أبي حسنصفحات مختارة

الحركــة الشيوعيــة السوريــة: إعادة الاعتبار إلى تاريخ المجهولين

null


ابي حسن

من السهل على أي متابع للحراك الشيوعي السوري، منذ نشأته أواسط عشرينيات القرن الماضي، أن يختزل صعود وهبوط ذلك الحراك من خلال حادثتي ترشيح خالد بكداش نفسه للانتخابات النيابية في مرحلتين متباينتين، الأولى منهما ,1954 والثانية منهما .1973

في الانتخابات الأولى لبكداش، وهي المرحلة التي كانت تشهد سوريا فيها زهرة برلماناتها، فاز بكداش فوزاً كاسحاً في دمشق، دخل على اثره البرلمان السوري الذي شهد صولات وجولات لم تتكرر. في حين دخل في المرحلة الثانية 1973(بات فيها يعرف البرلمان بمجلس الشعب) على قوائم الجبهة التي كانت قد شكلت قبيل ذلك التاريخ بنحو العام. ولعل المتأمل في المرحلتين سيلحظ البون الشاسع بين صعود الحراك الشيوعي وهبوطه.

فليس سراً القول إن الحزب الشيوعي السوري كان من السبّاقين لتكريس عبادة الفرد واختزال الحزب بالشخص، فضلاً عن تجفيف قائده للذاكرة الجمعية للحزب من خلال تغييب دور أكبر قدر ممكن من أولئك الأناس الذين وضعوا اللبنات الأولى له جنباً إلى جنب مع بسطاء الناس وشرفائهم ممن انتسبوا إليه أو ممن كانوا من أنصاره وأصدقائه. وعملياً هذا مايسلط الضوء عليه كتاب «الحركة الشيوعية السورية ـ الصعود والهبوط» لمؤلفه عبد الله حنا، الصادر حديثاً عن دار نون، في حلب، إذ هو عبارة عن إعادة الاعتبار إلى الجنود المجهولين في الحزب الشيوعي منذ بداية تأسيسه حتى سبعينيات القرن الماضي.

كثير من السوريين لا يعرفون من الحزب الشيوعي السوري سوى أسماء قادته، وليس من قبيل المبالغة القول إن الكثير من الشيوعيين السوريين لا يعرفون أن ناصر حدة هو أول أمين عام لحزبهم وهو الذي أتى بخالد بكداش إلى الحزب المذكور أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، وهو الذي رشّحه أميناً عاماً للحزب لما لمس فيه من صفات قيادية تؤهله لهذا المنصب، وبذلك تنحى حدة عن منصب الأمانة العامة لصالح بكداش!. وناصر حدة هو من يُنسّب كذلك فرج الله الحلو، الذي كان تلميذاً في الصف الحادي عشر في إحدى مدارس مدينة حمص، إلى الحزب من بعد نيله الثانوية. ويقول حدة في فرج الله الحلو: «لم أجد في عمري شخصاً أكثر هدوءاً واتزاناً ولطفاً ودماثة أخلاق واجتهاداً مدرسياً وحباً للمعرفة والاطلاع أكثر من فرج الله الحلو». ذلك التلميذ الذي توسم به حدة خيراً سيسافر إلى حلب في خريف 1934 ليبدأ بتأسيس تنظيم شيوعي فيها في ظل ظروف صعبة، أما نهاية القائد فرج الله وكيف صفّته مخابرات عبد الحميد السراج، في عهد الوحدة السورية ـ المصرية، فباتت أشهر من أن تعرّف. ما من شك في أنه (حتى الآن) ما إن يُذكر الحزب الشيوعي السوري حتى سرعان ما تستحضر الذاكرة الجمعية (السورية) موقفه السلبي من قرار تقسيم فلسطين ,1947 وموقفه من الوحدة السورية ـ المصرية. ومن أسف أن قرار الحزب من تقسيم فلسطين يُدرّس لطلبة المدارس السورية في بعض المراحل التعليمية مبرزاً دوراً سلبياً للحزب في ما يخصّ بعض القضايا القومية والموقف منها بشكل عام من دون الغوص في حقيقة الأحداث من قبل واضعي المناهج التربوية.

يكشف الكتاب الذي بين أيدينا أن قرار القبول بالتقسيم كان عبارة عن رأي فردي من قبل خالد بكداش بدليل معارضة الكثير من قادة الحزب الآخرين لذلك القرار، يأتي في طليعتهم الشهيد فرج الله الحلو (لم يكن الحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني قد انشق نهائياً بعد)، حتى أن رشاد عيسى الشخصية الثانية في الحزب بعد بكداش فُصل من الحزب بسبب انتقاده سياسة قيادة الحزب وموقفها من قرار التقسيم!، غير أن التاريخ لم يسجل تلك المواقف مكتفياً بالموقف الرسمي للحزب الذي كان مختزلاً بالفرد.

من الأمور التي تثير الشجون هي المناقبية العالية التي تحلى بها الكثير من بسطاء الشيوعيين، فمثلاً عندما كان فوزي الزعيم (أحد الشيوعيين الأوائل) في باريس عند حدوث انقلاب عمه حسني الزعيم، طلب الأخير من ممثل سوريا في باريس أن يدفع إلى فوزي راتباً شهرياً ممتازاً، ورفض فوزي هذا العرض المغري، علماً بأن أحواله المالية كانت سيئة، وقال بغضب لممثل سوريا الدبلوماسي: كيف آخذ هذا المال ورفاقي في السجون السورية يعانون الأمرّين؟.

من البسطاء الذين يسلط عليهم الكتاب الضوء شخصية بدر مرجان المولود في مدينة طرابلس (حي باب التبانة) لعائلة علوية، فمن بعد أن انتسب للحزب الشيوعي اللبناني عام 1937يتطوع للعمل في أرياف اللاذقية بغية نشر الفكر الشيوعي والدفاع عن الفلاحين. وهو المؤسس الحقيقي لمنظمات الحزب الشيوعي في «الجبل العلوي». وهو الذي هيّأ الأرض لدانيال نعمة ورفاقه للعمل بين الفلاحين.

لعل إعادة الاعتبار التي عنيناها، قد تكون عبارة عن إقرار ضمني بإسدال الستار على مرحلة من تاريخ سوريا قد تعود وقد لا تعود، شهدت خلالها الكثير من الحراك، وهي إعادة اعتبار شهدنا مثيلها في كتاب صقر أبو فخر المعنون بـ«سورية وحطام المراكب المبعثرة»، وكذلك في رواية الكاتب السوري عادل محمود «إلى الأبد ويوم».

يمكننا رصد بعض جوانب إعادة الاعتبار في غزارة المادة الوثائقية التي تدعم الكتاب، مثال هذا، الجريدة/الوثيقة التي تعرض جريدة «صوت الشعب» العدد الأول، تاريخ 15 أيار ,1937 وفي الترويسة نقرأ: «صاحب الجريدة ورئيس تحريرها: نقولا إسكندر شاوي». وهذا ما لا نقرأه حالياً في الجريدة التي لا تزال تصدر في سوريا عن إحدى الحركات الشيوعية.

كتحصيل حاصل، نخلص من مطالعتنا للكتاب، إلى أن التاريخ لا يمكن لفرد، مهما علا شأنه، أن يصنعه بمفرده، وهذا ما يؤكده نضال أولئك الشيوعيين الذين تطرق إليهم الكتاب ومن لم يتطرق إليهم لسبب أو آخر.

([) كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى