صفحات ثقافيةمرح البقاعي

شعب الله المنفرط

null
مرح البقاعي
“بحرص النهاية على إرثها” أرتدّ إلى الورق بعد انكفائي الاختياريّ عن لوثة الكتابة بلغة الضاد. هي صحوة مَواتِ الكلام التي جرجرتني إلى خندق هذا النص، وَهُمُ “حَمَلة برازخ” سليم بركات الذين ساقوني قسرا إلى حتفي العربي الهوى والاشتقاق. وهي “غزالة المهجورات” التي تسابق لهاثي اليوم، في نهار خامد آخر من نهارات واشنطن، باتجاه زئبق الغريزة “من الخميس الثالث”.
هو ذلك الكردّي السائح في خلايا الشِعر، يرجّ حليب دماغي هذا الصباح، حين لسعت أصابعي حروفُه – الجمراتِ من مجموعته الشعرية “شعب الثالثة فجرا…”. هو الشاعرُ الطعينُ الواحدُ من شعب الله المنفرط في مغبّات الأرض، والمتقمص لسفر الحجل عبر حدود يرسمها الضباب على سمرة خدّ جبل أرارات الواجم.. هوأرارات الشاعرة لويزغلاك أيضا (louise Gluck’s Ararat) حين سجّلته قصيدا في الحب والذاكرة والأقداس.. أرارات شبق الصخر حين يختلط الدم الكرديّ بإرهاصات الشعر وانشقاقات ظله العالي.
يتحدّرون من تاريخ العنب الحامض، يجرّون أكفانهم الطازجة منذ انكشاف عورة الثورات، يتشظون بلّورا داكن البشرة لا تلملمه إلا رعشة الماء حين يندلع في أصابع شاعر ملتئم في عزيفه، يصيرون من المجهول إلى المجهول، يطرّزون ملاءات نسائهم بنجيع خبزهم المحترق في تنّور العدم.
التقيتهم على شفير المسافة التي فصّلوها وطنا على مقاس الغمام “أمما تُقْضَم كزبيبٍ في الشتاء” أوهكذا شُبّهَ لي في خلوتي مع قتلاهم الذين انتشروا في كيمياء المدن المغدورة. شعب خارج مفاعيل المسرّة، ينتمون إلى الضوء أو الملح أو الكآبة، أو.. لا ينتمون. هم شعب الثالثة فجرا وحسب!
نصّ سليم بركات الممدودِ انقلابٌ مكنيّ في شيفرة الاستعارات، امتلاء بذبذبات سريّة من الغواية الطاحنة، اقتباس للملغيّ من توابل العصب المشدود من الجرف إلى الجرف، طقس من هزيع الانفلات في المجرّات، وصعود إلى حافات سرير لا يليق إلا بالخواتم.
يتفنن بركات في وصفة السمّ البريّ يحضّرها من خلطة أعشاب نوروز الوحشية، يتناوب على اللدغ والعضّ، مرة في الحنجرة ومرات في الذاكرة: “مأزق السكّر في الناطف”، ناطف العيد، شبق من اشتقاقات الحنّة في كفوف الحريم خلف شبابيك دمشق الضيّقة.. آه كم قطعة من سكّر القلب لم تتكسّر بعد تحت ضربات حوافر الأمكنة الهجينة.. من لم يذق رغوة الناطف لن يعرف كيف تضرب دمشق بلورات السكّر حتى يتحول إلى مادة من اللزوجة البيضاء المختصّة بالمتعة السريّة.
شعب الثالثة فجرا حين المدينة داخلة في حريرالنوم: يستيقظون على خشونة اصطكاك أسنان الحَجَر، يكاد الأزيز يقضم آذانهم من نزق حشرجة ارتطام الحديد باللحم.. حين المدينة مترنحةً على تغريد عسل الفجر الرطب!
شعب الثالثة فجرا حين غلالة ُ السماءِ مفكوكةًٌ كاشفة خطّ النحر، حين عواءٌ أجوفُ يضغط خيوطَ الضوء حتى لا ينفلت الأنين من مسامات الله: رجال يجَرجِرون أقدامهم في عراء الأوكسجين الثقيل، بعنف يفترقون عن حلمات نسائهم وعن غرق أطفالهم الغامض في فراش من علق!
كل المعصيّات تودي إلى مذبح الإلهة فيرونا، فمن سيهرّب الجلاّد من رجع خطاهم؟
كل الصهيل اختزال لطريح الجبال، من سيفكّ لوغاريتمات ميعادهم في أرض؟
مكبّلو زمن مثقوب في القعر.. جدائل نسائهم مفكوكة على وقع البنادق حين تلج فائض الأحراج، قبعاتهم غَزْلٌ من حِبال المسافة وأقدامهم طين القارات. ما أشهروا سلاما إلا قنَصته مخيّلة الاقتراف، وما نكّسوا عهدا إلا انقلبت بهم الفصول. مسكوبون من جرار التعب، يغدقون العنب على العالمين دون أن يسكر لهم جفن.
شعب نَعَسِ الوعورة حين تستسلم لشريعة الحافات، وبهجة مدن مهاباد، أربيل، وقامشلو حين تلف العروس طرحتها لتستقبل قيامة العشب على الأضرحة المغمورة بحراشف الريح التي لا تلين.
شعب غدقِ المزامير والرايات تموّه سلاسل الكانتونات في الأمكنة التي تنكر عليهم الهوية، ليتّخذوا من المواويل جواز سفرهم إلى التخوم. عصيّون على ظلهم، يداولون المسافة صرخة صرخة حتى تضحك لمنابت شَعرهم الحجارة، ” لا يقتلون إلا في عرس” أو لا يقتلون أبدا.
شعب الله المنفرط في هزيع الأرض.. يتكئون إلى حافة الروح ليشهروا كأس الغواية.. حميمون أو خوارج، ينبشون الرمل ويطلقون للريح المائدة: أخشابهم معبر، وزيتهم قديس.
شعب الله المنفرط في هزيع النفس.. يتكئون إلى حافة الروح ليشهروا كأس الغواية.. حميمون أو خوارج، ينبشون الرمل ويطلقون للريح المائدة: دانيهمُ أرز، وثلجهم معبد.
شعب بركاتٍ في حمأة الثالثة فجرا حيث ” في كل قيامة، إلهاً لم يحسم بعد اختيارَ أنبيائه، وأنبياءٌ لم يحسموا، بَعْدُ، اختيار إلههم”.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى