. كل خطوة يخطوها، مصفّحة. “إنها الحياة التي تبدّلت بعدما قلتُ للعالم أجمع ما هي “الكامورّا”. قبل عامين كان سافيانو مقتنعاً بأن الأمر يستحق العناء. “ولكنه اليوم، لا يمرّ صباح لا يتساءل فيه عن السبب الذي دفعه للقيام بما قام به، لكن من دون أن يجد الإجابة، لم يعد يعرف ما إذا كان الأمر يستحقّ فعلاً كل هذا العناء”. ويقول سافيانو إن العيش تحت الحماية، جعلت منه رجلاً أسوأ مما كان عليه في السابق، رجلاً مهووس منغلقا على ذاته، يشتبه بكل ما يحيط به. “إذ أنه عندما تكون الحياة على المحك، يهيّأ إليك أنه لم يعد هناك من شيء حقيقي، وما من شيء مهم، لأن كل شيء يمكن أن ينتهي بين لحظة واخرى”.
لماذا وضع “غومورّا” حياة كاتبه على المحك؟
“غومورّا” عبارة عن دراسة معمّقة خطّها سافيانو بواقعية جذّابة ورومنطيقية أخّاذة، نقلها من تجربته الشخصية. فهو ولد ونشأ في أرض “الكامورّا”، ترعرع وسط عالم أعمالها ونضج على وقع كل جريمة ارتكبتها بغية المحافظة على رأسمالها. ساهم هو أيضاً في بداية نشأته بهدم جدران الشقق في العمارات المقابلة لمرفأ نابولي، لتحويلها إلى مخازن للبضاعة الواردة والتي يجب ألا تخضع للتفتيش الجمركي، في مقابل تأمين سكن له. ومن هناك بدأ ينسج خطوط روايته الوثائقية تلك، كاشفاً النقاب ليس عن “الكامورّا” فحسب بل عن المجتمعات الرأسمالية جميعها سواء في إيطاليا أو في العالم أجمع. ومع كل صفحة جديدة من صفحات الكتاب، تتكشّف أمام القارئ القدرات الفائقة التي تتمتّع بها الجريمة المنظّمة في عالم الأعمال وفي العلاقات العامة، حيث تُمحى كل الحدود ما بين المسموح والممنوع، وترتكب شتّى أنواع المخالفات وحتى، في كثير من الأحيان، التصفيات، في غياب الحسيب والرقيب، إما خوفاً من موت محتّم، وإما عبر غضّ النظر في مقابل بعض الإمتنان من العائلة، وإما عبر إسكات، ولمرّة نهائية، كل من يجرؤ على التعمّق في الإستفسار. سافيانو لم يكتب سيناريو فيلم لتنتجه هوليوود. سافيانو نقل الواقع بدقة عالية، من قلب ساحة الحوادث، من مرفأ نابولي “باب عبور الصناعات الصينية إلى أوروبا”، من المحال التجارية ومن مصانع “العائلة”، مروراً بشهادات حية وببعض الأساطير. كشف “غومورّا” ألغاز “النظام”، خفايا منظّمة كانت شبه مغمورة، لا بل مهزومة ومنتهية في اعتقاد كثيرين، فإذا بها  تنمو وتكبر بصمت لتصبح قوة هائلة، فاقت بأعداد المنضوين تحت لوائها وبأرباحها، سلطة عائلة “كازا نوسترا”، المافيا التي انطلقت من صقلية وعبرت البحار زارعة الرعب أينما حلّت، حتى في قلب الولايات المتحدة.
سرد سافيانو في روايته – الريبورتاج، من أول سطر إلى آخر سطر فيها، سيرة حياة “البضاعة” بتصنيفيها: “الطازجة” أو الحديثة الولادة ومنها أزياء المصممين الإيطاليين والفرنسيين والساعات والأحذية (التي تصل من الصين أو من بنغلاديش مع علامة صنع في إيطاليا ملصقة عليها، عمليات تهريب بمليارات الأورو) والمخدرات والإلكترونيات وسواها… إلى البضاعة “الميتة” الصادرة من مختلف أنحاء إيطاليا ومن منتصف بلدان أوروبا، ومنها النفايات الكيميائية والوحول وحتى الهياكل العظمية البشرية التي تفيض بها المقابر، التي تجد في أرياف مقاطعة كابامبانيا مدفناً لها، “فتلوّث من جملة ما تلوّثه، الأرض نفسها التي يبني عليها زعماء المافيا قصورهم الفاخرة.
“غومورّا” تحقيق بالغ الدقة بأسلوب روائي يسمّر القارئ أمام واقع واضح ومذهل في آن واحد، فيعي هذا القارئ مدى امتداد النظام الجريمي، جغرافياً واجتماعياً. فهو لا يشمل الجنوب الإيطالي فحسب، بل تمتدّ جذوره أيضاً إلى مؤسسات الشمال الإقتصادية. ويبرز سافيانو تغلغل المافيا العميق داخل المجتمع الإيطالي، بدءاً من السياسيين الذين لا يرون (أو لا يريدون أن يروا) إلى المستشارين في البلديات والأقضية والمحافظات، إلى رجال الأعمال الذين يتعاملون مع  شركات مرتبطة بـ”النظام” من دون أن يتساءلوا عن مبرّر أسعارها المنخفضة للغاية. ولكن “غومورّا” يشمل أيضاً الكنيسة الكاثوليكية من خلال “بعض آبائها الذين يفضّلون إزاحة نظرهم وعدم تأدية رسالتهم المسيحية”، على عكس ما قام به الأب بيبينو ديانا الذي دفع حياته عام 1994 ثمنًا لوقوفه في وجه الجريمة والعنف،  في وجه “الكامورّا”.
سافيانو يفنّد ذلك كله في كتابه ويقول “أنا أعرف ولديَّ الأدلة” ويضيف “أعرف من أين تنشأ الثروات ومن أين تستقي رائحتها. رائحة السلطة والإنتصار. أعرف من أي جبين ينضح عرق الربح الوفير. أنا أعرف. والحقيقة التي تغلّف الكلمة لا تأسر، لأن كل ما يُلتهم يترك دليلاً”.
لكل هذه الأسباب مجتمعة، بات سافيانو “عبئاً مزعجاً” على آل “كامورّا”، يجب التخلّص منه.
• “غومورا” رواية صدرت عن دار “موندادوري” للنشر– ميلانو، ضمن سلسلة “الطرق الزرقاء” في أيار 2006، 331 صفحة، للكاتب روبيرتو سافيانو.
ميلانو – من ديما سعد:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى