صفحات ثقافية

“وحيدة في غرفة أمسح الغبار” لدوريان لوكس: حقائق لذيذة حول شاعرة مثمرة

null
مازن معروف
يتكل شعر دوريان لوكس على نسج لغة خاصة، لتفسير الاشياء، الذاتي منها والمشترك مع العالم الخارجي. الشاعرة التي تولّد من الأشياء المتفرقة نسيجا شعريا، لا تتوقف عند التقاط فوتوغرافي لعناصر المدينة، بل تحاول استئصال خيوط العلاقة  بين تلك الأشياء كلها، بما يتفق مع ذاتها بشكل أساسي: “لا يني يبدل القلب شكله:/ يتحول من طائر إلى فأس/ ومن عجلة هواء إلى غصن مثمر./ يتقلب داخل الصدر/ كدبّ بنّي خدّره الشتاء/ أو كطفل يقفز في مهرجان/ متوقفا تحت مظلة كشك الألعاب النارية/ أو عند خيمة السيدة السمينة/ أو عند كشك الهوت دوغ”. ما بين الطائر والفأس، عجلة الهواء والغصن المثمر، ثمة ما هو اولاً طبيعي (الطائر والغصن)، وما هو مصطنع، أو تكتيكي مثلا (الفأس وعجلة الهواء). لأن العلاقة بين تلك الأشياء لا يمكن أن تكون بمنأى عن الشعر، الذي يدخل عبر دوريان لوكس إلى كينونة كلٍّ منها، ليولد ما بينها علاقة تشترط لا شيء سوى الشعر.
لا تبالغ الشاعرة، أو تستعرض إيديولوجيتها السياسية أو الفلسفية أو حتى الأدبية. تأتي كتابتها مخففة من المخزون الثقافي بالمعنى المباشر. القارئ لا تتعبه القراءة، ولا تفسير القصيدة. بدلا من ذلك، سيكون مشغولا بالاندهاش حيال أسلوبية التأليف الشعري، الذي لا شك يعكس باعا طويلا للشاعرة في الكتابة والقراءة. لكن أكثر من ذلك. هو أيضا مرآة لمفهوم شعري متطور لا نزال كعرب، وبشكل عام، بعيدين عنه. فالحياة التي تعكسها القصيدة عند دوريان لوكس، هي حياة خاصة، تتألف تحت منزل واحد، وتتطور، ويكون لها أبعادها وفلسفتها البديلة من فلسفة معرفية او ورقية. وبذلك تتشكل المستويات الجمالية عند الشاعرة من خلال إعادة كتابة الحياة، بتأطيرها شعرا. وربما ليس هناك أكثر من إنسان واحد يشاطرها التفاصيل، هو الزوج أو الحبيب، إضافة إلى ما يشكل دلالة على الخارج الحي أيضا: “من نافذة زوجي أسمع امرأة تغنّي بصوت منخفض/ أغنية يفترض أن تينع عند سماعها آلاف القلوب/ زوجي، مستوحدا، يرافق الأغنية، مشتتا الكلمات والنغمات، إنما محتفظا باللازمة./ هذا أصعب ما في الزواج: تلك المعرفة. تشذيب الزهور،/ تلك المعرفة. إزالة الأوراق الميتة./ أقف على الدرج لكي أستمع إلى صوته/ الذي انقطع فجأة، قبل أن يستأنف الغناء”.
الاقتصاد في إشراك الكائنات الحية في القصيدة، ينسحب على كون دائرة عيشها لا يشترط في الضرورة إقامة علاقات تتفرع وتتضارب. بدلا من ذلك، فإن الكم القليل لمن يحيطون بها: الأب/ الزوج/ الإبنة/ صديق الإبنة/ الصديقة/ الشريكة أو زميلة العمل. يؤمّن لها في المقابل حيزا واسعا لتأمل العلاقة وبعثها مرة أخرى بأشكال متعددة في مخيلتها. لذلك فإن البحث عن المعنى من خلال التنقيب في بساطة العلاقة أو تعقيداتها على السواء، لا بد أن يتجلى في أعلى مستوياته. المعنى ينأى عن قيمة الشيء المادي المستخدم كأداة حسية في القصيدة. إذ مهما بلغت الأشياء المنزلية من تفاهة، أو بهتان، لا بد أن نكتشف اهتماما خاصا لدى لوكس في إحاطة كل من تلك العناصر أو الأشياء بمهمة تجعلها شريكا في الحياة، كأحد مقومات القصيدة: “نركب قطع الأحجية واحدة بعد الأخرى/ ونحب كيف بسلاسة تتخذ كل قطعة/ مكانها في داخل الأخرى./ لطخة صفراء تصبح مكنسة/ وقطعتان زرقاوان تكملان السماء/ نجمع معا أرجوحة الشرفة وأشجار الخريف/ واضعين الألوان الذهبية مع اللون الذهبي/ نحمل عيني الغزال براحاتنا/ ونؤلف فردتي حذاء بني”.
يكون البناء للفرح، لحظة بلحظة، وكذلك الحزن، الخيبة، الفقدان (أو استشعاره أو التنبوء به)، وكلها تبدو أحيانا كثيرة ماثلة في النص الشعري نفسه، كأنها نوع من تراجيديا خفيفة لا تكف عن المواراة. ومهما حاولت الشاعرة، لتغطية قلقها بطبقات اللغة السهلة، والصعبة التركيب في الوقت نفسه، تتبدى مشاعر سوداوية، فتطل برأسها معلنة ما يجول في الخاطر. من هنا فإن المجاهرة بالفرح أو المسرة في النص الشعري، تخترقه أحد اشتقاقات الحزن، أو مترادفاته.
كانت صدرت للشاعرة حديثاً، ضمن أنطولوجيا الشعر الأميركي، مختارات شعرية عنوانها “وحيدة في غرفة أمسح الغبار” (دار الجمل ودار كلمة، ترجمة سامر أبو هواش). عنوان لا يقل بساطة عن محتوى القصائد، لكن من دون أن يطأ السذاجة، أو أن تزحط جملته في المتتالى اليومي المستعاد في القصيدة، كحوادث عابرة أو ذكرى أو تفصيل مديني أو منزلي، مما يحرض أولا على الكتابة الشعرية.
ولدت دوريان لوكس في أوغوستا (ماين) عام 1952، وشغلت مهنا عديدة بين طاهية ومديرة محطة بنزين وخادمة، وغيرها من الوظائف التي مكّنتها من استبصار الطبقات السفلى، والحياة المعتمة لأفراد فقراء، يكافحون من أجل العيش ومن أجل تحقيق كينونتم في موازاة الضغط اليومي الهائل الذي يفرض عليهم. وهذا لعب دورا حاسما في التمسك بكيانها الانساني (ليصبح كيانا شعريا، أو محورا لكيان شعري)، كما جعل عالمها الشعري مختصرا، المكان فيه والوقت يقومان على علاقة ما، بين عدد ضئيل من الكائنات البشرية. هذا إضافة إلى العامل الأبرز: طفولتها والذكريات التي لم تكن جميلة، وهي طفولة شوّهها الأب من خلال معاملته السيئة لها ولأختها وأمها.
لوكس مؤلفة كتاب “حقائق حول القمر” عام 2005 ، الحائز “جائزة أوريغون للكتاب”، والذي ترشح أيضا لجائزة “ناشيونال بوك كريتيكس سيركل أوارد”. مجموعاتها الأخرى تشمل “دخان” (2000)، “ما نحمله معنا” (1994)، و”يقظة” (1990) الذي كان مرشحا لجائزة نقاد خليج سان فرنسيسكو لكتب الشعر. San Francisco Bay Area Book Critics Award ، وقد ظهرت قصائدها في العديد من المجلات والمقتطفات الأدبية الأميركية. لها، الى هذه المجموعات الشعرية الأربع، كتاب “الدليل إلى متع كتابة الشعر” (بالاشتراك مع الشاعرة كيم أدونيزيو) صدر عام 1997. ترجمت قصائدها إلى الفرنسية والايطالية والكورية والبرتغالية والبرازيلية، والرومانية. عن أعمالها، قال الشاعر طوني هوغلاند، إن قصائدها “تعبر عن امرأة اميركية ناضجة، واضحة وعاطفية، متألمة، تتضمن حياتها مراحل اجتماعية وانسانية مختلفة، بين أمومة، وعمل، وحب وجنس”. وهي بذلك امراة اختزلت نساء عديدات كلٌّ منهن لها هوية اجتماعية وتجربة خاصة، لهذا يرتفع شعرها من كل تلك الأماكن الانسانية المظلمة، ليبدو حيويا وطازجا، متألما وقلقا، لكن بجاذبية شديدة. حازت العديد من الجوائز منها جائزة “بوشكارت برايز”، وجائزة “إديتورز شويس III ” إضافة إلى منحة دراسية من المؤسسة الوطنية للفنون. مارست التدريس في جامعة ولاية أوريغون ضمن برنامج الكتابة الابداعية. وتعيش الآن مع زوجها الشاعر جوزف ميلر في رالي (نورث كارولاينا)، حيث تعمل في الجامعة ضمن برنامج أعدته وزارة الخارجية. وكانت دوريان لوكس تلقت دروسا وشاركت في ورشات عمل حول الكتابة الشعرية، في موازاة قسوة الحياة التي كانت تعيشها. وكانت تكتب الشعر في أوقات الفراغ وأحيانا كثيرة، خلال فترات الاستراحة. مع انتقالها إلى بيركلي عام 1983، بدأت تمارس الكتابة بشكل جدي. عادت إلى الدراسة ولها بنت في التاسعة من العمر، لتتمكن من الحصول ربيع 1988، على شهادة بكالوريوس، في اللغة الانكليزية من جامعة ميلز، مع مرتبة الشرف.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى