اسرائيلمحمد علي الأتاسي

سلاح الضعفاء الشديد الفاعلية: عــــــــــزل إســــــــــرائـــــيــــــل

null
محمد علي الاتاسي
لا ينفك العديد من أصحاب القرار ورجال الإعلام والسياسة في عالمنا العربي، يصابون بالصدمة والدهشة في أعقاب كل دورة تجري فيها الانتخابات الإسرائيلية، باكتشافهم مرة تلو أخرى الانحدار المتواصل للرأي العام الإسرائيلي نحو اليمين واليمين المتطرف مع كل انتخابات جديدة، مع ما يعينه هذا الأمر من نتائج وخيمة سواء لجهة القضاء على ما تبقى من آفاق السلام في المنطقة، أو لجهة انفلات آلة الحرب الإسرائيلية نحو المزيد من العنف والقتل والتدمير لشعوب المنطقة بشكل عام وللشعب الفلسطيني بشكل خاص.
كأن لسان حال الكثير من الزعماء العرب وصناع الرأي في العالم العربي، يقول في هذا السياق: لقد قدمت منظمة التحرير الفلسطينية في اتفاقات أوسلو، ومن ثم قدم القادة العرب في مؤتمر القمة في بيروت في العام 2002، عروضا مغرية للسلام مع إسرائيل تقوم على مبدأ انسحاب إسرائيل من الأرضي المحتلة في العام 1967 لمصلحة قيام دولة فلسطينية على كامل هذه الأراضي وإقامة السلام الشامل والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود وإنشاء علاقات طبيعية معها. فما كان من القيادات السياسية الإسرائيلية المتعاقبة إلا أن أمعنت في تعنتها وفي رفضها المضمر لعروض السلام العربية وزادت من توسيع مستوطناتها ومن قضمها للأراضي المحتلة في العام 1967 ومن عزلها للفلسطينيين في بانتوستانات [معازل] متقطعة تحيط بها الجدران العازلة.
جانب الخطأ في مثل مقاربة كهذه لفشل مبادرة السلام العربية أنها تستند إلى افتراض يقول إن القادة العرب قدّموا إلى إسرائيل تنازلا تاريخيا باعترافهم المبدئي بوجودها وقبولهم بها كجزء من المنطقة في مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة في العام 1967، وأن الأخيرة رفضت هذا العرض السخي وأضاعت على نفسها فرصة تاريخية لدمجها في المنطقة.
في حين أن حقيقة موقف معظم الطبقة السياسية الإسرائيلية، قائم على تصور يرى في الضفة الغربية (أو ما يسمونه يهودا والسامره) جزءاً لا يتجزأ من أرض إسرائيل التاريخية جرت استعادته في حرب العام 1967، وأن القبول بالتخلي عن جزء منها إلى الفلسطينيين، لا يفرضه المبدأ الأخلاقي القائل بإعادة الحق إلى أهله، ولا حتى المنطق البراغماتي التفاوضي القائل بإعادة الأرض مقابل السلام، لكنه ينبع أساسا من ثوابت الأمن القومي الإسرائيلي التي ترى التهديد الأساسي على أمن الدولة العبرية يتمثل في ما يسمونه “الخطر الديموغرافي” الفلسطيني المتصاعد، وبالتالي فإن أحد أنجع الوسائل للتقليل منه تكمن في التخلص من الكتل البشرية الفلسطينية الكبيرة في اتجاه حكم ذاتي أو شبه دولة فلسطينية، حتى لو كان الثمن خسارة جزء معتبر من أراضي الضفة الغربية ذات الكثافة الفلسطينية العالية.
لقد نجحت إسرائيل في الأعوام الـ 16 الأخيرة، في مواجهة هذا الخطر الكبير الذي يتهدد وجودها بشكل ناجع جدا، وقد ساعدها في تحقيق ذلك التشرذم العربي واللامبالاة الدولية وسوء تقدير المفاوض الفلسطيني. فصحيح أن إسرائيل قبلت مكرهة بمبدأ الأرض مقابل السلام الذي قام عليه مؤتمر مدريد، لكنها على ارض الواقع نجحت منذ بداية التسعينات، وفي مدة لا يتجاوز العشر سنوات، في استقدام أكثر من مليون لاجئ سوفياتي (أي تقريبا خمس سكانها)، وفي مضاعفة عدد المستوطنات والمستوطنين، وفي إبقاء نسبة فلسطيني الداخل بحدود 20 % من إجمالي سكان الدولة العبرية على الرغم من أن معدل تكاثر عرب الداخل أعلى بكثير من ذلك المسجل لدى السكان اليهود.
إسرائيل لا تخاف من الضغوط الدولية ولا من الدول العربية ولا من التهديدات العسكرية الآتية عبر الحدود، بقدر خوفها من القنبلة الديموغرافية القابعة في داخلها. من هنا ضربها عرض الحائط بمبادرة السلام العربية وإمعانها في سياسة الاستيطان وقضم الأراضي وعزل القدس، بشكل يسمح لها عندما تحين اللحظة المناسبة بضم القدس ومعظم المستوطنات القريبة من الخط الأخضر، والتنازل في الآن نفسه عن قدر معين من الأراضي في سبيل التخلص من معظم سكان الضفة الغربية الذين يعيشون عليها. أي أن تفكيك بعض المستوطنات والتخلي عن جزء مما تعتبره الطبقة السياسية الحاكمة أرض إسرائيل التاريخية، ما هو في الحقيقة إلاّ الثمن المطلوب دفعه للتخلص من جزء من العبء الديموغرافي الذي فرضه احتلال الضفة الغربية.
من هنا لم يكن مفاجئا خلال العدوان على غزة أن يكتب بيني موريس في أعمدة صحيفة “نيويورك تايمز”، وهو واحد من الرموز المرتدة في تيار المؤرخين الجدد الإسرائيليين، أن الزيادة السكانية لعرب إسرائيل هي واحدة من الأخطار الأربعة التي تهدد وجود إسرائيل إلى جانب الخطر النووي الإيراني و”حزب الله” على الحدود الشمالية و”حماس” في قطاع غزة. ويشير بيني موريس إلى أن فلسطينيي الداخل يمكن أن يتحولوا خلال خمسين عاماً إلى أكثرية في إسرائيل إذا استمر معدل تكاثرهم بهذا الشكل، ويضيف، أن هذه الأخطار الغير تقليدية الأربعة لا يمكن التعامل معها ومواجهتها وفق المعايير الديموقراطية والليبرالية للغرب!
هذا المنطق في التحليل، الذي تتقاسمه قطاعات واسعة من الرأي العام الإسرائيلي، إذا دل على شيء فعلى الأخطار الفعلية التي تتربص اليوم بفلسطينيي الداخل، والتي يمكن أن تهدد وجودهم الفعلي إذا ما سنحت الفرصة المناسبة وسمح الوضع الدولي لإسرائيل بممارسة سياسة تطهير عرقي مثل تلك التي نفذتها خلال النكبة. فالسياسي المتطرف ليبرمان الذي يطالب في برنامجه الانتخابي بترحيل فلسطينيي 48 إذا لم يعلنوا ولاءهم للدولة العبرية، إنما يقول علانية ما يؤمن به الكثير من أعضاء الطبقة السياسية الإسرائيلية، لكن لا يجرؤون على الإفصاح عنه في الظروف الحالية، مخافة تعرضهم للضغوط الدولية.
لكن ما الذي يتمخض عنه الوضع العربي حيال كل ذلك؟
الحقيقة المرة هي أن منطقتنا تعيش برمتها منذ عقود عدة على إيقاع أجندة يحددها صندوق الانتخاب الإسرائيلي، في حين يبقى المواطن العربي لا حول له ولا قوة ولا ورقة اقتراع يستطيع من خلالها إسماع صوته والتأثير في مجرى الأحداث. أما إذا سنحت له الفرصة ونجح يوما في الذهاب إلى صندوق الاقتراع، وقدر له في انتخابات حرة أن يسجل موقفاً احتجاجياً، كما فعل في انتخابه لممثلي “حماس” في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، اجتمع العالم المتحضر كله على رفض هذا الخيار ومعاقبة صاحبه عليه، في الوقت الذي لا ينفك فيه هذا العالم يرحب ويهلل لنتائج كل دورة جديدة من الانتخابات إسرائيلية، برغم بشاعة الخيارات التي تتكشف عنها مرة تلو الأخرى . يبقى من الأمانة الإشارة إلى أن مواقف قادة “حماس” السياسية المصدرة للخارج لا تفعل شيئا آخر سوى زيادة عزلتهم الدولية، في حين أن مواقف قوى التشدد الإسرائيلي، تصاغ دائما بشكل يجنبها الضغوط الدولية. ألم يقبل نتنياهو باتفاقات أوسلو أثناء فترة حكمه الأولى بعيد اغتيال إسحاق رابين، في حين أنه لم يفعل شيئا آخر على ارض الواقع سوى نسف هذه الاتفاقات؟ وهل سمعنا مرة قائداً سياسياً أو عسكرياً إسرائيلياً يتبنى قتل المدنيين الفلسطينيين؟ هذا مع أن قواته في الميدان وتحت قيادته لا تفعل شيئا آخر سوى الإمعان في قتل المدنيين.
يبقى أن حالة الإفلات من العقاب والخروج على القانون الدولي التي تعيشها الدولة العبرية منذ تأسيسها، لم تفعل شيئا آخر على مدى العقود المنصرمة سوى دفعها نحو المزيد من التطرف واستباحة الأعراف الدولية. لذلك لم يجد المؤرخ الإسرائيلي والأستاذ في جامعة أوكسفورد أفي شلايم، في مقاله في جريدة “الغارديان” إبان العدوان على غزة، وصفا أفضل من “الدولة البلطجية” لشرح حال الدولة العبرية.
يبقى أنّ الانزياح المتزايد للرأي العام الإسرائيلي في اتجاه اليمين واليمين المتطرف مع كل انتخابات جديدة، إذا دل على شيء فعلى أنه من المستحيل التأثير على الناخب الإسرائيلي، والتقليل من جموح هذا المشروع الكولونيالي الإستيطاني نحو المزيد من التطرف والعنف، من دون توازن قوة حقيقي في الميدان ومن دون ممارسة ضغوط دولية وسياسة عزل وعقوبات فاعلة. فهذا ما كانت عليه الحال سواء مع القائلين بالجزائر الفرنسية أو مع الناخبين البيض المؤيدين للتمييز العنصري في جنوب أفريقيا أو مع الناخبين الصرب المساندين في معظمهم لليمين القومي المتطرف في صربيا.
لا شك هنا في أن الوضع الدولي لا يزال بعيدا كل البعد عن إمكان فرض عقوبات على الدولة العبرية، لكن مسار الألف ميل يبدأ بخطوة واحد. وإذا كان انتخاب أوباما يمكن أن يشكل خطوة إلى الأمام في هذا الاتجاه، مقارنة بسلفه بوش، فإن الوضع العربي والفلسطيني لا يفعل شيئا آخر سوى إرجاعنا خطوات إلى الوراء. فالشعوب العربية مغيبة، والحكومات العربية ما زالت بعيدة كل البعد عن إسماع صوت موحد في دوائر صنع القرار الدولي في اتجاه عزل إسرائيل وإيقاع عقوبات بحقها لانتهاكها المستمر للقوانين الدولية، كما أن الوضع العربي لازال عاجزاً عن الـتأثير في الرأي العام العالمي عموما والغربي خصوصا من أجل تغيير نظرته المتعاطفة مع إسرائيل، والتخفيف من احتكارها المفروض على تمثيل ضحايا المحرقة. مع ذلك فإن التعبئة الغير مسبوقة للجاليات العربية والمسلمة في الغرب ضد العدوان الإسرائيلي، ساهمت بشكل فعال في الحد من تأثير الدعاية الإسرائيلية في الخارج.
نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، تنبئنا أن هناك دورات جديدة من العنف والقتل تنتظر منطقتنا. لكن لا شيء يبرر إسقاط سلاح عزل إسرائيل وكسب تأييد الرأي العام العالمي، من أيدينا. فربما يكون هذا السلاح هو سلاح الضعفاء، لكنه بالتأكيد سلاح شديد الفاعلية في معارك كهذه.

(كاتب سوري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى