صفحات ثقافيةعلي جازو

أثر صوت التحية

null
علي جازو
مساءً حيّتني من على سطح بيت زوجها. بدا وجهها المستدير، بأنفه الدقيق الهادئ، كمثل وجه عصفور وحيد. وجهها، حسب، جنب سور السطح ذي اللون الأخضر الداكن. فوجئت بالتحية؛ خفيضة ناعمة، ومصباح الحائط المعاكس يرسل ضياءه على جبينها الضيق المسمر. خلال لمحة قصيرة بادلتها السلام. كم أراحني منظر وجهها، عينيها الواثقتين، ولهفة ابتسامة فمها الصغير ذي الشفتين الشبيهتين بقشرة تفاحة باردة! تذكرت بعد أيام ملمس بشرة ذراعها. جلدٌ ذو التماع شديد الخفوت، أملس نديّ كباطن بتلة أقحوانة مبللة، حذرٌ منعش النبضات. تحية مثل هبوط بطيء لندفة ثلج، أخفت توسلاً ساذجاً. لم يحمل صوتها قلقاً ولا انفعال رغبة سرية. أيّ ظلٍّ يلازمني إثر تلك التحية؟ يا لها من صوت محا كلّ تعاستي!
أيام الرعب البيضاء
بذور البطيخ الأحمر سوداء صغيرة تلتمع على صحن زجاج دائريّ، فوقها أوراق دالية حديثة العهد خضراء تعرّشت غصيناتها ببطء مرن بين أسلاك شبكة حديد ناعمة. رجل أصلع كفيف، ذو محجرين غائرين، يتذكر كيف غرس الصنوبرة العملاقة خلف الحائط المجاور الخفيض قبل اثنين وعشرين عاماً، حين أمضى بداية شبابه المتعثر مع جدّيه لأبيه. أشار إلى محل جلوسي بيده ذات الساعد المشعر الثخين، قائلاً: هنا كانت شجرة رمان يبست لسبب أجهله، وقربها تماماً، تفتحت بغزارة مبهجة أزهار ليمون عبقة. أثناء تشييد هذا البيت ضرب بنّاء متعرّق الوجه عنق الشجرة بفأس جدّي، فتهاوت أكوام بتلات بيضاء. ثمة بومة بيضاء أيضاً، تحل بين أغصان الصنوبرة. أضاف: ربما عليّ بعد حين غرس ليمونة فتية من النوع نفسه الذي تراكم زهره على الأرض حيث تجلس الآن. كذلك يمكنني جلب كرمة بطول ستة أمتار؛ فتمدّ أغصاناً نحيلة، وتصنع أوراقها سقفاً أخضر ذا فرجات ضئيلة فوق سطح البيت. حينها نجلس ليلاً من دون أن يحسب الجوار أننا نتطفل، بدافع فضول أحمق، على سطوح بيوتهم المكشوفة العارية. ركدت أثقال لفحات نهار صيفي حارق، وبدأت أنسام واهنة، بعيد تماثل الظلال مع انبساط عتمة الليل، واهنة تهبّ بلطف قرب جذوع أشجار بيضاء.
الحجرة المعتمة والمرأة الشابة
حدث ذلك في صباح مبكر، نديّ، ذي غيوم صغيرة ساكنة. الشوارع نظيفة خالية، والصمت مثل شعاع الشمس، تماماً مثل شعاع الشمس. كانت الحجرة معتمة تقريباً. ثمة نور أشبه بظل سميك يمنح قدرة كاملة للرؤية، لكن ضعيفة أيضاً بشكل تام. خطت المرأة الشابة وسط الحجرة مثل ضيف يعرف أقسام البيت على رغم أنه يدخله للمرة الأولى. لمحت، ثم تثبتت من ذلك، شباناً كثراً ممزقي الثياب، رؤوسهم محنية صوب أقدامهم الممدودة؛ كأنهم يفكرون مستغرقين في رؤى عميقة بدل جميع البشر النائمين. بدت وجوههم، بعد برهة صفت خلالها الرؤية، شديدة الإرهاق والذبول الى حدّ أن أحدهم لم يرفع رأسه ليبادل المرأة نظرة ما، نظرة على الأقل. ما كانوا في حاجة الى أن ينظروا الى أحد ولا أن يفاجئهم أحد سوى عتمة الحجرة الثابتة الصلبة. جلست المرأة بهدوء بطيء، كأنما انتقلت اليها العدوى من تعب الصامتين وخمولهم الوافر، على كرسي ذي مسند خفيض وحشوة صفراء باهتة. ثم نظرت وأمعنت في الأرجاء حولها. رأت بقع منيّ عديدة بيضاء لزجة عكرة. على رغم كدر لون النطف الغزيرة المتلاصقة، ازدهت بلمعة غريبة كأنما كائن لا مرئي يسلط عليها وحدها ضياء صافياً. ثم ظهرت من خارج الحجرة يد شخص عملاق. يد سوداء ذات ساعد متين مشعر. لم تحرك المرأة ساكناً. انتظرت صمت اليد المترقبة حتى شدّت قبضتها بقوة على خصرها زامّةً بطن فستانها البنفسجي بين أصابعها المشدودة. لم تستسلم المرأة لقبضة اليد فحسب. ما كان سكونها اللين وطواعيتها المرتخية تجاه القبضة باستسلام قط. كانت مغمورة بشأن آخر. كانت قادرة على التخلي عن كل شيء لقاء رؤية وجه العملاق. ثم فجأةً رفعتها القبضة دفعة واحدة فترافع ثوبها عن سرّة مدورة عميقة ناعمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى