بدر الدين شننصفحات سورية

البحث الدامي عن هوية .. وعن دولة

null
بدر الدين شنن
لم يكن العرب عموماً والسورين منهم خاصة يدرون ، وهم يقاتلون من أجل التحرر من الاستعمار العثماني ، وإقامة الدولة العربية الكبرى ، أن حليفهم الاستعمار البريطاني كان يضمر لهم الغدر .. وأن له مشروعه الاستعماري الخاص إزاء البلدان العربية بعد تخلصها من الاحتلال العثماني ، وأنه قد خانهم وهم في غمرة المعارك ضد الفيالق العثمانية ، ووقع مع حليفه الاستعمار الفرنسي على معاهدة ( سايكس – بيكو ) 1916 ، لتقاسم بلاد الشام ، وأن وزير الخارجية البريطاني ” بلفور ” قد وعد الصهاينة 1917 بمنحهم ” فلسطين لإقامة دولتهم ” إ سرائيل ” عليها .
يقول ” الشريف حسين قائد جيوش التحرير العربية في مذكراته : ” أنا الشريف حسين بن علي أمير مكة ، وملك الحجاز ، أروي في هذه الصفحات عن وعد مكماهون لي ، وعن وعد سايكس لبيكو ، وعن وعد بلفور لليهود ، ذلك الزحام من الوعود الباطلة ، المتضاربة ، والمتناقضة التي وقعت في النهاية فوق رأ سي ، وألقت بي فوق طراد بريطاني إلى منفاي في جزيرة قبرص .. وتتدافع الأسئلة في رأ سي : هل وعدني مكماهون بالدولة العربية المستقلة أم لا ؟ وإذا كان قد وعد ، فلماذا اتفق سايكس مع بيكو على تقسيم تلك الدولة بينهما ، ولماذا منح بلفور الصهاينة وعداً بإعطائهم فلسطين ، وكان سايكس قد أعطاها لبيكو ؟ .. ويقول : أعلم أن المؤرخين سيأخذون علي أنني وضعت ثقتي في مستعمر ، لكي يخلصني من مستعمر ، فكانت النتيجة أن ثرنا على الأتراك ، لكننا لم نحصل على الاستقلال ، بل انتقلنا من التبعية لهم ، لنصبح أتباعاً للبريطانيين وللفرنسيين ، بل وللصهاينة ، فيالها من نهاية تعيسة ” .
وهذه النهاية التعيسة للحركة العربية ” التحررية ” التي عملت تحت القيادة البريطانية المخادعة ، ومن ثم كانت ضحية للخداع الأنكلو – فرنسي – صهيوني ، كانت شاملة للحجاز كما شملت بلاد الشام .. أي سوريا .. إذ لم تمض سوى سنوات قليلة على نهاية الحرب ، حتى انقض آل سعود بدعم من البريطانيين على الحجاز وطردوا الهاشميين من الحكم ، حيث ا ستقر الشريف حسين في المنفى حتى الموت ، و اقتصر حلم الدولة العربية الكبرى على بلاد الشام ، في ظل احتلال البلدان العربية الأخري قبل عشرات السنين . فقد احتلت بريطانيا فلسطين والعراق والأردن ، واحتلت فرنسا سوريا ولبنان . ثم أعيد رسم الخرائط الاستعمارية للمنطقة ، فكان اقتطاع منطقة الموصل من سوريا وضمها إلى العراق ، أي نقلها من تحت الاحتلال الفرنسي إلى تحت الاحتلال البريطاني . ثم كانت معاهدة سيفر عام 1920 بين تركيا من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى ، كنتيجة للحرب العالمية الأولى ، وهي تضم الأقاليم الشمالية السورية ، التي تبلغ مساحتها من الغرب إلى الشرق أكثر من مائة ألف كيلو متر مربع ، وهي ” مرسين ، طرسوس ، أضنة ، عنتاب ، كلس ، مرعش ، أورفة ، ماردين ، ديار بكر ، وجزيرة ابن عمر ” . ثم قام الاحتلال الفرنسي عام 1936 باقتطاع أربعة أقضية من الأراضي السورية هي ” بيروت ، طرابلس ، البقاع ، صيدا .. إضافة إلى جبل لبنان ” وضمها إلى ما سمي ” بلبنان الكبير ” . ثم تنازل هذا الاحتلال عام 1939 عن ” لواء ا سكندرون ” لتركيا ، الذي يحتوي على أهم ميناء بحري سوري بعد بيروت في حينه وعلى أهم مدينة في الشمال بعد حلب هي انطاكية ، والبالغة مساحته خمسة آلاف كيلو متر مربع أي مايعادل نصف مساحة لبنان حالياً ، وذلك لقاء وقوف تركيا على الحياد في الحرب العالمية الثانية ، التي بدأت طبولها تقرع بقوة بين الضواري الاستعماريين لإعادة اقتسام العالم .
وإذا ما نظرنا إلى مساحة الأراضي السورية التي تنازل عنها الاحتلال الفرنسي لبريطانيا وتركيا ولإقامة كيان لبناني مستقل ، وتنازل الاحتلال البريطاني لليهود عن فلسطين ، وإقامة إمارة الاردن ، لوجدناها تكاد تعادل مساحة سوريا بحدودها الحالية .
إجمالاً ، يمكن القول ، أن الدولة العربية المنشودة ( سوريا الطبيعية ) ، التي كانت حدودها معروفة حتى العهد الفيصلي ، هي المساحة بين جبال طوروس وسيناء والبحر الأبيض المتوسط والبادية والفرات بما فيها الموصل . بمعنى أنها تبلغ مع الأقاليم الشمالية السورية المسلوبة خلف الحدود التركية ، تبلغ أكثر من ( 800 ) ألف كيلو متر مربع ، ويبلغ عدد سكان هذا المجال الجغرافي الواسع عشرات الملايين في حينه ، وحسب التعداد الحالي يتجاوز هذا العدد ال ( 70 ) مليوناً ، فضلاً عن الثروات الطبيعية البترولية والمعدنية والزراعية والاستراتيجية ، وستصبح هذه الدولة بذلك دولة إقليمية عظمى تتصدر آسيا ، وتجذب العرب إلى الوحدة القومية الشاملة ، ما يشكل جاراً لأوربا يحسب له الحساب الجاد عند التفكير في تغيير خرائط المنطقة .. وكانت وهو من الأهمية بمكان .. ستشكل ثقلاً سياسياً وعسكرياً كان سيحول دون قيام الكيان الصهيوني على الأرض العربية .
ومايلفت في هذا الصدد ، أنه عند إقامة شرقي الاردن عام 1921 ، سئل وزير الدفاع البريطاني آنذاك ونستون تشرشل ، الذي صار فيما بعد رئيساً للوزراء ” ولماذا إمارة شرقي الاردن ؟ أجاب .. عندما تقوم إ سرائيل ستعرفون لماذا هذه الإمارة ” مشيراً بذلك إلى حقيقة يتجاهلها الآن دعاة الاعتدال في التعاطي مع إ سرائيل ، وهي أن احتلال وتمزيق سوريا أي بلاد الشام ، لم يكن تحقيقاً للمطامع الاستعمارية الأنكلو – فرنسية وحسب وإنما أيضاً لإقامة دولة ” إ سرائيل ” ، ليصبح العرب كما قالها أمير مكة في صحوة المنفى ” أتباعاً للبريطانيين والفرنسيين بل وللصهاينة أيضاً ” .
ومايلفت أيضاً ، أن كل مجريات الأحداث في الشرق الأدنى في القرن العشرين تدل ، على أنه كلما تطلب الأمر الانتقال في إقامة إ سرائيل إلى مرحلة أعلى ، كانت الانقسامات والخلافات العربية تتزايد ويجري الإمعان في التجزئة والانقسام . كل المؤامرات والحروب في المنطقة كانت توجه إلى العرب ليبقوا متخلفين عاجزين . وبدلاً من أن يؤدي ذلك عربياً بعامة إلى ا ستفزاز وا ستنفار الكرامة الوطنية والقومية للتلاقي وبناء دولة الأمة ، كانت الحروب العربية البينية القبلية تستعر وتتسع وتتعدد . فقط الوحدة السورية المصرية تشكل اختراقاً لهذه الحالة التعيسة ، لكنها لم تدم سوى سنوات قليلة إذ أجهضتها المباحثية من جهة وضيق الأفق البورجوازي التقليدي اللاوطني من جهة أخرى ، يؤكد ذلك مشهد التحركات الحربية العربية – العربية في النصف الثاني من القرن الماضي .. في الستينات تحرك الجيش المصري ليقاتل في اليمن .. في السبعينات تحرك الجيش السوري ليقاتل في لبنان .. وقاتل الجيش اليمني اليمنيين بزعم الوحدة .. واشتبك الجيش الجزائري مع الجيش المغربي بذريعة الصحراء الغربية .. واحتل الجيش العراقي الكويت . كل البوصلات العسكرية العربية لم توجه جدياً سياسياً وعسكرياً نحو فلسطين . فقط حرب تشرين 1973 التي خاضها الجيشان السوري والمصري ببسالة وفنية عالية المستوى ، ثبت أنها لم تكن حرب تحرير للأراضي المحتلة بعدوان 1967 صعوداً حتى تحرير فلسطين ، بل حرب تحريك مفاوضات دولية مآلها الاعتراف بإ سرائيل .
وبدلاً من أن تؤدي هذه الحالة التعيسة سورياً بخاصة ، إلى الحفاظ على ما تبقى من سوريا .. من بلاد الشام .. وبناء الدولة القوية المزدهرة على أسس الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، اتجهت الأمور منذ البدايات ، ما بعد الاستقلال ، إلى الصراعات الحزبية وخاصة بين الأحزاب ذات الامتدادت الأديولوجية أو المصلحية مع الخارج ، ما أدى إلى زعزعة الثقة بالسياسة ،حيث كانت الاتهامات التخوينية المتطرفة المتبادلة تفضي إلى تضعضع صفوف المؤيدين والمناصرين ، وبالتالي إلى انحسار الفعل السياسي الوطني الديمقراطي الممنهج ، كما اتجهت إلى نزوع الأقليات القومية إلى التشدد بإبداء الرغبة في انتزاع حقوقها والاعتراف بوجودها على حساب الكيان الوطني المشترك ، كما اتجهت إلى إهمال الحقوق المشروعة للعمال والفلاحين وذوي الدخل المحدود ، وانسداد الأفق أمام المثقفين لازدهار ونمو إبداعاتهم الثقافية والفكرية ، ما أدى إلى ضعف الحضور الشعبي وضعف الاهتمام بالسياسة وإلى ضعف سوريا وا ستغلالها في مسلسل انقلابات عسكرية ذات صلة مع المشاريع الاستعمارية في المنطقة .
الفترة التي برز فيها الحضور السياسي الشعبي الفعال والمتميز كانت فترة 54 – 58 ، التي تمثلت بإشاعة الديمقراطية والحريات العامة ، وكان هذا الحضور سياجاً قوياً لحماية البلاد من التهديدات الأجنبية .
بدءاً من عهد المباحثية في عهد الوحدة ، ومن ثم ا ستيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة بانقلاب 8 آذار 1963 والحكم بقانون الطواريء والأحكام العرفية وتكريس الاستئثار بالحكم بد ستور 1973 ، تم إلغاء السياسة في المجتمع وانحسر الحضور السياسي الشعبي ، وا ستفحل التمايز الاجتماعي ا لسياسي بين أبناء المجتمع الواحد ، وحوصر المجتمع بالقمع والاعتقالات والمحاكمات الكيدية .
أربعمئة عام ونيف من الاحتلال والقتال الدامي من أجل الحرية والاستقلال .. من أجل الدولة العربية الكبرى ..
وستون عاماً بعد الاستقلال ولم تستقر بعد حدود وهوية سوريا . فما سلب من أرا ضيها ما زال مسلوباً ، يضاف إليها االجولان المغتصب في عهد الا ستقلال .. المتطرفون من الأقليات القومية ينفون عن سوريا انتماءها القومي العربي ، وحزب البعث أضعف سوريا بطبعها بطابعه الحزبي الاستبدادي المشخصن وبمصادرة حقوق المساواة السياسية والسيادية للمجتمع .. والبورجوازية التقليدية لم تتجاوز السوق المحلية إلى السوق العربية المشتركة .. والليبرالية الجديدة التي تمخضت عن النخب الثقافية والسياسية تدعو لارتباط سوريا بالعولمة الأميركية والغربية .. وذلك يجري مترافقاً مع تجاهل المشروع الصهيوني إزاء سوريا ، ليس فلسطينياً وحسب وإنما سورياً بصورة شاملة ..
بمعنى أن القضية الوطنية الكبرى مازالت معلقة ، بل وتتزايد المخاطر حولها ، ليس لعدم القدرة على استعادة ما سلب من الأراضي الوطنية ، بل مخاطر خسارة أجزاء أخرى من الوطن وفي مقدمتها الجولان .. فالتهديدات الأميركية والإسرائيلية تتوالى متوعدة بحرب أخرى أولى أهدافها دمشق عبر لبنان .
إن في تجاهل هذه الحقيقة السورية يكمن ضعف السياسة المتداولة في المشهد السوري .. تكمن المسؤولية التاريخية للنظام السوري ، الذي طوى صفحة المطالبة بلواء ا سكندرون فضلاً عن الأقاليم الشمالية ، ويمارس ا ستبداداً يضعف البلاد بصورة عامة .. ويكمن ضعف المعارضة أيضاً ، التي لم تضع هذه الحقيقة في مركز اهتمامها وفي أولويات برامجها ، وكأنها اعتبرت أن المسألة الوطنية السورية الكبرى قد انتهت إلى ما انتهت إليه ” وكفى المؤمنين شر القتال ” .. مانحة الأولوية للديمقراطية بطبعة ليبرالية غربية .
المطلوب ، ثقافة سياسية تعبر عن الالتزام بثوابت الحقيقة السورية العربية الكبرى وأهمها :
– الحفاظ على الوطن من مخاطر التطاول الاستعماري – الصهيوني على حدوده الراهنة ، وتحرير الجولان .. وتحرير فلسطين .. ووضع برنامج وطني ا ستراتيجي لاستعادة الأقاليم الشمالية ولواء ا سكندرون .
– التأكيد ديمقراطياً على هوية سوريا العربية مع الاحترام الكامل لحقوق الأقليات القومية الإنسانية .
– بناء دولة ديمقراطية قوية مزدهرة تنتفي فيها كافة أ شكال الاستبداد ، ما يستدعي د ستوراً جديداً يعبر عن المساواة التامة في الحقوق والواجبات لكل أبناء المجتمع .. دولة يسودها القانون الديمقراطي والعدالة الاجتماعية المتصاعدة ، ورفع حالة الطواريء والأحكام العرفية والإفراج عن المعتقلين السياسيين .
– بناء علاقات تكامل على كل الأصعدة مع الكيانات العربية المكونة لبلاد الشام تمهيداً لبناء الدولة العربية الكبرى .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : أية قوى سياسية .. أية قوى اجتماعية قادرة على تبني الثوابت السورية العربية .. وبناء الدولة الديمقراطية .. الدولة العربية الكبرى .. سيما بعد عجز البورجوازية التقليدية وعجز وتواطؤ الأنظمة عن القيام بهذه المهمة ؟ .. هل تستطيع القوى الشعبية التي تحظى بدعم النخب الثقافية والسياسية والعسكرية التقدمية أن تقوم ديمقراطياً بإنجاز مهام بناء الدولة العربية الديمقراطية الكبرى ؟ .
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى