صفحات مختارة

الدولة والجامع

سليمان تقي الدين
علاقة الدولة بالدين في الشرق الأوسط، معقدة، مركبة، متفاوتة. هناك ثلاث دول دينية عملياً: إسرائيل اليهودية، المملكة العربية السعودية الإسلامية (الوهابية)، الجمهورية الإسلامية الإيرانية (الشيعية). عدا ذلك كل الدول تأخذ مسافات متفاوتة عن الدين، برغم النص في أغلبية الدساتير العربية، أن الإسلام أحد مصادر التشريع. واقعياً وباستثناء قوانين الأحوال الشخصية فإن السائد في غالب الدول العربية هو القوانين الوضعية. إن أغلبية الدول العربية الآن تعتمد على أنظمة سياسية تأخذ بالأشكال الغربية.
تاريخياً الدولة التي قامت في العالم العربي والإسلامي «دولة سلطانية». الفكر السياسي الإسلامي سعى في الماضي إلى إيجاد معايير وقواعد أقرب إلى «العدل الإسلامي»، من خلال ما كان يسمى «الأحكام السلطانية».
نحن الآن نعيش أزمة علاقة التناقض بين هوية الدولة وواقع المجتمع. هذا التناقض له بُعدان: الأول هو عدم التزام الدولة العربية بثقافة المجتمع، والثاني هو عدم انسجام مصالح القوى المسيطرة مع مصالح أكثرية المجتمع.
واقع الحال أن مشكلة الدولة العربية المعاصرة أنها لا تلبي ولا تشبع الحاجة إلى التعبير عن الثقافة والكرامة القومية، فهي دولة غربية تأخذ بقواعد المصالح المرتبطة بالخارج أكثر من الارتباط بطموحات الأمة. لم تتحرر الدولة من النفوذ الغربي ولم توفر مقومات الاستقلال ولم تؤمن المشاركة السياسية ولم تنجز التنمية التي تأخذ بالاعتبار الحاجات الأساسية للمواطنين.
تستخدم أكثرية الدول العربية الآن الإيديولوجيا الإسلامية وتقيم علاقات تكامل وتساند مع «الجامع» وسلطات المؤسسة الدينية بهدف مواجهة الحركات السياسية الشعبية الإسلامية التي تتخذ من القيم الدينية المتعلقة بالعدل والحرية عناوين لمواجهة الدولة.
نحن لا نواجه الآن «دولة الخلافة» ولا «دولة ولاية الفقيه» بل نواجه «دولة ولاية الزعيم المسيطر» المبذّر المفرّط بحقوق الشعوب المعنوية والمادية، وليس الزعيم الملتزم بالقيم الإسلامية. الأنظمة التي تأخذ بأشكال الديموقراطية الغربية بديلاً من نظام الشورى لا توفر الشروط الموضوعية لقيام الديموقراطية، بما هي نظام المشاركة المفتوحة على المساءلة والمحاسبة. نحن في دول تستخدم بعض وسائل الديموقراطية والقانون ولا تبني الدولة الديموقراطية ودولة القانون.
جرّب العرب الأنظمة الليبرالية في مرحلة الاحتلال الأجنبي، ثم الأنظمة القومية التي رفعت شعارات الاستقلال والوحدة القومية والتنمية، ثم الموجة اليسارية التي ركزت على البُعد الاجتماعي من بناء الدولة الحديثة. إن فشل هذه التجارب السياسية هو الذي يأخذ المجتمعات العربية في اتجاه الإسلام السياسي الحركي. لكننا في هذا المجال لسنا أمام مرجعية واحدة.
نكاد اليوم نقسم المجتمع أكثر مما كان منقسماً في مرحلة الصراع القومي أو الصراع الاجتماعي. ما يسمى الآن الصحوة الإسلامية ليس جزءاً من نهضة فكرية وسياسية حقيقية. الفكر الإسلامي لم يتجدّد ليواكب الحياة المعاصرة وهو يلوك جزءاً كبيراً من مشكلاته التاريخية حيث تحوّل إلى حالات من التمذهب.
أحد العوائق الأساسية لبلورة خيار إسلامي للأمة كلها يكمن في إعادة إنتاج العصبيات المذهبية. التعدد المذهبي الذي كان له طابع فكري يغني الثقافة أصبح نقمة، لأنه تحوّل من بُعده الثقافي إلى بُعده السياسي. ثمة شكوى الآن هنا أو هناك من حركات «التبشير» أو «التبليغ والدعوة» التي لها طابع مذهبي معيّن. أمام حال التعايش بين النظام السياسي الرسمي العربي والهوية السنية المذهبية، تبدو حركات الإسلام «المقاوم» بمثابة تابع لمركز القرار الشيعي. حركة «حماس» التي هي امتداد لحركة «الإخوان المسلمين» تتهم بالتشيّع انطلاقاً من هذه القسمة السياسية والمذهبية. لا مستقبل إذاً لمشروع سياسي إسلامي على مستوى الأمة قبل إزالة هذه «العوائق المذهبية». المدخل الحقيقي لإزالة هذه العوائق هو تجديد الفكر الإسلامي، انطلاقاً من النظرة إلى المستقبل، وليس إلى الماضي. الحوار الحقيقي المطلوب ليس جدلاً بين المذاهب الفقهية بل محاولة في تعيين وتحديد ما هو مشترك، وما هي «قيم الإسلام العليا» التي تجمع عليها ثقافة الأمة وكيفية تحقيقها. هذا المطلب ينطوي على مشروع بناء الإسلام المعاصر. والإسلام المعاصر ليس إلا ما ينبع من حاجة الشعوب إلى تحقيق هويتها وكرامتها واستقلالها والتقدم الاجتماعي والتنمية الشاملة التي يفترض أنها تتصالح وتتقاطع مع معايير حقوق الإنسان التي أنتجها الفكر الغربي التقدمي.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى