صفحات أخرى

حـــرب لــبــنــــان” لــســمــيـــر قــصــيـــر”


خالد غزال

الــكــثــيــــر مــن الــنــقـــــــاط عــلــى الــحــــــروف

دأب المؤرخون على اعتبار 13 نيسان تاريخا رسميا لاندلاع الحرب في لبنان، لكن رغم ان هذا التاريخ شكل تطورا نوعيا في النزاع اللبناني، الا ان مقدمات الحرب كانت نضجت قبل ذلك التاريخ بأعوام، وتحديدا منذ هزيمة العرب في حزيران 1967، وهي حرب لا تزال تلقي بثقلها على مجمل الوضع اللبناني وإن اتخذت اشكالا اخرى.
يقدّم سمير قصير في كتابه “حرب لبنان: من الشقاق الوطني الى النزاع الاقليمي، 1975-1982” الصادر أخيرا بالعربية عن “دار النهار” (ترجمة سليم عنتوري) قراءة مفصلة لمسار التطورات السياسية والعسكرية التي شهدها لبنان بما يعطي القارئ فكرة متكاملة عن عوامل الانفجار والاسباب التي جعلت الحرب مستمرة حتى اليوم، رغم ان الكتاب يغطي الفترة الممتدة من اندلاعها الرسمي وصولا الى الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982. يخلص قارئ الكتاب الى خلاصات اساسية تخالف كثيرا السائد حول الحرب، فيؤكد من خلال الحوادث الحاصلة ان الحرب كانت داخلية بكل معنى الكلمة حيث كانت المعسكرات اللبنانية تحمل مشاريعها الخاصة في التغيير، كما ان الحرب كانت ايضا خارجية بالكامل وقد انخرطت فيها قوى اقليمية ودولية لتحقيق اهدافها الخاصة، مما يجعل الحرب عمليا حروب اللبنانيين وحروب الخارج على السواء، وهو ما  ادى الى تمفصل الداخل والخارج وربط الازمة الداخلية برباط غليظ مع الازمة الخارجية في المنطقة.

في الفصول الاولى، يقدم سمير قصير للعوامل المباشرة داخليا لاندلاع النزاعات الاهلية في لبنان منذ 1958، والتي برزت بوضوح مع ازمة السبعينات. يقوم العامل الاول على اختلال احد مكوّنات الكيان اللبناني عام 1943، أي سياسة التوازن اللبنانية في الانضمام الى المحصلة العربية الاجمالية، وهي القاعدة التي خرقها الحكم السائد منذ هزيمة العرب في حزيران في اتجاه الانغلاق المطلق على المستجدات في الوضع العربي تحت وطأة الصراع العربي – الصهيوني وموقع لبنان ضمن هذا الصراع. اما العامل الاخر فناجم عن الازمات الاقتصادية والاجتماعية التي كان يعانيها لبنان حيث رفضت الطبقة الحاكمة تقديم تسوية في هذا المجال واعتمدت سياسة الانغلاق ايضا بل اعتماد العنف جوابا عن المطالب المطروحة. ادى غياب منطق التسوية بين اطراف النزاع اللبنانيين الى اعتماد العنف طريقا لتحقيق المطالب لكل طرف، مما تسبب بتطور هذا النزاع الى حرب اهلية مفتوحة انخرط فيها مجمل الشعب اللبناني بأشكال متفاوتة بين انخراط ميداني في القتال، وتأييد مادي ومعنوي للحرب، وهو امر يطاول جميع الفئات الاجتماعية والطوائف تقريبا.

في الحديث عن الحرب الاهلية بمكوناتها الداخلية يشار الى مشروعين سياسيين قادا الحرب وكانت لكل منهما تصوراته للبنان جديد. الاول قادته عمليا الطبقة المسيطرة والتي اتخذت لاحقا اسم “الجبهة اللبنانية” وكان عمادها حزب الكتائب اللبنانية و”قواته اللبنانية”. حملت الجبهة مشروعا سياسيا يعتبر ان حل المشكلات القائمة في لبنان والناجمة عن الوجود الفلسطيني من جهة، وعن اندلاع الازمة الاقتصادية والاجتماعية بسبب نفوذ احزاب اليسار الذي كانت الجبهة تصنّفه في خانة “اليسار الدولي”، لا يتم عبر ايجاد التسويات الضرورية لهذين الموضوعين بما يحمي البلد من التقاتل. اختارت الجبهة واحزابها حلا يقضي بخوض معركة عسكرية لاقتلاع الوجود الفلسطيني واستخدام العنف في مواجهة الازمة الاجتماعية والسياسية. ان رفض الطبقة الحاكمة اعتماد اي لون من الوان التسوية يجعلها مسؤولة بشكل رئيسي عن اندلاع الحرب، وقد ادى عجز قوى النظام عن انجاز هذه الاهداف وما تبعها من انهيارات بنيوية الى توسل “الجبهة اللبنانية” واحزابها بالخارج، فطلبت الاستعانة بالنظام السوري عام 1976 وقدّمت له اقتراحات مشجعة وصلت الى عرض الوحدة بين لبنان وسوريا. وبعد الخلاف مع سوريا نتيجة الخطة السورية الخاصة بالاستيلاء على البلاد والتطورات الاقليمية التي نجمت عن زيارة السادات لاسرائيل، تحولت “الجبهة اللبنانية” الى بناء علاقة مع اسرائيل ذات طابع عسكري وسياسي، وشهدت الفترة الممتدة بين 1977 و1982 علاقة وثيقة توّجها الاجتياح الاسرائيلي والاتيان ببشير وامين الجميل الى رئاسة الجمهورية.

في المقابل، كانت “الحركة الوطنية” تحمل مشروعها السياسي في التغيير الوطني الديموقراطي، الذي يحمل تغييرات في طبيعة النظام السياسي داخليا ويلتزم الدفاع عن المقاومة الفلسطينية وحقها في الكفاح المسلح انطلاقا من لبنان. لم يكن ممكنا أن تنفّذ “الحركة الوطنية” برنامجها من دون الاستعانة بالمقاومة الفلسطينية، فقام تحالف امتد حتى الاجتياح الاسرائيلي. كما ان “الجبهة اللبنانية” لم تكن تملك مشروعا تسوويا للازمة اللبنانية، كذلك لم يقدم اليسار مثل هذا المشروع، بل ان “الحركة الوطنية” كانت ترى في الحرب الاهلية التي فجرتها الطبقة المسيطرة وسيلة للانخراط في هذه الحرب وتحويلها الى حرب تغيير وطني، فاختلفت هذه الحركة مع سوريا لرفضها تقديم الدعم العسكري بما يؤمّن هزيمة “الجبهة اللبنانية”، ثم عادت الى وفاق ملتبس في اعقاب زيارة الرئيس المصري لاسرائيل.

اما خارجيا، فيقدم قصير لوحة للمشهد الذي كان لبنان والمنطقة يقفان عنده منتصف السبعينات من القرن الماضي. كان النظام المصري بدأ مسيرة الصلح مع اسرائيل اثر توقيع اتفاقات سيناء بين البلدين خلافا للاجماع العربي، في ظل سياسة اميركية واضحة في الوصول الى تسويات للنزاع العربي – الصهيوني، مما يقتضي تذليل الاعتراضات العربية المتمثلة بشكل رئيسي في المقاومة الفلسطينية وبعض الانظمة العربية. كان الثابت في الخطة الاميركية تجاه المنطقة العربية ومنها لبنان، رعاية ما تحدده اسرائيل وما يتوافق مع مصالحها. لذا اعتمدت سياسة ادارة للازمة اللبنانية تنحكم فيها الحلول وفق مسار الصراع العربي – الصهيوني ومقتضياته. تميزت السياسة الاميركية بالتلاعب بالوضع اللبناني من البوابة على اسرائيل، ومن البوابة المفتوحة على العالم العربي عبر سوريا. ظل هذا التلاعب يتخذ اشكالا متعددة منذ عام 1975 حتى المفاوضات التي كانت تجري خلال الاجتياح الاسرائيلي والحصار المضروب على بيروت آنذاك، وفي المفاوضات التي دارت لانسحاب المقاومة الفلسطينية من لبنان، حيث كان المفاوض الاميركي مقررا في كل صغيرة وكبيرة وليس الجانب الاسرائيلي وحده.

بالتوازن مع الخطة الاميركية وبالتوافق معها، لعبت اسرائيل دورا اساسيا في اشعال الحرب واستمرارها وتوسعها، فهي كانت صاحبة خطة واضحة واصلية تجاه لبنان الذي يندرج في مشروعها الهادف الى السيطرة على المنطقة العربية. كما كانت تعتبر ان لبنان بات مصدر الخطر الاساسي عليها بسبب الوجود الفلسطيني الذي يمارس كفاحا مسلحا من الحدود اللبنانية ويتسبب بأذى فعلي للمناطق والسكان في اسرائيل. لذا كانت اسرائيل اكثر المعنيين مباشرة بالحرب وخصوصا في شقها المتعلق بضرورة انهاء الاعتراض الفلسطيني عبر اقتلاع بنيته التحتية من الاراضي اللبنانية. تدرجت الخطة الاسرائيلية تجاه لبنان من فتح بؤرة الجنوب عبر طرف لبناني مثّله الرائد السابق في الجيش اللبناني سعد حداد عام 1976 عبر الاستيلاء على الشريط الحدودي مع اسرائيل واعتبار نفسها طرفا امنيا في المعادلة الداخلية من جهة، وافهام النظام السوري الذي دخلت جيوشه لبنان ان ميدان عمله هو الداخل اللبناني وليس الاقتراب من الحدود مع اسرائيل. لكن الخطة الاسرائيلية تطورت لاحقا مع توسع الحرب وتشابكها مع القوى الخارجية، الى الافصاح عن اهداف سياسية تطاول تركيب النظام السياسي للبلد وربطه بالمشروع الاسرائيلي وفرض معاهدة سلام عليه وتقرير مصير الوضع اللبناني ضمن مدار النفوذ الاسرائيلي. ترجمت اسرائيل هذا التوجه السياسي بدعمها المطلق “الجبهة اللبنانية” وايصالها رئيسين للجمهورية عام 1982 هما بشير وامين الجميل.

في الجانب الخارجي عربيا، يشير سمير قصير في سياق عرضه  يوميات الحرب الى المقاومة الفلسطينية وسوريا. نشأت المقاومة العربية وازداد دورها ونفوذها بصفتها جوابا عن الهزيمة العربية ونقضا للهدنات القائمة مع اسرائيل، فاحتلت بذلك موقعا سياسيا ونالت تأييدا شعبيا واسعا في العالم العربي وصلت مراهنة بعض قواها على افتراض قدرتها على تغيير ثوري للانظمة القائمة. دخلت المقاومة الى لبنان بعد هزيمة حزيران وزاد وجودها في اعقاب الضربة العسكرية لها من النظام الاردني، فاستقبلت بتأييد من قوى لبنانية واسعة بحيث باتت جزءا من الوضع اللبناني. لم تكن المقاومة صاحبة مشروع تسوية مع الدولة اللبنانية تحدد فيه ما تريده على صعيد الكفاح المسلح من ممرات لبنانية، بل كانت حاملة لمشروع يقوم على بناء كيان سياسي مستقل للفلسطينيين في لبنان تخاطب عبره العالم من اجل حقوقها في الاراضي الفلسطينية المحتلة. لذلك استخدمت لبنان في هجومها السياسي الهادف الى تحقيق الدولة الفلسطينية، فوجدت نفسها في صميم حرب اهلية تخوضها قوى داخلية وخارجية تعمل لمنع المقاومة من مواصلة كفاحها السياسي والعسكري، وقد افادت من التناقضات اللبنانية والصراعات القائمة والاهداف التي ترمي اليها قوى لبنانية لتغيير النظام وخصوصا اليسار منها، فدخلت في صميم البنية اللبنانية وتحولت عاملا داخليا، وبدا ان فعلها واستخدامها لـ”الساحة” اللبنانية يتجاوزان ما يستطيع البلد تحمله، مما جعل الوجود الفلسطيني وفعله من عوامل انهيار البنية اللبنانية.

في المقابل كان النظام السوري يخوض معركة مزدوجة تتصل الاولى بسعي الخطة الاميركية لتطويعه في اطار الحلول السلمية، وردّه على ذلك تعزيز موقع سوريا الاقليمي عبر الهيمنة على لبنان والمقاومة الفلسطينية. يشير قصير الى التدرج في الموقف السوري وانخراطه المتمادي في الحرب الاهلية اللبنانية، إذ قامت سياسة النظام منذ السبعينات على معادلة ان المخارج لمشكلات سوريا تتم على الصعيد الاقليمي، واستنادا الى سوريا الكبرى ذات الحدود الكيانية لسوريا مضروبة بالامتداد الى فلسطين والاردن ولبنان. ومنذ الدخول الفلسطيني الى لبنان قامت خطة النظام على التدخل في الوضع اللبناني والانتقال من موقع الى موقع بما يؤمّن السيطرة على كامل البلد. في هذا المجال كانت سوريا صاحبة خطة اصلية في تفجير الحرب الاهلية وفي ادامتها، بما فرض وجودها العسكري الذي كانت وظيفته القبض على العامل الفلسطيني ومنع “الحركة الوطنية” من تحقيق اهدافها السياسية. شهدت الخطة السورية تقلبات في علاقتها مع القوى اللبنانية تحالفا احيانا وعداء احيانا اخرى. لكن الثابت في علاقات سوريا اللبنانية مصلحتها الهادفة الى الهيمنة على البلد، وهو ما تحقق لها عندما جرى تكليفها بقرار اميركي – اسرائيلي – عربي دخول جيشها تحت اسم “قوات الردع العربية” عام 1976 لوضع حد لعمل المقاومة الفلسطينية وحليفها اليساري. تسجل وقائع السنوات الخمس بين 1977 و1982 توزع الادوار بين الخطة الاسرائيلية والخطة السورية لجهة تقاسم النفوذ في لبنان وانهاء مواقع الاعتراض فيه.

يصعب ايفاء الكتاب حقه في قراءته للحرب، لكنه يظل مرجعا وخصوصا في متابعته الحدثية شبه اليومية واستناده الى مصادر متعددة بما يمنع عنه انحيازا في تقديم المعلومات. يبقى ان هذه الحرب فتحت ازمات البلد على مصراعيها كيانا ونظاما ومجتمعا، ولا تزال تمسك بتلابيبه. كما كشفت البنية اللبنانية على الخارج بحيث بات هذا الخارج جزءا لا يتجزأ من الداخل بما يثبت كل يوم استحالة تسوية ازماته بدون تدخل وازن من هذا الخارج. يتساءل اللبنانيون وبحق عما اذا كانت الحرب ستظل قانونا يحكم البلد واجياله كما ساد حتى الان؟ يتصل الجواب بمدى قدرة اللبنانيين على اشتقاق تسويات لخلافاتهم وتغليب مصالح الداخل، وهذا سيظل مرهونا  بتوافر اهلية لبنانية لمثل هذه التسويات.

 

خالد غزال

 

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى