الدور التركي في المنطقةحسين العودات

السجال التركي الإسرائيلي ودور العرب

حسين العودات
بعد صمت طويل من قيادة الجيش التركي تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة، وتجاهل كامل للسجال بين رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي والحكومة الإسرائيلية ردت قيادة الأركان التركية بسرعة وعنف على تصريحات قائد القوات البرية الإسرائيلية الجنرال (آفي مرزاحي).
التي انتقد فيها رجب طيب أردوغان على تصريحاته ومواقفه من العدوان الإسرائيلي على غزة وانسحابه من مؤتمر دافوس بعد كلمة شمعون بيريس ومطالبته الأمم المتحدة طرد إسرائيل من عضويتها وذكّر الجنرال الإسرائيلي الأتراك بأنهم (يحتلون شمال قبرص) و(يقمعون الأكراد ويتنكرون لحقوقهم) بل وذكّرهم (بمذابح الأرمن في مطلع القرن الماضي) وبنى على ذلك أنه لا يحق للحكومة التركية أن تنتقد إسرائيل بعد كل (هذه الارتكابات) المزعومة.
من الواضح أن قيادة الجيش التركي دخلت بعد هذا الرد في لعبة التجاذب والتناقض واللوم المتبادل مع الحكومة الإسرائيلية، وبالتالي لم يعد بإمكانها ممارسة أية ضغوط جديدة على حكومة أردوغان لتغير موقفها من الخلاف بين البلدين، وهذه حالة نادرة من التطابق العسكري والمدني في تركيا لم يكن يتوقعها أحد بسهولة، خاصة إذا كانت تحمل في طياتها ملامح تراجع العلاقات التركية ـ الإسرائيلية، وربما تدهورها.
توجد بين تركيا وإسرائيل علاقات استراتيجية واسعة الطيف وقديمة وعميقة، منها علاقات عسكرية (شراء أسلحة، تدريب، مناورات مشتركة، السماح باستخدام المجال الجوي التركي.. وغيرها) واقتصادية (حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين عدة مليارات) واستراتيجية (فتركيا عضو كامل العضوية في حلف شمال الأطلسي، وإسرائيل شريك للحلف).
وسياسية (فكل من البلدين شريك، بدرجة متفاوتة، مع منظومة الدول الأوروبية بالإضافة إلى أن أمن كل منهما (مع اختلاف الدرجة) جزء من المنظمة الأمنية التي تحاول الولايات المتحدة أن تفرضها على العالم بعد استفرادها بقيادته، أي أن العلاقات بينهما لا يسهل تجاهلها أو إلغاؤها أو الاستخفاف بها.
انطلاقاً من هذه المعطيات أكد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وكرر تأكيده أكثر من مرة، آخرها بعد تصريحات قائد القوى البرية الإسرائيلية، أن تركيا ما زالت تعتبر نفسها وسيطاً صالحاً بين إسرائيل والعرب، وأنه ليس في نيتها التراجع عن العلاقات المتينة مع إسرائيل، في الوقت الذي انتقدت فيه قيادة الجيش الإسرائيلي تصريحات (مرزاحي) .
وقالت انها لا تمثل رأي قيادة الجيش، أي أن الطرفين التركي والإسرائيلي حريصان على استمرار العلاقات والمحافظة عليها ومنع تدهورها، بل مازال كل منهما يطمح بتعاون جديد أوسع من العلاقات الثنائية، كقيام تركيا بدور الوسيط في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية أو السورية الإسرائيلية، والمساهمة في تنفيذ أي اتفاقات محتملة مع القوى الفلسطينية مثل مشاركة (جنود لحفظ السلام، أو لتطبيق الاتفاقيات، أو ما يشبه ذلك).
يبدو أن افتراض تراجع العلاقات التركية الإسرائيلية (أو تدهورها) مستقبلاً فيه كثير من المبالغة، لا تشكيكاً بجدية الموقف التركي وبصدق التصريحات التركية، بل لأن تراجع هذه العلاقات وتقليصها يعني أول ما يعني أن تركيا غيرت استراتيجيتها المبنية على أنها دولة أوروبية وأطلسية وأن مصالحها تقع هناك في الغرب لا هنا في الشرق الأوسط، وأنها اقتنعت بأن أمنها جزء من أمن الشرق الأوسط، وثقافتها جزء من نسيج ثقافته، وأن سياسة التغريب ليست في صالحها وربما كانت ليست ممكنة.
وأنه خير لها أن تكون قوة إقليمية (كبرى) من أن تكون دولة تابعة للمنظومة الأوروبية ولحلف شمال الأطلسي، وعاملاً منفذاً لسياسة الأمن الأميركية، ويبدو أن ليس في ذهن الحكومة التركية والجيش التركي بل وحزب العدالة والتنمية مثل هذه القناعات حتى الآن، وبالتالي فإن خلافها مع إسرائيل ليس خلافاً استراتيجياً ولا بنيوياً ولا يتجاوز تناقضات حادة بين الطرفين ليست عميقة الجذور ولا يمكن أن تكون غير ذلك، ومن غير المتوقع أن تصل إلى القطيعة.
لعله من المهم جداً وربما من أولويات السياسة العربية في هذه المرحلة أن تتضامن مع رجب طيب أردوغان وحكومته، وتعزز العلاقات العربية التركية السياسية والاقتصادية والثقافية (والعسكرية أيضاً) وتضع نصب أعينها ـ التأسيس من خلال هذا التعاون وغيره ـ لشرق أوسط جديد، ليس على الطريقة الأميركية، بل بهدف إقامة تجمع إقليمي واسع متعاون متحالف قوي قادر على أن يكون له وزن دولي، ويضمن مصالح المنتمين إليه، وتتخلص بلدانه من الضغوط والهيمنة والتهديد سواء الإسرائيلي أم غير الإسرائيلي.
ولعله من المفيد أن لا يتوقع العرب من الحكومة التركية تغيير استراتيجيتها وسياساتها التي مارستها ونفذتها (بحماس) طوال ثمانين عاماً تجاه الغرب وستين عاماً تجاه إسرائيل، فهذه خيارات تركية لا يحق لأحد غير الأتراك المطالبة بتغييرها، أما هذا السعي التركي الذي نشهده والقاضي بالعمل إلى التواصل مع المحيط العربي والإسلامي فإنه يستحق كل تشجيع.
خاصة وأنه يحقق مصالح الأتراك ودول المحيط دون أن يلغي التقارب التركي الأوروبي، ولعلها مأثرة أن يعود الأتراك لمحيطهم ويحققوا التوازن المطلوب منهم كدولة هامة وغنية تمتلك أوراقاً عديدة مؤثرة في مستقبل المنطقة.
البيان 21/2/09

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى