ذاكرة الصفحاترفيق شامي

من ذاكرة الصفحات: حكايات البؤس السوري – عن ثقافة الطاغيــة بثياب بائع الخضار

null

الحكايــة الثالثة

عن ثقافة الطاغيــة بثياب بائع الخضار

رفيق شامي

للمرة الثلاثين أروي هذه الحادثة التي علقت ببؤسها في ذاكرتي وكنت قد نشرتها عدة مرات بالعربية والألمانية.

دعانا زميل سوري إلى عشاء وأصر في دعوته ورجائه على أهمية الحضور دون أن يبين لنا سبب الدعوة ومن هذا المدعوين على شرفه. وهناك في منزله الجميل أوضح لنا – وكنا حوالي العشرة – أنه كان مجبرا على الحذر والشح بالتفصيل إحتياطا لسلامة عمه الضيف فهو الرجل الثاني في سوريا ( الجنرال الفلاني من رجال الساعة الأولى مع حافظ الأسد ، آمر الكتائب الفلانية الضاربة بيده اليمنى والمخابرات العلتانية بيده اليسرى وبيديه أمر خراب وحياة دمشق وضواحيها (لاحظ هذا الكرم الحاتمي على دمشق منذ أيام رفعت أسد الذي كان لا يكل ويمل ترديد أنه سيهدم دمشق قبل مغادرتها ولم يخص لا هو ولا أي ضابط بعثي تل أبيب بشيء من هذا الكرم ولا حتى لفظياً).

لقد كان العم في زيارة خصوصية لجنوب ألمانيا لمعالجة إبنه المريض.

ولاحظت أن الدعوة شملت العديد من زملاء الدراسة وبعد فترة وجيزة عرفت أيضاً أن الزميل إنتقى فقط الناجحين في أعمالهم المهنية وبررها بأنه ” يريد تبييض وجهه ووجه المهاجرين أمام عمه”. تبيـيض الوجه هذا ظاهرة مرضية في المجتمع المقهور.

يعيش المرء عمراً في كفاح سخيف ليظهر أمام الآخرين بما هو ليس فيه ولكن على الأقل لينال على هذا التبيـيض علامة جيدة في امتحان الآخرين. وكلمة تبيـيض لها وقع سلبي خاص في نفسي لأن أهلنا في زمن طفولتي كانوا يبيضون الأواني النحاسية القديمة مقابل قروش قليلة والمُبَيِــِض كان من كثرة هباب الفحم والأكاسيد المعدنية والأوساخ دائما أسود البشرة ضعيف البنية مشقق اليدين وكأنه قادم من جهنم.

وكلما سمعت كلمة تبييض تذكرت هذا الرجل المسكين.

المُضيف كان بعيدا عن السياسة وسطحي إلى أبعد الحدود، كثير المجاملة مُمِل. ولمت نفسي لا لشيء إنما لغبائي وإضاعتي وقتي بتلبية دعوته ولكنني جبنت عن مغادرة البيت ولم أحب أن ألعب دوراً يجرح شعور كل من قدم مثلي عن غباء وسلامة نية.

وأتى الضيف وعجبت لمنظره المضحك. كان قصيرا صغيرا نحيلا بصلعة كبيرة وفي طقم فضفاض عديم الذوق تظن لأول وهلة أن أبيه اشتراه له قبل 50 سنة لرخصه. وبدا لي وكأنه تاجر خضروات وليس ذاك الرجل الآمر والناهي والسيف المسلط على رقاب السوريين. وبعد التحية المقتضبة بوجهه العبوس ذكرني برائعة العبقري ماغوط في “كاسك يا وطن” بدأ مضيفنا مقلداً بذلك ما يراه في التلفزيون وتذكرت أوسكار وايلد الذي قال: كثيرا ماتقلد الحياة الفن. عرف مضيفنا بنا شخصاً فشخصاً ماراً مع عمه على كل منا مثل مسرحية من الدرجة الثالثة وكنت أسمع تقديم المضيف الفخور بالدكتور فلان صديقه أخصائي في… وصاحب عيادة في … والطبيب الخاص للسياسي الكبير صديقه وصديقه المهندس الفذ فلان… وكان الجنرال في ثياب بائع الخضروات يسأل مازحا هذا الدكتور عن دواءً ما للرجولة وذاك المهندس عن حل لمشكلة في بناء فيلته على الساحل السوري وذاك التاجر المعروف لسيارات المرسيدس عن آخر موديل وكان المضيف يوحي لضيفه أنه كما نقول في دمشق “خوش بوش” مع كل من الضيوف.

ووصل إلي. “هذا الدكتور رفيق شامي كاتب له أكثر من 20 كتاب تطبع بالملايين ويحبه الألمان حتى العبادة”.

شعرت بغصة ملأت حلقي ليس بسبب النفاق والرياء التي تقيأت به الكلمات القليلة بل لإنكاره ببرودة مُتعَمَدة زمالة دامت عشرات السنين ولأبتعاده عني وقائياً.

فهمه قريبه كما فهمته.

حدقني الجنرال بعين صغيرة تحمل الشك كالثعلب وسألني: “أي شو بتكتب؟”

قلت له: “روايات للأطفال والبالغين ومقالات عن الثقافة.

“ولشو؟؟؟!!” سألني بنوع من الإستنكار. وذهب إلى الآخرين دون أن يسمع جوابي الذي مات نصفه الأخير في فمي. واليوم وأنا أستعيد هذه الذكرى سألت نفسي إن كانت كلمة “استنكار” التي إستعملتها قبل عام باللغة الألمانية صحيحة أم مبالغ بها ووجدت أنها تعطي بدقة وصفاً لصوت الجنرال.

بعد أقل من ساعة غادر الجنرال بائع الخضار المنزل وأسرعت بمغادرته مقسما ألا أقبل دعوة ثانية في عمري قبل التأكد من المضيف وضيوفه. لكنني كتبت يومها جملة تحضرني الآن:

“شعب قيادته لا تعرف قيمة الثقافة شعب مهزوم لا محالة “.

خاص – صفحات سورية –

الحقوق محفوظة للكاتب ولصفحات سورية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أعد على مسامعنا ياصديقي…أعد على مسامعنا ومسامع العالم ، كم نحن عاجزون…كم نحن بائسون…وكم نحتاج لإعادة تأهيل تدخلنا بعمق وتنثرنا مم تعيد ولادتنا …فما نحتاجه هو تحرير عقلنا من شوائب وموروث…وتربية مغرقة في الأحادية والفردية…
    قل ياصديقي واروي للعالم ,,,فأنت أروع راوٍ …يرى مالا يراه إلا من دخل عمقنا العقلي…ورأى خرابنا…ومقدار هشاشتنا وسطحيتنا…لا أدري كم قرأت كلماتك..وكم أعدت رواياتك…لكني على الدوام وفي كل مرة أحسها أجدد …أعمق…لأنها الأصدق..
    مع كل الحب والتقدير
    فلورنس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى