صبحي حديديصفحات ثقافية

قصيدة النثر في التنظير الغربي الحديث: حول نثر الشعر

null


جوان هوليهان ترجمة: صبحي حديدي

تسعي هذه السلسلة إلي ترجمة أو عرض عدد من الأعمال النقدية الغربية التي أسهمت في مناقشة إشكاليات العلاقات بين الشعر والنثر بصفة عامة، وقصيدة النثر بصفة خاصة، وذلك بغية توفير نماذج سجالية، معمّقة، يمكن أن تخدم القاريء العربي في تحسين استقبال قصيدة النثر العربية، من حيث المحتوي والشكل والمناخ النقدي.

لماذا الشعر؟ أو، في صياغة أخري، لماذا لا نقول نثراً؟

لأنّ الحاجة إلي قول شيء عميق، أو جديد، أو ذي مغزي، أو بالغ الخصوصية… تجبرنا علي إيجاد طريقة في القول تتفوّق علي النثر، لغة حياتنا اليومية. وكما يلجأ العاشق إلي بلاغة غير مألوفة وعبارات وردية لأنه يشعر بعدم أهلية الكلام اليومي في مواجهة العاطفة الجديدة الجامحة، كذلك فإنّ كلام أفراحنا ومراثينا يحوّلنا إلي شعراء اللحظة حين ندرك أنّ وسيط التعبير بحاجة إلي أن يكون في مستوي المحتوي الهائل. ولا شيء يتفوّق علي الشعر في دمج الحاجة إلي تناقل أمر كبير ومعقد ومعمّق، بالحاجة إلي التعبير عنه علي نحو فريد يجعل السامع يعيش الحدث الأصلي أو العاطفة ذاتها. ونحن نلتفت إلي الشعر، سواء في أشكال شعرية أو عبر ترقية النثر بوسائط شعرية، حين يهدّد الموضوع المحتاج إلي التعبير بالانفجار خارج حدود النثر. هكذا كانت الحال دائماً. قبل اختراع الكتابة كان الشعر يستخدم للاحتفاء بمناسبات خاصة وعواطف جيّاشة، فيحوّل الحكايات الضرورية ـ أساطير وحقائق الثقافة ـ إلي ذاكرة للشعب.

وسائط التنشيط والإستذكار Mnemonic مثل الصوت والإيقاع واللغة التصويرية العالية والإيجاز في التعبير (أي الكلام المحكم الذي يشفّر العديد من المعاني في أقلّ عدد ممكن من الكلمات)، والتجانس الصوتي Aonance والتناغم الصوني Consonance والمجانسة الإستهلالية Alliteration والتوازي… كلّها كانت عُدّة لا غني عنها في المهمّة. يُضاف إلي هذا أنّ تلك الوسائط كانت تعزيمية Incantatory تستحثّ استجابات بدئية علي أصواتها وإيقاعاتها، وتخلق مناخاً يمهّد للمقدّس وللسحريّ. هذا رغم أنّ الشعر المنطوق لم يكن شائعاً، إذْ كان بالأحري نوعاً منفرداً من الكلام، مخصصاً لإبلاغ الأحداث الهامة المقدّسة، بطريقة تكاد تكون فيزيائية، في أعمق استجابات الجسد للصوت وللإيقاع وللصورة. وكان الكلام شعراً يخدم غرضاً محدداً. الكلام نثراً كان بدوره يخدم غرضاً: التفاوض علي واقع الحياة اليومية، والإفصاح عن تلك الأمور الشائعة لدي الجميع والتي لا تسحقّ استذكاراً مديداً، أي الإفصاح عن العالم في حركته.

وقدرتنا علي الكتابة لم تطمس الفارق. طمس الفارق تولاه الشعراء الأمريكيون المعاصرون، الذين يكتبون بنثر مسطّح عن سابق قصد، حول أحداث وأحاسيس شخصية ليست ذات مغزي؛ وتولاه المحررون والناشرون والنقاد، الذين أطلقوا علي تلك الأحداث والمذكرات اليومية اسم قصائد . ولقد بلغنا مرحلة يُراد فيها منّا أن نصدّق التالي: أيّة كتلة نصّية، رُسمت كيفما اتفق علي هيئة سطور مسطحة مقطّعة، هي قصيدة. يُطلب منّا أن نجثو ونحملق في نموذج تلك السطور الميّتة المسجاة في كفنها الصغير علي الصفحة، ونعلن أنها حيّة.

فماذا نقول؟

التمييز بين الشعر والنثر كجنسَيْن منفصلين خضع للتحدّي في أوروبا، من خلال قصيدة النثر ؛ وأمّا في أمريكا فإنّ التمييز بات أشبه بالزيغ حين دشّن وليام كارلوس وليامز نقلة جديدة في الشعر الأمريكي، تمثّلت في الاعتماد علي الجملة التصريحية المسطحة، و الكلام المشاع للبشر، وما تلاه من اجتناب للغة العالية والوسائط الشعرية التي اقترنت بالشعر علي الدوام. باختصار، كانت النقلة نحو النثر، وليس حتي نحو ذلك النثر الشعريّ، قد جرت بما يكفي لتلبية مقاييس النثر الجيّد (الذي يتضمن أيضاً اللغة العالية والوسائط الشعرية الكفيلة بالحفاظ علي اهتمام القاريء). خذوا هذا المثال:

لقد أكلتُ

ثمار البرقوق

التي كانت

في الثلاجة

والتي

لعلّك أنتِ

تركتِها

للإفطار

سامحيني

كانت لذيذة

حلوة كثيراً

وباردة كثيراً.

وعلي حدّ تعبير جيمس ديكي: كم من الكتّاب المبتدئين اتخذوا وليامز قدوة لهم، وتشجعوا علي الكتابة لأنهم قالوا في أنفسهم: حسناً! إذا كان هذا شعراً، فأعتقد أنّ بمقدوري كتابة الشعر أنا أيضاً . وكم من الناس، بعد مرور أربعين عاماً، ينظرون اليوم إلي مجموعات عيون الشعر الأمريكي عند نهاية الألفية، فيقرأون ما يبعث علي السؤال السابق ذاته؟

هنا مثال ثان من قصيدة دونالد هول، ابتسامة : كانت في الخامسة والعشرين حين استقروا في بلدتنا. حين انتقلوا من المدينة إلي المستوطنة أخرجوا من الصناديق قطع الصيني والفضيّات التي تعود إلي فترة الزفاف والتي تحمل ماركات مثل Tiffany وBergdorf Goodman وK-mart. الرجال والنساء انحنوا مثل نبات عود الصليب نحو رونق وقوّة ابتسامتها اللامحدودة العازمة. أحضروا معهم إبناً صغيراً وحملت إبنتين في خمس سنوات.

كانت تُلبس أطفالها ثياباً ذات ألوان غير مشتقة

بحيث يشبهون موديلات الأطفال في الكاتالوغ،

ولكنهم كانوا يلهون علي نحو ساحر جعل الطفولة تبدو سعيدة. وزوجها الوسيم كان يعبدها.

هذه القصيدة تسير علي 160 سطراً في كتلة نصّية مؤلفة من فقرات منفصلة. وفي جميع هذه السطور، لا نعثر إلا في السطر الخامس ( الرجال والنساء انحنوا مثل نبات عود الصليب ) علي تفصيل نستطيع تصنيفه في خانة الشعر ، لا لشيء إلا لأنه ينطوي علي تشبيه! بقية القصيدة تجرّدت تماماً من طبيعة الشعر. ومن المجموعة ذاتها نعثر علي قصيدة جون بالابان قصة :

الرجل التقطني شمال سانتا فيه حيث التلال الحمراء، المنقطة بأشجار الصنوبر، تتقوّس حين تنقسم إلي هضاب وسهل.

كنت واقفاً هناك في الخارج ــ أنا، وصرّتي، والعظايات ــ حين انحرف بسيّارته الـ بويك عن الطريق وسط رشاش من الرماد والغبار وخرج من السيارة، أشيب اللحية، ستة أقدام، و300 باوند، الذي تمطي وقال: هل تريد أن تسوق ؟

وعلي نقيض من قصيدة هول، التي تحتوي سطر شعر واحداً، تحتوي هذه القصيدة علي الدرجة صفر من الشعر. وهنا وصف بالابان لـ قصيدته هذه: قصة حقيقية. تكاد تكون قصيدة عُثر عليها مصادفة ! ماذا يعني هذا؟ أنّ بالابان أسماها قصة علي سبيل المفارقة الواعية، لكي يكتب تعليقاً علي حال الشعر، تماماً كما كانت صفائح حساء آندي وارهول تصريحاً عن حال الفنّ؟ هل ضُمّت هذه الأحدوثة إلي مختارات شعرية لأنه عُثر عليها… ماذا؟ كقصيدة؟ ولكنّ الرجل يقول: تكاد ! الغامض، في غمرة كلّ هذه الأمور الغامضة، هو السبب الذي سيدفع كائناً مَن كان إلي اعتبار هذه الأحدوثة قصيدة، كما يوحي بذلك إدراجها في مجموعة عيون الشعر الأمريكي ، في حين أنها مجرّد أحدوثة بُترت أوصالها إلي سطور مقطّعة.

قصيدة أخري من عيون شعر العام 1991، بعنوان بحر الإيمان للشاعر جون بريهم، هي بدورها أحدوثة من تجارب الشاعر في التدريس:

ذات مرّة وأنا أدرّس شاطيء دوفر لصفّ أوّل في الجامعة، فتاة شابة رفعت إصبعها وقالت: أنا حائرة، في تعبير ‘بحر الإيمان’ هذا . قلت: حسناً، فلنتحدّث في الأمر. لعلّنا بحاجة إلي الحديث عن اللغة المجازية.

ما الذي يحيّرك فيها ؟

سألتْ: أقصد، أهو بحر حقيقي ؟

تقصدين القول: أهو جسد حقيقي من المياه يمكن أن تشيري إليه علي الخريطة أو تزوريه خلال الإجازة ؟

نعم ، قالت. أهو بحر حقيقي ؟

وفكّرتُ: يا يسوع! هل نحن في حال كهذه؟

السنة القادمة سوف أدرّسهم الأبجدية وكيف يمكن أن ننطق الكلمات.

تتواصل هذه السطور علي امتداد صفحة تالية. وكما يحدث في قصة بالابان، يواصل المرء قراءة هذه الأحدوثة الشخصية المضجرة، غير قادر علي تصديق درجة خلوّها من المعني أو الطرافة أو التلميح، حيث لا شيء في اللغة، سطراً بعد سطر، يمنحها أية قيمة. وأمّا ختامها فهو مدهش في الضحالة:

وتمنيت لو أنّ الأمر كان صحيحاً، تمنيت وجود بحر الإيمان

حيث في وسعك أن تخوض فيه،

وتغطس تحت مياهه الزرقاء الساحرة،

وتكتم أنفاسك، وتسبح مثل سمكة

إلي القاع، ثم تنبثق ثانية

قادراً علي الإيمان بكلّ شيء، مخلصاً

وغير خائف من طرح أبسط الأسئلة،

وسعيداً أنك تتلقي عليها إجابات بسيطة.

تسبح مثل سمكة ؟ نعم، هذه هي اللفتة الشعرية الوحيدة. إنها تكفي لكي يشرب المرء مثل سمكة. وأمّا سؤالي البسيط فهو التالي: لماذا إدراج هذا النصّ في مجموعة يُفترض أنها تضمّ عيون الشعر؟ ولعلّ النموذج الأكثر تطرفاً علي تجريد القصيدة من جميع خصائصها الشعرية المميّزة، هي أحدوثة روبرت كريلي التي تسدّ النفس، وعنوانها ميتش :

كان ميتش زميل دراسة

تزوّج فيما بعد من شاعرة متفوقة

الصداقة جمعت بين عائلتينا

حين كنّا شباباً

وحين أقمنا في نيويورك، وهامبشير، وفرنسا.

وعلي نحو يشبه الكتابة الإختزالية، يطلق كريلي شذرات الأفكار واحدة بعد الأخري، ويهذر بها علي نَفَس واحد وكأنه يعدو. يقول وليام لوغان: عند كريلي لا نعثر أبداً علي صورة قابلة للحفظ في الذاكرة، أو علي شيء ملتقَط بوضوح، أو جملة محمولة إلي حيث المسافة التي تقود الخيال. لقد قام بتصفية معظم نسيج الشعر الموزون، والتراصف الجميل للكلمات. ولقد حدث أنه، في بعض الأوقات، فقد قدرته علي تذوّق الجمل وأغرق نفسه في ضجر تسطير المذكرات وجهاز الدكتافون .

وهكذا، عبر استسهال إطلاق التسميات وتصنيف هذه النصوص في خانة القصائد وإدراجها في مختارات شعرية تمثّل أفضل الشعر الأمريكي، بلغنا مرحلة التدمير التامّ لما تبقي من تمييز بين النثر والشعر. ورغم أنّ جزءاً كبيراً من هذه المختارات يضمّ حوادث نثرية بُترت أوصالها إلي سطور مقطّعة، بتوقيع شعراء مثل جاكوبيز، كيزر، كويرتج، ليفاين، ريش، ثايل والشعراء أعلاه، فإننّا في مقدّمة روبرت بلاي نعثر علي أمر أكثر إيلاماً: إنه يحذّرنا من الكومبيوتر، ومن لغته الباردة الخاوية ، ويزعم أنه أشبه بـ قوّة عالمية الانتشار تحاول تخليصنا جميعاً من الأسلوب الأدبي، وتنجح في ذلك . فإذا كان الأمر هكذا، فإنّ الدليل علي نجاح تلك القوّة نجده في هذه المختارات، وليس علي شاشة أيّ كومبيوتر.

كذلك يقول بلاي في المقدّمة: الكثير من الكتّاب المعاصرين أقنعوا أنفسهم بأنّ من الخير لهم أن لا يتوغلوا إلي دواخل النفوس، وأن يتفادوا الكثافة واستحضار طبقات المعني، وأن يبتعدوا عن الصياغات اللغوية اللاذعة .

ولكن هل أنّ الكتّاب أقنعونا، نحن القرّاء؟ هل اقتنعنا أنّ هذه قصائد تتحلي بكثافة الغور العميق، وطبقات المعني؟ هل اقتنعنا أنّ هذه هي عيون الشعر، كما يريدنا أن نفعل الشاعر ـ المحرّر المصاب بما يكفي من حسّ البارانويا، حتي أنه مؤمن بوجود قوّة عالمية الانتشار، نابعة من الكومبيوتر، تسعي إلي تدمير الأسلوب الأدبي؟

لقد بلغنا هذا الطور، الافتقار إلي التمييز بين الشعر والنثر، علي يد وليام كارلوس وليامز، ونواصل الطور ذاته علي يد مئات ومئات من المقلّدين الجهلة. غير أنّ هذه الحقيقة المؤلمة ليست أكثر أهمية من السؤال التالي: كيف نستعيد، من جديد، قدرتنا علي التمييز بين الشعر والنثر؟

والحال أنّ الاحتجاج علي تجريد الشعر من شعريته ومسخه إلي نثر، بل إلي نثر رديء أجوف، يصبح عقيماً حين يكون في وسع شاعر معروف مثل شارلز سيميك أن يقول التالي، في قصيدته أخيلة حرّاس السجن علي خلفية شمس :

لم أعطهم أيّ انتباه. السنوات انقضت، سنوات عديدة. كان لديّ الكثير من الأشياء الأخري التي أغرق فيها. هذا الصباح كنتُ علي كرسيّ طبيب الأسنان حين دخلت مساعدته الجديدة متظاهرة بأنها لا تعرفني أبداً وأنا أفتح فمي مطيعاً

الشاعر يقنع نفسه أنّ هذه قصيدة. يخبر المحرّر أنها قصيدة. المحرّر يخبر الناشر أنها قصيدة. ثمّ يخبرنا الجميع أنّ هذه قصيدة! لم يسبق لحكاية ثياب الإمبراطور الجديدة أن اكتسبت كلّ هذا المعني كما يحدث اليوم في مثال الشعر الأمريكي. ولعلّ أكثر المظاهر إحباطاً إنما تتمثّل في انحطاط قصيدة النثر ذاتها، وانقلابها إلي حكاية مضجرة مكتوبة بشكل رديء، وخالية من أية جاذبية. هنا نموذج من قصيدة كيم أدونيزيو ها :

يدلف رجل إلي الحانة. أتظن الأمر نوعاً من النكتة؟ إنه يدخل مهرولاً في الواقع، لكي يخرج من الطقس الصقيعي.

تقول: مَن يكترث؟ لا أحد ممّن تعرف. لديك بدورك متاعبك، تستطيع أنت أيضاً أن تتناول كأساً. لديك معطفك، والوشاح الطويل.

تتثاقل نحو الركن عبر الممشي المحفّر، تنزلق وتسقط أرضاًعلي الجليد. إنها قشرة موز في الواقع، ولكن مَن يتطلّع؟ ليس سوي قسّ، وحاخام، ومحامية تظل غامضة عندك ـ ألم تساعدك في الطلاق؟ لا بأس، الزواج انتهي، خلاصٌ طيّب. أنت الآن تفكر أنه كان من الخير لو كان عندك بديل

من أين نبدأ، إذا زعمنا قول الشعر؟

ومتي نبدأ؟

نبدأ بتعريف القصيدة، ونبدأ الآن بتعريف تأثيرها فينا، وبانجلائها داخل نفوسنا، نحن القرّاء الموثوقين والمستعدّين للتذوّق، ولا نبدأ من اشتراط ما ينبغي أن يكون عليه الشعر في النظرية. ينبغي أن نصبح خبراء شعر مجرّبين، نثق بمعرفة حواسّنا وبالحسّ السليم. ولسوف نعرف القصيدة من تأثيرها فينا. علي سبيل المثال، وفي مجموعة عيون الشعر الأمريكي ذاتها، هنالك قصيدة دوريان لوكس التي لا تلتزم بأي شكل شعري تقليدي، وهي مكتوبة بجُمَل نثرية، وتحكي قصة بدورها. ولكنها قصيدة، وهي بين أفضل نماذج المجموعة، إسوة بقصائد يوسف كيمونياكا وريشارد ولبر. هنا مقطع من سبّاك السفينة :

أعشقه أكثر ما أعشقه حين يؤوب إلي البيت من العمل أصابعه ما تزال مجعّدة من أثر تسليك الأنبوب، والعرق حلقات علي قميصه القطني رائحته ملح، وأعشاب جافّة من قاع المحيط. يحلو لي أن أخطو إلي حيث يجلس علي حافة السرير، جبهته مضمّخة بالشحم، ويداه المشققتان محشورتين بين فخذيه، فأحلّ الحذاء الطويل ذي الكعب الفولاذ، أداعب كاحليه وربلتيه، لبدة وعظام قدميه. ثمّ يحلو لي أن أنضو عنه ثيابه وآخذ النهار كلّه إلي داخلي ــ جوانب السفينة الرمادية، أميال أنبوب الرصاص، صوت رئيس العمال يرنّ فوق الأضلاع الفضية لبَدَن السفينة. شرار من النحاس يقبّل المعدن. المِلْزمة، الرافعة. نار المشعل البيضاء، الصافرة، والمشوار الطويل إلي البيت.

حكاية بسيطة تقودنا فيها الشاعرة، طبقة معني إثر طبقة، بمهارة عالية في استجماع التفاصيل المبنية حول تصوير الأشياء، والتوتّر في الجُمَل، والتزامن الختامي المدهش والبديع بين المتضادات: الداخل والخارج، العمل والراحة، الصراع والسلام، الرجل والمرأة، متطلبات العالم ومتطلبات الحبّ… ضمن وصف لكيفية استدخال العالم الخارجي، والرجل نفسه، واستيعاب المرأة لهما معاً، بحنان، حيث ينقلب كلّ هذا إلي استعارة لاجتماع الرجل والمرأة، ولممارسة الحبّ. ثمة الكثير من التقفية الداخلية والتصوير، إلي جانب طبقات المعني والمغزي، وفي الآن ذاته يكتسب كلّ سطر مكانته في البنية الإجمالية. التقنيات في هذه القصيدة غير مرئية. إنها تصنع تأثيراتها قبل أن ندرك ما يشدّنا إليها حقاً.

ولا ريب أنه من المهمّ إعلان عري القصيدة الأمريكية المعاصرة، ورفض الفكرة القائلة إنّ الشاعر ـ معروفاً كان أم مغموراً ـ يستطيع ممارسة هذا التزييف المتمثّل في كتابة رؤوس أقلام نثرية ناقصة، وتسميتها قصائد. ينبغي أن يقوم علي آلة النشر محرّرون يتصفون بالمعرفة واليقظة، لا يخشون نشر قصائد ممتازة لشعراء مجهولين، أو رفض قصائد هابطة من شعراء متنفذين، حتي من أقرب أصدقائهم. وقبل أن يفترضوا إمكانية جمع مختارات جديدة لأفضل القصائد الأمريكية، ينبغي أن يتأكدوا من أنّ لديهم قصائد يجمعونها!

الحلقة التالية: التعريف الموسوعي وإشكالية النوع

ـ جوان هوليهان Joan Houlihan شاعرة وناقدة أمريكية، تكتب في العديد من الدوريات، وهي رئيسة تحرير مجلة Web Del Sol علي الإنترنيت. ومقالتها هذه، On the Prosing of Poetry، نُشرت في مجلة The Boston Comment، حزيران (يونيو) 2003.

16/01/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى