ما يحدث في لبنان

عن «المقاومة» واللغة

null

حازم صاغيّة

يقول البعض في لبنان اليوم: المقاومة حريّ بها أن تقاتل في الجنوب، لا أن «تنزلق»، على ما فعلت، الى أحياء بيروت. ويقال أيضاً إنها خسرت «قدسيّتها» باستخدامها البندقيّة في الداخل.

ترد العبارات تلك ممزوجةً بخيبة الأمل مرّة وبظفَر الاكتشاف الحزين مرّة أخرى. لكنّها، في الحالات جميعاً، تأتي محكومة بقوّة العادة الكسولة: ذاك أن المقاومة، تبعاً لتقليد لغويّ وإنشائيّ مديد، ولثقافة سياسيّة رديئة، لا بدّ أن تكون عظيمة وشريفة ونبيلة لأنها مقاومة، كما لا بدّ أن يكون قتال إسرائيل مجيداً لأنه قتال إسرائيل. وعملاً بمحاكمة كهذه، تغيب تماماً مسائل الدولة والحدود وإجماعات المجتمع والقانون والقانون الدوليّ والتركيب الاقتصاديّ الملائم لوطن كلبنان.

وهذا جميعاً خاطئ وخطير يستدعي، ابتداءً، فرزاً شجاعاً في اللغة والمعاني يُخرجنا من الكلام الميّت ومن سلوك لا يؤسّس إلاّ لهزيمة أصحابه. فليس صحيحاً ذاك الفصل الخجول، صادقاً كان أم كاذباً أم متشاطراً ومأخوذاً بدعويّة سقيمة، بين القتال على الحدود و «الانزلاق» الى نزاعات أهليّة. دليلنا على هذا أن المقاومة الفلسطينيّة، قبل مقاومة «حزب الله»، نشأت للحدود وانتهت للداخل وبها افتُتحت «حرب السنتين». وكنّا، في هذه الغضون، رأينا ما رأينا من محاولات تلفيق بين «الدولة والثورة»، ومن تعويل على تعبير «تجاوزات» السحريّ، لنموّه به التناقض الجوهريّ بين «الدولة والثورة» هاتين. وليس صحيحاً، من ثمّ، أن ذاك الانتقال من وظيفة الى وظيفة «انزلاقٌ» أو تحوّلٌ مفاجئ لأن بذوره كامنة في المقاومة نفسها: فحين يُراد جعل الداخل هانوي الداعمة لتحرير ما، وحين يراد صوغ الحياة السياسيّة لذاك الداخل بما يخدم الوظيفة الحدوديّة المفترضة، تكون المسافة قصيرة جدّاً بين النشاطين. وهي علاقة تتّخذ أبعاداً ضخمة في بلد كلبنان، صغير وضعيف ومنقسم داخليّاً في رؤاه وتصوّراته. لكنْ حين نتذكّر(!)، فوق هذا، أننا لم نعد نملك أرضاً محتلّة (عذراً من مزارع شبعا)، يغدو «قتال إسرائيل» ذريعة لدور داخليّ أكبر فأكبر. وهو ما يتعاظم بعد صدور قرار كـ1701 الذي عطّل المقاومة، وربّما أبطلها، كفعل حدوديّ.

هكذا يوقعنا جبننا اللغويّ في حبائله: نقول إنها مقاومة مقدّسة فيتقاضى «حزب الله» ثمن ذلك في اتّفاق الطائف ثم في البيانات الحكوميّة، لا فارق أكانت إسرائيل قد انسحبت أم لم تنسحب. وكنّا، قبلاً، قد قلنا إن المقاومة مقدّسة فجاءت اتّفاقيّة القاهرة تترجم القداسة مكسباً لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة على حساب الدولة. وهذا من قبيل ما أصاب عرب الخليج الذين ظلّوا واقعين في حبائل «العروبة» و «بوّابتها الشرقيّة»، الى أن خرج صدّام حسين من تلك اللغة الجامعة وابتلع الكويت.

فتحرير اللغة، بالتالي، مهمّة يستدعيها أكثر من سبب، سيّما وأنها، في المختبر اللبنانيّ، توسّع هامش اللقاء الوطنيّ بين المسيحيّين والمسلمين ممن يقفون خارج «حزب الله» أو ضدّه، وقد تساهم في تعقيد مهمّة السلفيّين الذين قد يطلبون لأنفسهم أدواراً ومواقع لم تكن لهم من قبل.

صحيح أن الهدنة التي ستصنعها الدوحة تهبّ في اتّجاه آخر يكرّس الوحدة اللغويّة والقداسة المزعومة، وصحيح أن ما سيخرج من العاصمة القطريّة مطلوب لحقن الدم ووقف الخراب وضبط الغرائز، ولو موقّتاً. لكن الخطأ يبقى خطأ. فإما أن تعيش المقاومة ويموت لبنان وإما أن يعيش لبنان وتموت المقاومة.

الحياة – 17/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى