صفحات ثقافية

من رواية “تراتيل العدم”

null
مها حسن
مها حسنحين اصطحب آلته، دون أمه، وحيداً، يتدرب على بعض الألحان الجديدة، وأوغل في الغابة، توغّل إلى بقعة لم يكن قد وصلها من قبل، وكان شارداً، ساهياً، يسير دون هدف،
ما هو الهدف ؟!
يطلق ميلان كونديرا روايته، عن طريق الأسئلة، تلك التي ترجمت بـ الكائن الذي لا تحتمل خفته، ولو كان كونديرا كاتب هذا العمل، لكتب كما ورد قبل سطرين : ما هو الهدف ؟!
ولقام كونديرا بتقديم عدة تعاريف، جديدة، مبتكرة، عن الهدف .

وبمقاربة كونديرا، نقول: الهدف هو شيء، تتوقف عن السير فجأة، حين تحسّ أنك لست في الطريق إليه، فهل الهدف هو الطريق، الخطة، التكتيك بلغة الجيش، والاستراتيجية بلغة العسكر،
الهدف إذن هو اتجاه، سهم دلالة نحو
أما أن يصبح الوصول إلى الهدف، عبر اللاهدف، فتلك عبثية لا يقترب منها كونديرا، ولكنها من المصادفات التي يؤمن بها شخص مثل ساباتو ، كائن يؤمن بالأرواح، والعالم الماورائي الذي يطوفه الإنسان، ونحن لسنا من أنصار ساباتو، ولا من بنات العبثية، ولا نحاول تقليد كونديرا، لكن هذا ما حصل مع حرز، ففي لحظة اللاهدف، وجد الهدف بغتة، في الطريق إلى اللااتجاه، تحدّد اتجاهه في الحياة، وهنا يوافقنا الفكر الشعبي الذي لا نتفق معه، أنها قسمة الحياة، وجاء المقطع اللاحق، مصادفة، متفقاً مع ذلك الفكر، لنقول ” نحن كاتبات هذا العمل ” :
على بعد عدة أمتار، بوغت حرز، بمشهد لم يسبق له أن رآه بهذه الدقة، فكأنها لوحة تصوّر :
فتاة عارية، عري مطلق، عري جسدي، عري لغوي، عري فكري، . عارية بشدة، وسط كساء الغابة ولبوسها .

جلس الشاب بين الأعشاب والحشائش، يرقب الفتاة العارية، التي كانت تستحم في عين ماء، تغازل جسدها بألفاظ نمتنع عن ذكرها، لأنها من ذلك النوع، الذي يتلّفظ به أحدهم، أو إحداهن، في الوحدة، ولا يمكنه ذكرها أمام الغير، ويخجل بشدة لو عرف أن ثمة من سجل أقواله / أقوالها .

كان غزلها، يأخذ طابعاً موسيقياً، لكن صوتها كان عار من الجمال، صوت نشاز فيه بحّة، وفيه تقطّع، ولكن فيه عري اللفظة .

لا نعتقد، ولا حرز كذلك، أن ثمة ارتباطاً بين العار والعري ، لأنها آنذاك كانت تحس بالثقة، القوة، الأنفة، وهي بذلك العري المذهل، لجمال جسد لم يره حرز طيلة مغامرتيه : التلصص، المباح .

جسد يبث في رائيه الرغبة في الحياة،فكأن اتفاقاً ذا صيغة ما، رأى أن يجمع بين ذلك الجسد، والموسيقا، ليدفع حرز للخروج من ” تلك الصيغة ” .

ومن قبيل الحالة الجمالية، سوف ندرج ما اتفقنا عليه، نحن كاتبات هذا العمل، بعض المقاطع، بعد شطب المواقف المأزقية، … إذ كانت تقول مستحمة، مخاطبة أعضاء جسدها :
” يا بطني الجميل، يا خافي رحمي، يا رحمي، يا دافن أجنتي، فيك بُذروا، وفيك لُقحوا، وفيك سكنوا، وفيك تغذّوا،. يا ردفيّ، يا بلاطتين من لحم دافئ، يا مخدتين من بلّور شفاف، لا يظهر الحرقة والنار، تمتّعا بالماء البارد، وأطفئا شهواتكما، .يا مؤخرتي المستديرة كوجه القمر، يا مدوّرة، يا مكوّرة، يا سر الخليقة، يا سمينة، يا بدينة، يا زهرة الجسد، يا متّصلة به، يا مؤدية إليه، يا ملتصقة به، يا ساكنة خلفه، يا جارته، يا أنيسته، يا مقر جلوسي، واستنادي، وسندي، يا من تحملين ثقلي في قعودي،ويا فتنتي حين تهتزين في نهوضي، اغتسلي، وتعطّري،والمعي بقطرات الماء على وجهك المنقسم نصفين، بخط فاتن، يجعلك أجمل تكوين دائري، فتزيد فتنتك فتنة، يا مؤخرتي، يا مدبرتي، يا مخلّصتي …” .

وتمسح بيدها على ذلك الخط، المتّصل، المؤدي، الملتصق وتمتدحه .

صاعدة إلى نهديها .

” يا أعز الأصدقاء، من منكما أحب أكثر، سؤال أعجز عن الإجابة عنه، وأنتما أيضاً، مدوّران، مكوّران، مربوطان بعقدة تنغلق على كنوزكما.

استحما، تنظّفا، و أيتها العقدة الصغيرة، يا عنق الكيس الكنزي، احفظي كنوزك، ليلتهمها أبنائي القادمون إلى الحياة ، . يا نهد، يا سعد، يا سهد لمن يراك، يا من تهدّ من لا يطالك، يا وعد لمن يرعاك ..

يا جيدي، يا جدار الزينة، يا من عليك أعلّق قلائدي وزهوري، يا من تقدّم وجهي الجميل إلى الناس، يا حامل وجهي و رأسي، يا جيدي، يا عيدي، يا فرحتي ونشيدي، .

وتصب الماء على كل قطعة من جسدها، مغازلة إياه : شعرها، جبينها، شفتيها، ذراعيها، كفيها، ساعديها، قدميها …” .

” العش المش يا عيني عليه،
شافوه الناس وجنوا عليه،
ظنوه مرج أخضر وهجموا عليه،
مدوا بساط وجلسوا عليه،
يا سيدي، يا مسيودي، يا عبدي، يا معبودي” .

تقفز في الماء، وكأنها إلهة ماء (عفواً من أرض)، كأنها زهرة لا ينعشها إلا الماء، تحتفي بالماء، كاحتفاء عشيق متيّم بحبيبته، ترشق الماء حولها، يتطاير الرذاذ، تضربه بقدميها، فيصل حتى وجه حرز المختبئ،يستلذ برذاذ الماء المتطاير على جفاف وجهه، يرغب بالاستحمام، يقاوم، كي لا يفزع المحتفية بالماء .

كان ذلك المشهد أول تمثيل للفرح يراه حرز،فهو لم يسبق له أن رأى كائناً سعيداً، وكلما سُئل عن السعادة، أو سمع عنها، تذكر ذلك المشهد،
امرأة فرحة، تغني، تتحدث مع الطيور، الأعشاب، الماء، الملابس .
كانت تغازل قطع ملابسها، وهي ترتديها : ” يا ساترة،يا باترة، يا فاترة، للسترة، وللسروال،يا قاسي، يا عاتي، يا حامي، يا راعي، وللجورب، يا رفيق، يا رقيق، يا صديق، يا شفيق ” .
وأخذت تجدل شعرها السنبلي الطويل، مغازلة الطيور المتجمعة لحضور مهرجان الفرح .

كانت تثرثر مدندنة، بنشاز، بكل ما لديها من كلمات :

من قال إني حداد، أنا فرح دائم، أنا أعشق الفرح، أنا ابنة، وربة الفرح !
أنا صانعة الفرح، أنا صدره، موطنه، منبعه .
الفرح أنا، وأنا الفرح، ولا يمكن لمن يلاقيني، ألا يحس بالفرح .
أنا والحزن ضدان لا نجتمع، حيث أحل أنا، يفل هو، وحيث يكون هو، أفرّ أنا .

ولماذا لا أكون الفرح، وما لذي ينقصني فيحزنني، أنا شابة، جسدي جميل، سأقدّم الكثير من الأطفال للحياة، وسوف يحبني رجل ما حتى العبادة، وقد يقع في غرامي عشرات الرجال، فلماذا لا أكون الفرح ؟!

الفرح هو المرأة، والمرأة هي الفرح، يجب أن يدعونه هكذا : أيتها الفرح، يجب أن يكون الفرح امرأة، لأن المرأة تهب الفرح، حضورها، غناءها، رقصها، جسدها، حكمتها، أليست أرض ربة الماء امرأة، أليست هي من تشفي الأمراض والآلام .

المرأة هي الفرح، والفرح في نهايته : امرأة، والحزن في آخره، هو فقدان امرأة، المرأة هي : حب – حكاية – أسطورة – متعة – عطاء، . أي : فرح !
الفرح هي أنا، وأنا هي الفرح، نحن تكوين واحد، الفرح وأنا، تقول أمي { متحدثة إلى جسدها الذي أنهت غسله، وارتدت ملابسها، وراحت تصنع زينتها، وتضع أقراطها وقلادتها . وهي تتحدث إليها، إلى أهم ما يهبها الفرح، جسدها الذي تحب، لا من حيث هو منح لذة، بل من حيث هو تكوين وجود، إنه الدليل الكبير على تواجدها وحضورها في الكون، أنها ليست فراغ أو عدم، أنها موجودة، وجسدها الموجود، الذي تغني له، وتغسله، وتثرثر له، وتناقشه .. هو الدليل الأكبر على موجوديتها، أو وجودها } تقول أمي : أعتقد أنك مخلوقة من طين وفرح، أنك معجونة بالفرح، لقد ولدتك وأنت تضحكين، ولم أسمع صوت بكائك يوماً، ومنذ عرفتك، عرفت الفرح، وكل من جاءت لتبارك لي مولدك، أحست أنك طفلة تدعو إلى الفرح ، وسامحيني يا ابنتي لأني دعوتك بـ حداد ، تلك قصة أخرى { لا تريد حداد، أو أنها تتجاهل على الدوام، ذكر القصص والمواضيع الداعية إلى الحزن } .

أحس حرز بالفرح، لكثرة ما سمع منها عن الفرح، وراح يبتسم وحده كأبله، وحمل آلته الوترية وراح إلى مكان يبعد عنها أكثر من المكان الذي كان يختبئ فيه، وراح يعزف وكأنه لم يسبق له أن كان موجوداً هناك من قبل، أو كأنه قد وصل لتوه، ولم يرها، أو يسمعها، أو .

وحين سمعت ربة الفرح، وابنته، صوت موسيقاه، انجذبت، كما انجذاب عناد لإغماء .

صدرت مؤخرا عن دار الريس 2009
جهات الشعر
(سوريا/باريس)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى