سمر يزبكصفحات ثقافية

رائحة القرفة – 2

null


سمر يزبك

لم يكن سوى خط الضوء الذي تحول إلى إشارات طريق قادت حنان إلى الهاوية، وجعلتها تودع خيال عليا من وراء الستارة، بعينين مفتوحتين كمغارتين. تضغط بيدها على كتفيها لتسمع طقطقة عظامها وتتأكد أنها ليست في حلم، ثم تندس في فراشها، وكلها ثقة بأنها ستصحو في حال أفضل.

لكنه خط الضوء أيضاً، الذي تحول في الكابوس، إلى سوط نار يجلدها حتى يهترئ لحمها، وتنفر عظامها. ثعبان نار يخرج من الباب الموارب، وينتهي برأس عليا، وهي تمسك بقطعة لحم رخوة، بين فخذي زوجها. تكبر قطعة اللحم وتتحول إلى أفعى. تركب عليا فوق الأفعى. ينبت للأفعى جناحان، تطير وتدوّم وتخبط الأجنحة بوجهها.

تقوم من كابوسها. تقفز من فراشها ثانية، كملسوعة، تنظر عبر الستارة: ربما كان كابوساً؟ الأمر برمته أحلام مزعجة! كانت تهمس لنفسها، وتحرك يديها في الهواء، تكشَ أشباحاً من حولها، اعتقدت أنها نامت ألف سنة، لكنها عرفت أنها لم تغفُ أكثر من ساعة. طارت إلى مرآتها:

· لن أتحول إلى تمثال من الرعب. ستختفي أطرافي القذرة، وبعد قليل تنتهي من النمو في أي لحظة. كل ما علي فعله أن أتمالك نفسي..أيتها القذرة؟ تضرب مرآتها العريضة في الحائط.

· أين كنت قبل الآن ؟ أنا المرآة، ومن منا لا تعرف عن نفسها أكثر مّما تعرفه الأخرى. لن يكون هناك وقت للحديث بعد هذه اللحظات.

· أعرف أني أتخيل، وكل ما يحدث هو حلم، ليس حلماً. مجرد عرض مؤقت لعقلي الباطن.

تقول لنفسها، وهي تزهو بوجودها أمام مرآتها، تقف على حافة السرير، وتحدق في سطحها الأملس، وكأنما تبحث في منطقة بعيدة، عن شخص تجهل ملامحه:

· لم أطردها. لا يمكن أن أكون طردتها، ما تزال نائمة في غرفتها، تنتظر النهار لتبدأ عملها.

تضرب المرآة بيدها. تحدق في العينين المتحديتين في المرآة، وتهز رأسها بعنف:

· لم أخرج من غرفتي. هذه صور تدور في رأسي المتعب.

تخبط على صدرها وتزم شفتيها. تتحسس ذراعيها وثدييها. تمسك المرآة من طرفيها، تحضنها، وتصرخ:

· ما يزال يشخر. التمساح العجوز، لا يمكن أن تكون اقتربت منه أو التصقت به هكذا. لن تجعل جسدها يقترب من برودته؟

ابتعدت عن المرآة، وأشعلت سيجارتها، وأزاحت الستارة. تأملت الطيور التي تغّير شكلها، وتحولت إلى نثار من النقاط المختلفة الألوان. كانت هناك عدة غيوم بيضاء ترسم أشكالاً مختلفة. تخيلت لوهلة، أن هناك من يراقبها ويجلس فوق الغيوم. أغلقت الستارة، وقفزت فوق السرير. صالبت رجليها، وحدقت في المرآة ببلاهة. تلمح امرأة أخرى تشبهها، تهمس لها بصوت يشبه الفحيح:

· ولكن هل تكذبين على نفسكِ؟ أنت تشعرين بالغيرة عليها. خادمة لا أصل لها، ولا نسب. جعلتك تكلمين نفسك. من يغار من خادمة هزيلة وسافلة تضاجع عجوزاً، وتلتهم قضيبه مثل.. ساقطة؟ إنها تأكلك بما فيك، تنخرك مثل دودة، وتمتص رحيقك.

تنشج بصوت مبحوح وتصرخ:

· أريد أن أضمها إلى صدري.

تشعر بجلدها يحكها، تتحسس وركيها، تشد شعرها بقوة، فتصرخ من الألم. تقفز نحو النافذة. تتخيل أنها سمعت صوتاً يناديها. تزيح الستارة وتفتح النافذة. تلمح بين الغيوم عيوناً شاخصة إليها. تغلق الستارة من جديد، وتتشمم رائحة شراشفها:

· هل جننتِ ؟ رأيتها بعيني.كانت في سريره. عقلك الباطن أيتها العاهرة، أنت تعرفين ما الذي يستطيع أن يفعله عقل باطن بامرأة مهووسة بالبذاءات.

· ليست بذاءات، عليا رقيقة.هشة، ناعمة. ولا أحد تذهب إليه.ستعيش في الشارع.

تصرخ المرأة الأخرى داخل المرآة:

· هي مجرد أصابع، استبدليها بغيرها.

تقف حنان على رؤوس أصابعها، وتنفض شعرها، وهي ترتجف، وتحاول إطباق شفتيها حتى لا تسمع ما يردده صوتها. تلتصق بالمرآة، وتخفي خيالها بكفيها.

تبتعد عن المرآة، وتختبئ في سريرها. تتكور حول نفسها مثل كرة. تغطي رأسها بالملاءة. تترك عينيها مفتوحتين في المرآة، تغمضهما ثم تنشج وترتعش. تسد أذنيها بالملاءة، فيكبر الصوت:

· لم يكن حلماً، اركضي إلى الأسفل. آثار لعابها على جلده السميك. آثار شفتيها فوق جلده، انظري إلى نفسك أيتها الشقية، وابكي ما شئت، فقد تحولت أيامك إلى كوابيس.

رمت الملاءة على الأرض، وقفزت فوق السرير، ثم سقطت تحاول النهوض من جديد. كان السرير يتحول إلى بركة رمال متحركة، لا تكاد تقف حتى يهتز تحت قدميها، فتعاود السقوط. تتوعد المرآة:

· لا تتفوهي بحرف واحد، لا تحدثيني عن العذاب، فأنا أعرفه خيراً منك. وأحفظه في صناديقه المخملية هنا. انظري إلي. اضغطي على قلبي وستعرفين قبل أن أكسرك وأحولك إلى شظايا. هل تصدقين أنك عشت؟ أنت مجرد فراغ وهواء. لم تكوني أبداً، لكنك سترتاحين من عذاباتك، لو فعلت خيراً، وأغمدت النصل الشهي في قلبك. هيا افعلي.

تضرب بيدها على قلبها في المرآة. تضحك بصوت عال، وترتسم على وجهها علامات فرح. فجأة تقطب جبينها. وتزم شفتيها:

· لن أفعل. لست متأكدة من شيء.

· كاذبة. أنت تكذبين، منذ أن كنت طفلة حتى الآن، تكذبين وتوزعين ابتساماتك الشاحبة، حتى يدور الجميع حولك ويصفقوا لك. ولكن هل تنظرين الآن أين أنت؟ أنت سجينة خادمة قذرة.

· أرجوك ابتعدي عني. ما هاتان العينان الصفراوان؟ ولماذا يتحول شعرك إلى أفاع عملاقة؟

تقوم أخيراً من بركة الرمال المتحركة، وتخطو بضعَ خطوات متثاقلة. تشعر بنفسها نملة صغيرة، وأبعاد الموجودات حولها تكبر وتتسع. السرير بحجم قطار، والمرآة بحجم سماء، والأرض من تحتها حفرة تهبط فيها مع كل خطوة، لا تقوى على الثبات. وتدخل في نوبة من الارتعاش.

تتهاوى على فراشها.

· لا أستطيع. أنا مشتاقة إليها. لمَ طردتها؟ هل فقدتُ عقلي لأرميها هكذا؟ ربما تعود. من المؤكد أنها ستدق الباب بعد دقائق. لا مكان في العالم تذهب إليه بعيداً عني.

· إذاً احترقي في نارك التي ستأكلك، وتحولها إلى سيدة جديدة للبيت. لن تعرفي ملامحك بعد ذلك.

تقفز ثانية من مكانها، وتخبط على المرآة التي خرج منها صوت قوي، مع صوت الريح الذي جعل الستائر تتطاير في الغرفة، ريح الصباح التي فاجأتها في عز الصيف!

· تكذبين وتعرفين أنني لم أطلب شيئا من الحياة. أريدها فقط أن تعود.

تجلس حنان على الأرض. تخرج من المرآة امرأة مسنة تشبه حنان. كانت صورة الأم تخرج من أعماقها، وتعبس في وجه ابنتها. تخاف حنان وتلفّ رأسها بملاءتها ثانية، كما فعلت عليا عندما هربت من خط الضوء المائل.

تسمع صوت الريح ثانية. وتتلاشى أمها مع الستائر.

* * *

تتلفت عليا بين لحظة وأخرى، تراقب نافذة السيدة. تتمنى أن تُفتح فجأة، وتلوّح حنان الهاشمي بيدها، وتدعوها للعودة. لكن النافذة بقيت مغلقة، والكعب العالي لم يساعدها على السير بثبات.

تشعر ببرودة يقشعر لها جلدها. حقيبتها ثقيلة، ولا تعرف بالضبط، الأشياء التي ألقت بها إلى جوفها قبل أن تغادر. لكنها تذكر أنها خبأت الصورة أولاً؛ الصورة الباهتة الممزقة الحواف، وأربعة مجلدات من الكتب القديمة، تحمل عنوان كتاب أثير حفظته طوال السنوات التي قضتها في خدمة سيدتها. كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي سرقته من المكتبة خلسة، بعد أن مُنعت من دخولها، ومنه تعلمت كيف ترسم الحكايات بالصور، وأطلقت عليه عنوان الجدة بعد أن شاهدت في التلفزيون، كيف تتحول مهمة الجدات إلى سحر يومي، وهن يروين حكاياته للأحفاد. كانت تحلم أنها حفيدة مدللة، ولديها جدة تضع نظارات مذهبة، وتجلس قرب سريرها النحاسي، تروي القصص، وتنقل حلمها إلى أرض الواقع، في آخر الليل.

لقد جعلها هذا الحلم تخلق مسرحا صغيراً فوق سريرها. تمسك بالكتاب مثل جدة رزينة، تسعل بوهن، ثم تقرأ بصوت خافت لكنه مسموع، وهي تضع نظارات سرقتها من خزانة السيدة. تجد صعوبة في ذلك؛ فالنظارات شمسية، وذات لون بني، بحيث تصبح القراءة صعبة عليها، فتجعل النظارات في أسفل أنفها، لأن الزجاج البني يحجب الرؤية، ثم تتوقف بين مقطع وآخر، وتنظر إلى يسارها، وتحدّث حفيدتها المفترضة عليا. وبعد أن تنهي حديثها تترك الكتاب جانباً، وتستلقي، وهي ترجو جدتها ألاّ تتوقف عن القراءة حتى تنتهي الليلة. ويدرك شهرزاد الصباح. كانت تحفظ كل قصص الكتاب، وتعرف شخصياته، وتبكي كثيراً من أجل أميراته الجميلات وعشاقه وعاشقاته، وتُفتن يوماً بعد يوم، بشخصية شهرزاد. كانت تتمنى لو استطاعت أن تفعل مثلها، ولكن من يصغي إليها!

ولم تعد تُجِدْ رواية القصص فقط، بل برعت برسمها وتمثيلها. أحياناً تتمتم بتعاويذ حفظتها من الكتاب، لتطرد الأرواح الشريرة، ولتجعل نفسها في مأمن. تتقمص دور الساحرة الشريرة، فتبقى نهارها عابسة، تنظر إلى من حولها بتوجس وريبة، وتنفخ أحيانا في الهواء مثل تنين، مما يضطر الطباخة إلى الابتعاد عنها، وهي تؤكد لزوجها، أن الخادمة السوداء القذرة مجنونة، ومسكونة بالجن. صار الكتاب حديقتها السرية، ولم تكن لتتركه رغم أنه ثقيل وأوراقه مهترئة، ورغم خوفها من ملاحقة السيدين لها بتهمة السرقة، لكن ذلك لا يهم، ستأخذه معها. لفته ببعض القمصان ورمته في أسفل حقيبتها، ثم وضعت فوقه كل رسوم الحكايات التي حفظتها عنه، وكانت خبأتها تحت فراشها، إضافة إلى الدفتر المخملي الأحمر، ذي الحواف الذهبية، الذي احتفظت به منذ أن بدأت تدون يومياتها في البيت، ومنذ أدركت أن عليها كتابة ذكرياتها في حي الرمل، بعد أن صارت تقضي أوقات الفراغ المتبقية من نهارها، في المكتبة الأنيقة المطلة على شرفة واسعة، حيث احتفظت حنان وأنور بكتب كثيرة، مختلفة الأنواع والأحجام.

بدأت عليا تعبث بالكتب عند تنظيف المكتبة. ومع مرور الأيام، قرأت الكثير منها قبل أن ينتبه السيدان إلى أن الخادمة التي تختفي في أخر النهار، كانت تقضم الكتب مثل فأرة، فمنعاها من البقاء في المكتبة، فلجأت إلى الحيلة، تحمل كتاباً تحت ثيابها، وتصعد به، وتقفل الباب عليها، وتلتهمه بفرح. ثم تعيده في الصباح، بنفس الطريقة.

وصارت تكتب كل ما يحدث لها، وتحتفظ به في دفترها المخملي الذي سرقته من المكتبة نفسها؛ الدفتر نفسه الذي كانت تمرره على خدها، في الكثير من المساءات التي قضتها وحيدة تنتظر أمها، وتفكر أن ملمس نعومته على خدها، شبيه بفرحها الذي يتصاعد من قلبها، وهي تلمح ابتسامة الأم الشاحبة.

وضعت الصورة الممزقة داخل الجلد المخملي، وأخذت تحشو، كيفما اتفق، ما وصلت إليه يداها من أدوات الزينة التي جلبتها لها سيدتها من بيروت، وأثواب الشيفون الليلية المطرزة التي تملأ خزانتها. اكتشفت وهي تدفع بكل تلك الأشياء، أنها لا تملك سوى بنطلون من الجينز الأزرق، وقميص أبيض اللون. وعدا ذلك فكل الأثواب المحشوة بها خزانتها، هي للنوم أو للخدمة في المنزل.

وسط هذا الحمل الذي يثقلها، لم تكن حريصة على شيء، قدْرَ حرصها على الصورة المهترئة. كانت الصورة هي الدليل المادي الوحيد الذي يثبت أنها لم تولد يوماً من جنون الريح، وأنها انتمت ذات يوم إلى أسرة، رغم أن حياتها كانت تعيش في عقلها بثبات عنيد.

تسترجع تفاصيل الصورة وقطعة الشوكولا، فتضغط أصابعها على الحقيبة. تتوقف. تنظر إلى الوراء، فتبدو النافذة أصغر مما كانت عليه قبل قليل. تحمل حقيبتها في حضنها. تقعد تحت شجرة ملاصقة لسور رخامي. تفتح الحقيبة، وتقرر أن تستريح دقائق أخرى. ربما غّيرت السيدة رأيها وفتحت نافذتها!

تعيد العبث بأغراضها. تنزع عن الصورة كل ما يحيط بها. تحملها بكفيها بعناية. الفجر ما يزال في أوله، والصورة بدت ملونة بأزرق رمادي وأصفر معتم، لكنها الصورة نفسها التي تحملها الآن بأصابع مرتجفة، وتنتظر معها أية حركة قد تظهر في نافذة مغلقة.

تتأمل وقفتها؛ مختبئة بين أسرتها. كانت ما تزال في الرابعة من العمر، سمراء، قاتمة، ترتدي سترة صوفية لا تستر سوى أجزاء من جسمها الصغير، تكشف الكوعين، وفي وسطها تنسل الخيوط، فينفر بطن الصغيرة عليا، ولا يستره السروال البني الغامق، لأنه كان يبدو واسعاً على خصرها الضامر، ويكشف جانباً منه، بينما تغطي الجزء الباقي أكوام اللحم الأخرى التي التصقت بها. الجميع في الصورة يحدقون في الكاميرا. عليا، إخوتها الخمسة، الأب، الأم. ومن ينظر إليهم سيرى دهشة علت وجوههم. تذكر عليا أن تلك هي الصورة الوحيدة التي التقطت لعائلتها من قبل صحافية كانت تجول في الأزقة، وتلتقط الصور، وتوزع الابتسامات وتشتري للأطفال الشوكولا.

هذه الذكرى لم تغب عنها في يوم من الأيام، ليس من أجل الشوكولا التي لم تذق طعمها، ولا بسبب الصورة، ولكن لأنها ما تزال تذكر الألم والضرب المبرح الذي تلقته من والدها. عشية ذلك اليوم، لحق الأطفال بالصحافية، وضحكوا لها، واختبأوا في حجور أمهاتهم عندما اقتربت منهم، ونظرت كالبلهاء إلى كتل اللحم المكومة بين أرجل النساء وفي أحضانهن، وإلى البطون المنتفخة.

كانت عليا تشد شعرها بإصبعها، وتفتل خصاله المجعدة بحركة عصبية، وهي تحدق في شعر الصحافية الأصفر، وتقفز بين حين وآخر، محاولة تلمسه، فهذه المرة الأولى التي ترى فيها شعر امرأة شقراء، لأنها لم تخرج من تلك الأزقة، طوال سنيها الأربع. وفكرت في حينها أن هذه الفتاة ستجلس بعد قليل، في بيت جارتهم التي تملك تلفزيوناً صغيراً، وستدخل إليه، وتتحول إلى لعبة بلاستيكية، أو ربما إلى فيلم كرتون.

نظراتها الحادة، والبياض الناصع المحيط بحدقتيها السوداوين، وبشرة وجهها المحروق، تعطيها منظر حيوان صغير متوحش. وكان الأطفال من حولها يخافون التحرش بها، خوفاً من الخدوش العميقة التي سترسمها على وجه أحدهم، عندما يتجرأ ويعتدي عليها.

في يوم الصورة الذي تذكره الآن، وحيدة في هذه الغبشة الصباحية الزرقاء، حصلت على كمية كبيرة من الشوكولا، وتحلق حولها الكثير من الأطفال، وهم يحاولون الاستيلاء على نصيبها. كانت تنسل منهم، فيلحقون بها، وعندما أمسكوها، بدأ عراك لم يتوقف إلا بالضربات التي انهالت على رؤوسهم، من الأمهات اللواتي حاولن تفريق المشاجرة، وهن يدعين على الشقراء التي نغصّت نهارهم. وعندما عادت عليا من العراك، كان الجميع قد داسوا الشوكولا بأرجلهم، وهم يتخاطفونها، ولم يحصل أي منهم على ما أراد. وتحولت الشوكولا إلي سائل لزج زاد ملابسهم قذارة، وهم يمدون ألسنتهم ويمسحون أصابعهم الملوثة بالقليل منها.

كان النهار قد انتهى، والأولاد تعبوا من الركض والقفز، وانسحب معظمهم خارج بيوتهم إلى المقبرة، ليدّخنوا ما استطاعوا لمه وسرقته من سجائر، أو بقايا السجائر، وأية فضلات يتركها الأحياء الذين يزورون موتاهم.

المقبرة مخبأ أسرار أولاد الحي، ومملكتهم التي تقاسموها بطريقتهم. سمحوا لبعض البنات بالتواجد أحياناً، خاصة كاتمات الأسرار اللواتي يدخّن مع الصبيان، ويتآمرن على أولاد الحارات الأخرى. وعليا كانت من البنات غير المؤتمنات على أسرار المقبرة؛ فهي لا تدخن بقايا السجائر، ولا تسمح للصبيان بفرك مؤخرتها، ولا ترضى أن تنظف حول القبور، قبل أن يأتي الصبيان أصحاب المُلك، لذلك كان قسم كبير من صبيان الحارة، يكنّون لها العداء، وقد وجدوا فرصة مناسبة للانقضاض عليها، وهي تهرب لاهثة بقطعة الشوكولا التي تبعثرت. تمد لسانها، وتلحس ما يمكن التقاطه من سائل الشوكولا الذي امتزج بالمخاط النازل إلى فمها، وتبلع ريقها، فلا تصل إلى طعم الحلاوة.. ولما كان الظلام يشتد حلكة في الحارات التي لا تضيئها إلا أنوار خافتة تنبعث من النوافذ الصغيرة، فقد خافت أغلب البنات واختفين، داخل بيوتهن.

كان هناك بنتان تساعدان عليا في خصوماتها الكثيرة مع الصبيان؛ الأولى أكبر من عليا بسنة، وتشبه فأرة بقامتها القصيرة، وأطرافها النحيلة، وبطنها المنفوخ، وأسنانها الناتئة. تمسك بيد عليا في الخصومات. تنطّ على ظهر الصبيان، وتعضّهم من مؤخراتهم. أما البنت الثانية فكانت طويلة، ولها كفان تشبهان أكف الرجال الكبار. ورغم صغر سنها، فقد رافقت أختها الكبيرة للخدمة في البيوت، وكانت تعود، وهي تخبئ في عبّها الكثير من الأشياء الجميلة: السكاكر، الحلوى المطاطة كما تسميها، جنوداً من المطاط، فردة حذاء دمية، مشطاً ملوناً للشعر، وروداً بلاستيكية تسرقها من الصالونات الكبيرة التي تساعد أختها في تنظيفها، وتزين بها نافذة بيتهم.

كانت البنتان تحيطان بجسد عليا مثل حبل ملفوف، تبصقان في وجوه الصبيان الذين يمدون أياديهم إلى الأسفل، ويرسمون إشارات بذيئة حول أفخاذ البنات، فيجن جنونهما، وتصرخان بمسبات أكثر بذاءة من حركات الصبيان. ومع ذلك، عندما سمعتا أصوات الرجال الغاضبين، هربتا، وتركتا عليا وحيدة في مواجهة الأولاد الذين تحلقوا حولها، يريدون الاستيلاء على ما تخبئه في كفها، وهي تواصل الهرب، وتنزلق في الأزقة. وقبل أن تكتشف المكان الذي تنط وتدور فيه، كان الصبيان يعتلون ظهرها. أحدهم يشد شعرها، وآخر يعضها في يدها المضمومة، التي فتحتها بعد أن لوى الصبي الثالث ذراعها. وكانت المفاجأة كبيرة، عندما اكتشفوا بعد طول عذاب، أنها لا تحمل قطع الشوكولا، ولم يجدوا في كفها المضمومة غير المذاق الحامض الذي خرجوا به، وهم يحاولون لحس باطن كفها بألسنتهم. فصاروا يبصقون، ويركلونها ويسبونها. هدأت في البداية، واستسلمت لهم، وما إن ركضت بعيداً عنهم، حتى حركت أصابعها باتجاه مؤخراتهم، وسبت أمهاتهم، ولعنت المكان القذر الذي جاؤوا منه إلى الدنيا، وصارت تصيح: “رجل ابن رجل يلحق بي” وكانت هذه الجملة كافية لتثير جنون الصبيان الذي لحقوا بها، وتوعدوها، وهي تقفز بسرعة، يساعدها جسدها النحيل، الرشيق، ومعرفتها بانحناءات وتعاريج الأزقة في الهروب منهم. كانت تتجه إلى بيتها، لتصل بر الأمان قبل أن يتمكنوا من الإمساك بها. ولم تنتبه إلى أن أحد الصبيان قد سحبته أمه من الطريق، وضربته وجرته من يده ليدخل البيت، وبقي اثنان شعرا بالخوف، والظلمة تشتد، والقطط السوداء ذات العيون المضيئة، تتسلق الجدران، والأضواء تغيب، فتصدر الريح أصواتاً بين الأزقة الضيقة، تشبه صفير الأشباح. مع ذلك لم يكن التراجع وارداً، لأن عليا كانت تلتفت إليهم بين وقت وآخر، وتشير بإصبعها إلى مؤخراتهم، وتغلي غضباً، بعد أن حرمت من قطعة الشوكولا الغريبة، ذات الطعم الذي لم تذقه في حياتها.

قبل أن تصل إلى أول الزقاق المؤدي إلى الغرفة التي تسكنها مع أهلها، كانت أصوات أسقف التنك ترتفع، ومواء القطط يشتد، ومطر خفيف بدأ ينهمر، فتباطأت، وانتظرت أن يأتي أعداؤها. ولم يكن انتظارها طويلاً، فبعد لحظات، ظهر الصبّيان، ووقفا أمامها. كانت تلهث مثل جرو، وتضع يديها حول خصرها، وتنظر بتحدٍ إلى الصبيين اللذين يدوران حولها، وقد قررا التفنن في تعذيبها، لكنها فكرت بأمر واحد: كيف تصل إلى ظهر أحدهما، وتلتصق فيه، وتعضه من رقبته. لقد رأت القطط تفعل ذلك، وجربت يوماً أن تفعل هذا مع الصبيان، ونجحت، وصار الصبيان بعد حركاتها تلك، يخافونها.

نطّت فوق ظهر أحدهما، بعد أن انسلت من تحت رجليه، ومزقت قميصه، وغرزت أسنانها في رقبته، وبدأ الولد يصيح. أما الصبي الثاني فكان يشدها من شعرها، لكنها التصقت بجسد الأول، وصارت جزءاً منه، وهو يزعق، وخرج الجيران، وذهلوا من منظر البنت الصغيرة المعلقة في رقبة الصبي. كانت تغمض عينيها، وتشد عظامها، وتلف وركها حول خصره، ولولا صراخ الرجال والنساء من حولها، خاصة أم الصبي التي صفعتها، لبقيت معلقة به. ورغم ذلك لم تفتح عينيها، لكنها قفزت فجأة، وأيقنت أن الأمر تجاوز حده، بعد أن تدخل الكبار. وما كادت تبتعد، حتى كانت الأخبار سبقتها إلى بيتها، إذ نقلها أهالي الصبيان والجيران الذين دقوا باب الغرفة الصغيرة، فارتجت صفائح التنك فوق رؤوس أهل عليا.

ارتجفت عليا، واكتشفت أنها قد غفت. تطلعت نحو الأفق. لم تكن سوى غيوم تجاهد الشمس كي تشرق من تحتها. وفي الجهة المقابلة، غيرَ بعيد من السور الذي استندت إليه، كانت النافذة ما تزال مغلقة. نظرت ملياً في الصورة وتنهدت، دستها في الحقيبة وأعادت إغلاقها. عاد الشعور بالبرد يصك أسنانها. قامت، وحملت حقيبتها وتابعت سيرها.

بإذن من الكاتبة سمر يزبك، خصيصا لصفحات سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى