صفحات سوريةمازن كم الماز

اليسار السوري و موت الجماهير

null


مازن كم الماز

لم تكن أوضاع الجماهير السورية من قبل بمثل هذا السوء. ولم يكن الغد يحمل مثل هذا الكم من الهموم والمخاطر الجديدة المفزعة التي لا يبدو أنها تتوقف عند حد. ولم يكن أفق الأمل بحياة أفضل غامضا مسدودا بسياسات النظام وظل مؤسسته البيروقراطية الثقيل
كما هو اليوم في سورية الإصلاح والتطوير. يبدو ان انتشار الانتهازية والانحطاط الروحي والأخلاقي مجرد انعكاس للانحطاط الاجتماعي والسياسي غير المسبوقين للجماهير.. ولا توجد بالتالي مرحلة تفتقد فيها الجماهير إلي قوة كفاحية تستطيع أن تلعب دور الحفاز لعودتها إلي التاريخ علي أساس وعيها بقوتها وبمصالحها وتنظيم مقاومتها ضد النظام وكل قوي الاستبداد والاستغلال والاستلاب كما هو في هذه المرحلة.

من المؤكد أن مهمة اليسار لا تنحصر في تقديم المشورة لبيروقراطية النظام علي أمل استجابة رأس النظام لمناشداتها المخلصة أو الاكتفاء بمحاججة المعارضة الليبرالية بغرض إثبات خطأ المضي في معارضة النظام أبعد من مجرد بعض الانتقادات الإعلامية.. الرفيق حنين نمر السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوري تحدث في اجتماع اللجنة المركزية الأخير عن أن الاتجاه الأساسي لنضال الحزب في هذه المرحلة يتمثل في استمرار الضغط باتجاه أن تتولي الحكومة دورها في ضبط الأسعار والتحكم بالسوق، لكنها كما عودتنا (قيادات اليسار) تنتهي بالمطالبة المستمرة بمكافحة الفساد وإصلاح القطاع العام مع الاستمرار بدعم سورية وسياستها المقاومة للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية.

أغلب تنظيمات اليسار الأخري تستخدم تعابير مختلفة خاصة بها وأحيانا حججا أخري لكنها تصل دوما إلي نفس النتيجة.. هذا الوعد بتصعيد الدور الاحتجاجي علي السياسات النيو ـ ليبرالية لا يتحول إلي واقع ملموس ولا حتي إلي ما هو أكثر من المساحة التي تخصص له في جرائد التنظيمات المختلفة أو مداخلات بعض الرفاق في بعض المحافل كممثلين للجبهة التي تختزل تفاصيل الواقع (الميت الخاضع بالكامل لقمع النظام) للحياة السياسية في سورية أو واقعة تسجيل المواقف في محاضر اجتماعات المجالس التي انتخبها الأمن للنقابات أو مجالس الإدارة المحلية وغيرها.

وفي ظل انشغال قوي المعارضة بنتائج اجتماع المجلس الوطني لإعلان دمشق وقمع النظام الواقع عليها وانخراطها في جدل النظام أو الخارج الذي يبدو كمخلص جديد، لكنه ليس يسوعا يصلب من أجل حريتنا بل هو جيش يقتل واحتكارات لا تفكر إلا بالربح، يبدو أن هناك مسؤولية هامة اليوم علي كل يساري تحديدا لتنظيم مقاومة الجماهير لسياسات النظام وللمشاريع الأمريكية للمنطقة علي الأرض.

علي الرغم من مشاعر اليأس التي تنتاب الكثير من اليساريين والجماهير من حولهم فإن المزاج العام يتحول باتجاه ضرورة تنظيم مقاومة شعبية فاعلة لسياسات النظام وقهره وباختصار لديكتاتوريته الفاسدة، ومن الواضح أن العمل من داخل التنظيمات القائمة يوفر إمكانيات محدودة جدا، إن لم يكن يقوم أساسا علي قمع أية محاولة جدية للقواعد لتمارس عملا احتجاجيا فاعلا بين الجماهير، للقيام بأي دور في تنظيم مقاومة الناس وتأسيس لقوتهم الحقيقية كقوة مستقلة واعية بمصالحها لتكون الرقم الصعب في كل معادلات قوي الاستبداد والاستغلال، لا أجهزة القمع وأقبيتها المظلمة ولا المحاورات الفوقية مع هذا الطرف أو ذاك.

لا تتمثل القضية في تفضيل هذه القيادة أو تلك ولا في دعوة الناس للالتحاق بمنظمة جديدة أو ما يري فيه القادة الحاليون لليسار محاولة سلبهم أنصارهم، بل في كيف يمكننا كيساريين سوريين أن نقاوم وأن نساهم في إحداث التغيير في مزاج الجماهير وفاعليتها وفي قراءتنا للواقع. ليس المطلوب أيضا أن نضيف أعدادا فورية من الناشطين إلي أسماء قوائم المعتقلين أو المسجونين التي تصدرها منظمات حقوق الإنسان أسبوعيا، إننا سنحتاج إلي الكتلة الأكبر من اليساريين الفاعلين خارج سجون النظام مع أن أي نشاط جدي لليسار سوف يزيد من مشاكل أجهزة الأمن المشغولة بتفحص رؤوس الناس باحثة عن جراثيم المقاومة أو التفكير الحر، ولو أنها النتيجة التي يجب أن نكون مستعدين لها في نهاية المطاف.

إن المساهمة في تعزيز حركة الجماهير للمقاومة والدفاع عن حقوقها ومن ثمة تثبيت مصالحها كأساس للواقع السياسي الاجتماعي ستعني أيضا رفع كفاحيتنا الفردية والجماعية، وستعزز إيماننا بغد أفضل للجماهير السورية وللشعوب في كل مكان.. إن المطلوب هو إطلاق آلاف المبادرات الشخصية والجماعية لكسر طوق الصمت وحاجز الخوف الذي يحرص النظام علي تشييده حول نتائج سياساته المدمرة وأخبار قمعه، يجب أن نساهم يوميا في تحطيم هذا الجدار الهائل في وعي وأعماق كل سوري، أن نؤسس لوعي الناس بمصالحهم وقوتهم، أن نؤسس لمقاومتهم المنظمة لديكتاتورية النظام وأية قوة تحلم بتأبيد تسلطها واستغلالها للسوريين الفقراء.. أن نحارب شعور اليأس من قدرة الجماهير علي فرض تغيير يعبر عن مصالحها في عالم تسوده القوة الماحقة وأجهزة النظام، أن نحارب الكراهية بين (الشغيلة) والفقراء بالتضامن في مواجهة القمع والاستبداد والاستغلال، أن نحول كل مواجهة بين الجماهير ومؤسسات النظام إلي تدريب علي المواجهة والمقاومة، إلي أن نحيد قوي القمع والأمن بفضحها وإثبات تهافتها وعجزها أمام مقاومة الجماهير المنظمة، أن نعيد ثقة الناس بقوتهم وقدرتهم علي مقاومة سياسات النظام واستبداده، أن نحارب الانتهازية كمصدر أساسي للخنوع والاستسلام لعبودية النظام، لعبودية القوة والقهر، أن نحارب الانحطاط الأخلاقي بالمساواة الكاملة بين الجنسين التي تؤسس علي حق كل إنسان في أن يكون سيد نفسه، رجلا كان أو امرأة، سواء في مواجهة التسلط الأبوي أو استغلال رأس المال لجسد المرأة وتسليعها، أن نحارب الانحطاط الروحي بتنمية مشاعر الحب والتضامن والنضال التي تقوم علي رؤية إنسانية شاملة طالما ميزت نضالات اليسار والناس في سبيل الحرية والعدالة تاريخيا، أن يصبح كل هذا رسالة يومية لكل يساري.

إن علينا أن نشرع بتنظيم حوار حر خارج كل التابوهات الحالية، السابقة وأية تابوهات أخري محتملة، في نفس الوقت فقد نضج عمليا خيار إقامة مجموعات أفقية لإدارة هذا الحوار وتنظيم نضال أفرادها، نعني بالأفقية أنها كمجموعة تشكل الأساس والمرجع لكل سياساتها وممارساتها، وأن أي مسؤول فيها ليس إلا مكلفاً من المجموعة ولا يتمتع بأية امتيازات أكثر من أي رفيق آخر.

ليس المطلوب مجموعات من دون فاعلية بل مجموعات تتحول عبر ممارستها الديمقراطية الداخلية كمثال عن البديل اليساري الديمقراطي الجماهيري الذي نسعي إليه إلي مستوي أعلي من وعي الواقع والنضال في سبيل تغييره.. هذه ليست دعوة إلي هجر القيادات السياسية التنظيمية التاريخية، ولا إلي الازدواج التنظيمي، بل بكل بساطة وإصرار لنكرس أنفسنا لجهد جماعي وفردي يومي يهدف لتحقيق ما تعلنه القيادات التاريخية من أهداف هي عاجزة عن تحويلها إلي أكثر من كلام لا وزن له علي أرض الواقع، إنها دعوة لهزيمة سياسات النظام، لهزيمة الديكتاتورية الجاثمة علي صدورنا، إلي هزيمة الفساد والقمع وكل مشاريع استبدال النظام بنظام علي شاكلته لكن أكثر مطواعية لأمريكا وإسرائيل، ليس عبر المناشدات والخطابات التي تلقي في وجه موظفين بيروقراطيين فاسدين أو الاستكانة للخوف الطبيعي من أجهزة القمع، إنها دعوة لهزيمة سجون النظام وأقبية الخوف والموت التي ابتلعت صوتنا وتركتنا في مواجهته، إلي الأبد كما يحلم النظام، عاجزين مكشوفين أمام قهره.. إن جهدنا المشترك قد يغير هذا الواقع ويبث الأمل بعالم أفضل.

كاتب من سورية

القدس العربي

04/04/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى