صفحات العالمما يحدث في لبنان

التحولات السياسية اللبنانية في الوقائع والأوهام

سليمان تقي الدين
لم تكن التحولات السياسية الجارية في لبنان مفاجأة إلاّ للذين لا يعرفون تماماً المحرك الاساسي للقوى والمصالح الضاغطة عليها. خلال السنوات الماضية حصل تبدّل كبير في المناخ الاقليمي والدولي جلب الى لبنان وقائع قاسية فخرجت القوات السورية من لبنان وانكفأت سوريا على معالجة أزمة علاقتها بالمجتمع الدولي وجزء من المجتمع العربي. ثم شنت “إسرائيل” حرباً على لبنان، وانفتحت الساحة اللبنانية امام مروحة واسعة من المداخلات الخارجية.
لهذه الأسباب شعرت جميع القوى والتيارات والجماعات الطائفية أن تعديلاً مهماً سيحصل في موقع ودور لبنان، وأن احتمالات تعديل التوازنات الداخلية وحتى النظام السياسي محتملة أو ممكنة.
نشطت جميع القوى لمواكبة هذه الاحداث وذهبت بعيداً في الرهان عليها. انقلبت فئات على تاريخها السياسي والثقافي وإرثها وتغيّر مزاج جمهورها وانطلقت حملات تعبئة سياسية غير مسبوقة لأخذ الجمهور نحو التكيف مع المناخ الجديد.
لكن الموجة الغربية التي حاولت اخذ لبنان خارج موقعه العربي وعلاقاته الطبيعية مع سوريا وحاولت أن تخلق مناخاً تصادمياً مع المقاومة انكسرت بفعل الأوضاع الاقليمية التي ساهمت في تراجع المشروع الامريكي واندحار الحرب “الاسرائيلية” على لبنان.
منذ تلك اللحظة بدأت المراجعات السياسية ولو على نارٍ هادئة. بقيت بعض الاوهام والحسابات الخاطئة لدى الكثير من الافرقاء وحاولت الجبهة السياسية التي تشكلت من تحالف مجموعة من ممثلي الطوائف أن تطيل عمر مشروعها السياسي وأن تضخ فيه البرامج والشعارات كما أن تؤمن له الدعم الخارجي.
في السابع من مايو/أيار 2008 حصل تصادم داخلي بين ما كان يعرف بالموالاة والمعارضة على خلفية الخلاف على سلاح المقاومة، فكانت النتيجة أن البلد أشرف على احتمالات حرب أهلية من تداعياتها التأثير السلبي في الأوضاع العربية، فبادرت الدول العربية بإجازة من القوى الدولية لاحتواء هذا النزاع وترتيب “تسوية الدوحة” التي كرست نوعاً من التوازن السياسي الجديد في السلطة.
لقد قرأ بعض الفرقاء جيداً حادث 7 أيار/مايو فهو رسم خارطة جديدة على الأرض وأظهر احتمالات سيطرة فريق المعارضة على جغرافيا بشرية كبيرة من البلد، وظهر ان القوى الخارجية عاجزة عن حماية أي فريق داخلي من التعرض لصدمة تضعفه او تفقده توازنه. كما بدا واضحاً أن استمرار المواجهة السياسية قد يوسع دائرة العنف وليس في مقدور أحد السيطرة على نتائجه، وأن فئات من اللبنانيين قد تدفع الثمن اكثر من غيرها بحكم تموضعها الجغرافي وحجمها السكاني ومواردها وخطوط امدادها.
بدأت المراجعة السياسية في أفق الاحتكام مجدداً للانتخابات النيابية التي تمت في 7 يونيو/حزيران والتي اعادت انتاج الاكثرية النيابية نفسها، لكنها اعادت انتاج ازمة المشاركة بين الجماعات الطائفية، لان تلك الانتخابات فرزت البلاد طائفياً الى ابعد حد.
صار من نافل القول إنه لا يمكن ان تدار شؤون البلد من دون حكومة تتألف فيها هذه القوى وصار الاعتراف بهذا الواقع مقبولاً من اكثرية القوى إلاّ أحزاب مسيحيي الموالاة الذين أرادوا الاستقواء بالانتخابات وبرصيد حليفهم المسلم لتسديد ضربة الى تيار مسيحيي المعارضة.
صار تأخير تأليف الحكومة عند هذه النقطة. ثم تم إيجاد مخرج أعطي من خلاله رئيس الجمهورية الدور المسهل لإخراج الصيغة عبر وديعتي الفريقين، فلم يعد الحديث عن الثلث المعطل والأكثرية وصار الحديث عن شراكة مطمئنة للجميع. لم يلتقط الرئيس المكلف تأليف الحكومة هذه الفرصة وهو تباطأ في اتخاذ خطوة جريئة باتجاه الفرقاء الآخرين وكذلك سوريا رغم النصح السعودي. ثمة من ساهم في الداخل والخارج وبالايحاء بامكان تحسين شروط التسوية وعدم تقديم التنازلات الضرورية، لكن مصالح فرقاء الجبهة السياسية أو التحالف الذي ينتمي اليه ليست متطابقة.
فهناك داخل هذا التحالف جبهة باتت أوضاعها تضغط عليها باتجاه تصحيح علاقتها بالمعارضة وسوريا. وهي كانت ستفقد دورها إذا ما انتظرت طويلاً خلف صفوف الآخرين، ولا يعود بالتالي لديها من ميزة للتموضع في المواقع الجديدة.
لم يدرك الرئيس المكلف هذه الحاجة لدى حليفه هذا الذي سارع الى اتخاذ خطوات تطبيعية مع المعارضة وسوريا لأنه أدرك أين تتجه الريح وان التفاهم السوري – السعودي قد اكتمل أقله في إدارة الموضوع اللبناني.
لقد أحدث خطاب هذا الفريق واندفاعه في المصالحة صدمة في اوساط حلفائه لأنهم ما زالوا غارقين في لجة الشعارات بينما المياه جارية تحت الجسور. أحس رئيس الحكومة المكلف بالمرارة ربما بالطعنة او حتى “الخيانة” لأنه لم يختبر جيداً بعد اللعبة السياسية اللبنانية ولم يتعود على التقلبات فيها، فغادر البلاد لائذاً بالصمت مستكشفاً آفاق المرحلة ومعانياً من فقدانه رصيد الاكثرية النيابية التي تعطي الأرجحية السياسية. ولم تنفع التطمينات
هنا بأن ترد اليه المبادرة، لكن المؤكد ان التوازنات الجديدة صارت واقعاً وعليه ان يتعامل معها على أساس انه احد الاطراف الأكثر تمثيلاً وعلى أنه الشريك الفاعل لكنه ليس الطرف الوحيد المقرر.
ولعل تأخره في التحرك سريعاً لمعالجة الأزمة يفقده اكثر القدرة على التحكّم. ومن ينصحه بهذا الاعتكاف لا يفيده.
إن احتواء التطورات هو سمة من سمات رجل الدولة ورجل السياسة. لقد صارت العلاقات اللبنانية – السورية والعربية في مكان آخر غير ما يراهن عليه بعض القوى اللبنانية.
كما أن معطيات الداخل اللبناني لم تعد تسمح ان يبقى الجميع حيث كانوا منذ خمس سنوات. الاستجابة للوقائع خير من المعاندة في الافكار او الاوهام. عاجلاً ام آجلاً الحكومة ستشكل وفق موازين القوى الجديدة القائمة على استبعاد فكرة الهيمنة والفريق المسيطر. ومن يكابر هو الذي سيدفع الثمن مزيداً من التنازلات كلما كبرت الوقائع وتراجعت الأوهام.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى