صبحي حديديصفحات ثقافية

قلق السؤال

null
صبحي حديدي
في ربيع العام 1975 نشر إدوارد سعيد مراجعة لكتاب هارولد بلوم ‘خريطة القراءة العاثرة’، جاءت تحت عنوان ‘الشاعر في إهاب أوديب’، وتناولت موقع المؤلف في الثقافة الغربية، كما استأنست بكتاب بلوم الأشهر ‘هاجس التأثير’، 1973. آنذاك كان سعيد في الأربعين من عمره، يعيش اعتمالاً نظرياً عارماً سوف يسفر عن صدور ‘بدايات: القصد والمنهج’، 1975، كتابه النقدي الأهمّ (في نظر كاتب هذه السطور)؛ و’الإستشراق’، كتابه الأشهر والأخطر في ميدان الدراسات الثقافية. بلوم، من جانبه، كان الناقد الأمريكي الأكثر إحاطة بالشعر المكتوب بالإنكليزية، الكلاسيكي منه والحديث، فضلاً عن إحاطته المبكّرة والمعمقة بمعظم النظريات الطليعية الأوروبية في النقد والنظرية الأدبية والفلسفة. وإلى هذا وذاك، كانت نظريته الأساسية حول قلق التأثير والتأثر تثير نقاشات واسعة، وتعيد التشديد على سجالات قديمة لاح في فترات عديدة، ومتباعدة، أنها طويت أو استقرّ الرأي فيها نهائياً.
وسعيد، الذي سوف يُعمل مبضع الجراحة النقدية العميقة والراديكالية في جسم التراث الأدبي الغربي ونزعة التمركز الأوروبي حول الذات، بدا في تلك المراجعة معجباً أشدّ الإعجاب بهذا ‘الناقد النادر’ الذي يقوّض واحدة من القلاع الكبرى في الأرثوذوكسية النقدية: تلك القائلة بأنّ النصّ هو أرض الأدب، والمؤلّف هو الأب الوحيد: ‘وحده الكاتب الكبير هو الذي يتحدّى قلعة اليقين تلك. ولسوف يرى أنّ الأب نفسه ليس سوى ابن؛ ولسوف يرى أيضاً أنّ عمله يحتاج إلى حماية ليس من الكتّاب الذين سيجيئون بعده فحسب، بل من الكتّاب الذين سبقوه، والذين يذكّرونه بقوّتهم وبسلطتهم السابقة عليه، وبموقعه التالي في خطّ السلالة’.
ولعلّ ما جذب سعيد إلى نظرية بلوم كان أنها، في الجوهر، تشكك في مبدأ استقرار النصوص والكتّاب، بل وتهدد نظام الثقافة بأسره في الواقع؛ وهو الخيار الذي لن يطول الزمن حتى ينهمك فيه سعيد نفسه، وتتبلور خطوطه النظرية والتحليلية في ‘الإستشراق’. وبذلك قرأ سعيد نظرية بلوم حول هاجس التأثير، السابق والقادم الذي يقف خلف العمل الشعري، هكذا: ‘الماضي يصبح تدخّلاً نشطاً في الحاضر، والمستقبل يصبح صورة عن الماضي في الحاضر، على نحو منافٍ للمنطق الطبيعي. ما من نصّ يمكن أن يكون تاماً لأنه من جانب أوّل محاولة للتحرّر من نصّ سابق يضغط عليه، وهو من جانب ثانٍ تهيئة ذاتية لمقارعة النصوص التي لم يكتبها بعدُ مؤلفون لم يولدوا بعد’.
بالطبع، لم يكن سعيد هو وحده الذي اجتذبته شخصية بلوم النقدية، إذْ يصحّ القول إنّ أحداً من كبار المشتغلين بالنقد والنظرية الأدبية لم ينجُ من اتفاق هنا أو اختلاف هناك مع آرائه، على امتداد مسار نقدي طويل امتدّ على أكثر من أربعة عقود ونحو ثلاثين كتاباً، غير عشرات الكتب والسلاسل التي أشرف على تحريرها. وفي ‘موروث الغرب’، 1994، تناول بلوم التراثات الأدبية الغربية ومصائر الأعمال الإبداعية، وكان شجاعاً كعادته حين أشار إلى أنّ الغرب يقوم بتدمير المعايير الفكرية والجمالية في الدراسات الإنسانية والعلوم الإجتماعية؛ وثمة ‘بَلْقَنة’ للدراسات الأدبية، على يد مدارس نقدية مثل النسوية واللاكانية (نسبة إلى المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان) والتاريخانية الجديدة والتفكيكية والسيميائية…
لم يكن بلوم قد بلغ السبعين حين نطق بهذه الآراء، ولكنه في كلّ حال كان في منتصف العقد السادس، ولاح أنّ هذه الآراء تردّد أصداء موقف رجعي محافظ، غريب تماماً عن روحية الترحيب السابقة التي طبعت مواقفه من الفلسفة الأوروبية، ومن المدرسة التفكيكية بصفة خاصة (وهو التفصيل الذي شدّد عليه سعيد في مراجعته). وهكذا كان ‘شيخ النقاد’، كما يحلو للكثيرين أن يلقبوه، أقرب إلى مَنْ يراجع نفسه قبل أن يراجع الموروث الأدبي الغربي، وهي المراجعة التي سوف يعود إليها للمرّة الثانية في كتابه ‘كيف نقرأ، ولماذا’، 2000. المعلومات تنهال علينا من كلّ حدب وصوب، فكيف السبيل إلى الحكمة؟ هذا هو السؤال الكبير الذي ينطلق بلوم من إشكاليته لكي يدخل في ما يشبه ‘التفاوض’ مع القرّاء، حول أفضل القراءات، وأفضل السُبُل للقراءة.
وهو، منذ السطر الأوّل في الكتاب، يعترف أنه ما من طريقة واحدة محدّدة للقراءة الجيّدة، رغم وجود سبب واحد محدّد لكي نقرأ جيداً: هذا النوع من القراءة هو أفضل المُتَع التي توفّرها لنا العزلة، وهو من جانب آخر أكثر المُتع قدرة على علاج النفس. وبلوم يقول، في فقرة بديعة لا تخفى فيها أحزان الشيخوخة، إنّ هذا النوع من القراءة الجيدة ‘يعيدك إلى الآخَرية، سواء في نفسك أو عند أصدقائك، أو الذين سوف يصبحون أصدقاءك. إننا نقرأ لا لأننا لا نستطيع معرفة مقدار كافٍ من البشر فحسب، بل لأنّ الصداقة هشّة سريعة العطب، قابلة للتناقص والإضمحلال، مغلوبة من المكان والزمان والعواطف الناقصة وكلّ أحزان الحياة العائلية والوجدانية’.
ولقد غادرنا إدوارد سعيد قبل خمس سنوات، وهارولد بلوم اليوم في الثامنة والسبعين، ولكنّ سطوة أفكارهما على امتداد تضاريس المشهد النقدي والفكري، واتخاذها صيغة إشكالية مفتوحة، هما الشاهد على أنّ قلق السؤال، وليس طمأنينة الإجابة، كان ديدن الرجلَيْن.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى