صفحات سوريةياسين الحاج صالح

في تغيرات الإيديولوجية السورية وأصولها

null
ياسين الحاج صالح
أحد المواقع المهملة عادة الذي يمكن منه تتبع الأوضاع السورية وتحولاتها هو الإيديولوجية الرسمية، مضمونها وحضورها في المجال العام. هي مهملة لأن من قد يتكلمون في الشأن السوري هم إما موالون يصدرون عنها ويعتبرونها معطى طبيعيا، أو معارضون يعتبرونها عموما ركاما من الأكاذيب. ليست هذا ولا ذاك، إنها… إيديولوجيا: وظيفتها أن تخفي أو تموه العمليات الواقعية الجارية بأن تضفي صفة عامة على ما هو خصوصي، وضرورية على ما هو عارض، وكلية على ما هو جزئي، ومستمرة على ما هو متقطع أو متقلب، وتناغمية على ما هو صراعي، وبالطبع وطنية على ما هو متصل في حقيقة الأمر بمواقع نخبة السلطة ومصالحها. ولهذه الاعتبارات يفترض عموما أنه «ليس للإيديولوجية تاريخ» ذاتي، ما دامت وظيفتها الجوهرية إنكار التحول والانقطاع، وتأكيد توافق الواقعي (الجزئي والخصوصي والعارض والصراعي والمتقطع…) مع الحقيقي (العام والضروري والمستمر والمنسجم والوطني…). ومن أجل ذلك على الإيديولوجية أن تصون ثباتها هي قبل الجميع، أي أن تحجب تحولاتها الذاتية وتبرز لنفسها ديمومة لا انقطاع فيها. وإذ تتصل الإيديولوجية السورية ببنى السلطة ونمط ممارستها (هي إيديولوجية الحكم السوري)، فإنها تحرص على نسبة اتساق ودوام لسياساته (الحكم) وتوجهاته قلما تتصف بهما الشؤون الإنسانية عامة، ولا يندر أن تتعارض تعارضا تاما مع واقع الحال السوري.
ولعل الوظيفة الاتساقية للإيديولوجية السورية هي ما أخفت تحولات مهمة في بنية هذه الإيديولوجية ذاتها تحيل بدورها إلى تحولات في المجتمع السوري وفي تكوين طاقم الحكم في البلاد.
التحول الأبرز في الإيديولوجية السورية يتمثل في تراجع الإحالات الاشتراكية في الخطاب الرسمي لمصلحة تصور تعاوني للمجتمع، يبرز الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع لما فيه خير البلاد و»المصلحة الوطنية». الكلام على العمال والفلاحين والجماهير الشعبية الكادحة لم ينقرض، لكن حضوره اليوم أقل من أية أوقات سابقة. وهو لا يكاد يحضر على لسان مقرري السياسة الفعليين. ويعكس هذا التحول مزيجا من لبرلة الاقتصاد السوري ودوراً متنامياً للرأسمالية الخاصة في الناتج الوطني ونفاذاً واسعاً لها إلى الحكومة والبرلمان.
ومن جهة أخرى تراجع وزن ودور النقابات، اتحاد العمل واتحاد الفلاحين بخاصة، في صوغ السياسات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية. بل ربما يمكن الكلام على تراجع نسبي لدور حزب البعث نفسه، حتى كأداة حكم.
إن الشرائح التي كانت تتعرف في الخطاب الشعبوي على رموز عالم ألفته وسكنت إليه: موظفي الدولة، عمال القطاع العام، معلمي المدارس ومدرسي الجامعات، عموم عناصر الأجهزة الأمنية والجيش، فلاحين متوسطين وصغارا في الأرياف والبلدات الصغيرة والمتوسطة، تخبر تراجعا في دخولها وفي نفوذها العام، بينما يصعد وزن وحضور «أبناء المسؤولين» وشباب من الطبقة الوسطى أفضل تأهيلا، وتبرز أنماط حياة «بيروتية» في دمشق بخاصة، وبدرجة أقل في مدن سورية أخرى.
لكن هل يجري التخلي بسهولة عن الخطاب الشعبوي ومفرداته الاشتراكية؟ ليس بسهولة. الواقع أن المرء يسمعه بين وقت وآخر على ألسنة قياديين بعثيين لا يندر أن يعبروا عن وجهات نظر ومواقف متحفظة أو حتى معادية للفريق الاقتصادي في الحكومة، ويجد تعبيرات عنه في الصحف الرسمية، كما في صحف التنظيمين الشيوعيين في «الجبهة الوطنية التقدمية»، تعكس قلقا متزايدا من لبرلة الاقتصاد.
التحول الثاني في الإيديولوجية السورية، والذي ربما يساهم في تفسير التخلي النسبي عن الخطاب الشعبوي، يتمثل في النزعة الوطنية السورية العالية النبرة التي يتبينها المرء في كل وسائل الإعلام الحكومية، لكنها أعلى بعد في  وسائل الإعلام الخاصة (فضائيات، صحف…). الوطنية السورية المتماهية مع النظام هذه لا تفصل نفسها عن العروبة، لكنها ذات تمركز سوري غير مسبوق. يستبطن هذا التطور ظروفا خاصة، تمثلت في شعور منتشر بخطر داهم في السنوات الخمس أو الست الأخيرة مع احتلال الأميركيين للعراق والمسار الخطير الذي انزلق فيه لبعض الوقت، لكن بخاصة مع الخروج القسري للقوات السورية من لبنان ومهاجمة لبنانيين لسوريين في لبنان ولسورية بعامة، وعلاقات متردية مع مصر والسعودية. إلا أن الشيء الأهم هو تشكّل من نوع ما لداخل سوري: اقتصاد مستقل نسبيا، إعلام مستقل نسبيا، جامعات مستقلة نسبيا، طبقة وسطى محدودة ومستقلة نسبيا، شباب سوري مستقل بعض الشيء… ومحصلة هذا التشكل اتساع دائرة الاهتمام العام، وانضمام خواص مستقلين إليها من مواقع موالية للنظام أو قريبة منه، دون أن تكون بعثية أو جبهوية. الوطنية السورية تبدو هي الإيديولوجية المنسابة ليتوحد هذا المجموع ويعي ذاته. القومية العربية أقل صلاحية لهذا الغرض.
هــذا هو الشـــيء الأساســـي، لكن ربمـــا نتبيــــن عامـــلا مكملا وراء علو النبرة الوطنية: ليس لدى السلطات الكــثير مما تقدمه غير البلاغة الوطنية لجمهور تتفكك شبكات الضمان الاجتماعي الشعبوية التي كانت تحميه جزئيا دون أن تتكون شبكات جديدة. الوطنية هنا منبع مفترض للتماسك الاجتماعي الذي يهدده تحرير الاقتصاد. ولعلها كذلك تعويض عن تراجع الخطاب الشعبوي.
ولعل ثمة أيضا عنصرا تكنولوجيا كذلك، أو بالأدق ميديولوجيا، وراء السورية الصادحة اليوم: الحيز المهم نسبيا للإعلام الإلكتروني والإذاعات الخاصة (موجات «إف إم»، لا تبث أخبارا، تتوجه إعلاناتها نحو المستهلك السوري، وتتكلم بالمحكية السورية العامة) والصحف الخاصة. تبدو مواقع الانترنت السورية سورية إيديولوجيا، لا تكاد تهتم بأي شأن غير سوري إلا من وجهة نظر تأثيره المحتمل على الشأن السوري. والأمر نفسه ربما يصح على الصحف والمجلات الخاصة وعلى استقلاليتها المحدودة جدا. تعمم الصحف والمجلات هذه بلاغة وطنية قصوى، أكثر تشددا حيال خصوم النظام العرب، بينما يبدو الإعلام الرسمي أكثر تحفظا و«رصانة».
هل من دلالات مستقبلية يمكن نسبتها إلى هذه التقديرات؟ لقد اقترن تأميم الاقتصاد بالإيديولوجية العروبية وبتأميم السياسة (احتكارها من قبل «الدولة الحزبية»، ممثلة «الأمة»). ويبدو أن تغيرات الاقتصاد تتوافق مع تغيرات إيديولوجية، فهل يحتمل أن تكون مضادة للعروبة السياسية؟ نرجح أن تستوي الوطنية السورية أداة تعبئة وتوحيد محليين، لكن من غير المحتمل أن يكون ذلك على حساب العروبة، حتى وإن نشأت موجات إيديولوجية عابرة مضادة لها. هل يحتمل أن تواكب هذه التحولات الاقتصادية والإيديولوجية تحولات سياسية؟ ليس على المدى القصير. أما على المدى الأبعد، فمن يدري؟
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى