صفحات مختارة

مّنْ يلتقط ماذا؟

الياس خوري
خلال الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، كان المواطن يشعر بالعجز المطلق. السلطة التي سقطت في الارض لم تجد من يستطيع التقاطها والاستيلاء عليها. فبدت الحرب وكأنها آلة تعمل في شكل مستقل عن ارادات القوى السياسية التي كانت تتقاتل. لحظات الاستقرار كانت وهما، والحرب كانت قادرة على استنباط اسبابها من كل شيء. وكنا نعزو الامر الى واقع ان لبنان هو على مفترق اقليمي خطير، وانه لا يعكس الصراع العربي- الاسرائيلي فقط، بل يعكس ايضا الصراعات العربية- العربية، التي كانت اشبه بحرب اهلية عربية مقنّعة تدور على ما اصطلح على تسميته باسم الساحة اللبنانية.
تبريرنا للانسداد السياسي اللبناني خلال فترة الحرب لم يكن خاطئا، لكنه اعفى اللبنانيين من تحمّل مسؤوليتهم عن بلادهم، وغطى عجز نخب اليسار واليمين عن انتاج فكرة لبنانية جديدة، وعن صوغ مشروع تاريخي للوطن الصغير الممزق.
بعد اندحار الجيش الاسرائيلي في لبنان عام 2000، وخروج الجيش السوري عام 2005، بقي العجز مسيطرا، بحيث عاد منطق الساحة الى الواجهة، وبقي لبنان مريضا وساحة.
نظر العرب الى لبنان بوصفه حالة استثنائية، او هامشية، جاعلين منه متنفسا لصراعاتهم، ولم يعوا ان لبنان ليس ساحة فقط، بل هو مرآة ايضا، وان ما جرى في لبنان كان نذيرا بالخراب الآتي. فالمشرق العربي كان يعلن افلاسه السياسي وعجز حركته القومية عن انجاز الاستقلال والتنمية، وغرقه في جنون ملوك الطوائف العربية، التي حولت الجمهوريات الى جملكات وراثية، بعد سقوط الناصرية.
كانت نظرية لينين في الاسستيلاء على السلطة، لا تقوم على فكرة اسقاط السلطة، بل على التقاط السلطة من الأرض لحظة سقوطها وتفسخها. انهيار روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى، سمح للبلاشفة بالاستيلاء على سلطة منهارة. اثبتت هذه النظرية صحتها على مرّ التاريخ، لكن لينين لم يناقش فكرة ان تسقط السلطة ولا تجد من يلتقطها، اي ان تصبح السلطة جثة تتفسخ، بحيث يسقط المجتمع مع السلطة، فيكون السقوط شاملا.
لعبة التماهي بين السلطة والمجتمع صنعتها الديكتاتوريات العربية، بحيث صارت السلطة تهدد الناس وتخيفهم باحتمالات سقوطها! لكن نجاح السلطة في اختصار الوطن لا يعود الى عبقرية الكولونيلات والجنرالات، بل يعبّر عن ازمة فكرية عميقة، ترتبط بهزيمة الحداثة وانهيار المشروع القومي بعد هزيمة الخامس من حزيران (يونيو).
السلطة سقطت في الخامس من حزيران (يونيو)، ولم تستطع انجازات الايام الاولى من حرب تشرين (اكتوبر) انقاذها. بل جاءت الحرب بقيادتها الساداتية لتقدم مخرجا كي يندرج النظام المصري في الهزيمة. ومنذ اغتيال السادات، ومصر، ومعها المشرق العربي في الفراغ: السلطة في الارض ولا من يلتقطها.
حين اقول ان السلطة سقطت، فهذا لا يعني انها فقدت قدراتها القمعية، بل قد تكون العلامة الاولى للسقوط هي تحول السلطة الى مجرد اداة قمعية. السقوط يعني ان السلطة فقدت شرعيتها السياسية والفكرية والاخلاقية. وهذا ما نراه في كل مكان، من لفلفة فضيحة لوكربي الى تنامي الطائفية في العراق، التي وصلت الى حد القضاء شبه الكامل على وجود الأقلية المسيحية واقليات اخرى كالصابئة، في بلاد شكلت مهد الديانات والشرائع في العالم، وصولا الى الاحتقان الطائفي في لبنان، والى علامات التفكك في مصر، التي لا تستطيع صرخة عادل امام وعمر الشريف انقاذها من الهاوية الطائفية.
حتى تذاكي النظام السوري، عبر دعمه للاسلاميين في فلسطين ولبنان، ليس سوى اشارة الى الهاوية، لأن لا شيء ينقذ فلسطين من الهاوية والتلاشي النكبوي، سوى عودة الوطنية الفلسطينية الى رشدها، ومقاومة الاحتلال، لا انتظار مفاوضات لا تقود الى نتيجة. ولا شيء ينقذ لبنان سوى التخلص من نظامه الطائفي المريض.
الجواب على ازمة الحركة الوطنية اتى من خارجها، اي من القوى الاصولية التي سبق للحركة الوطنية في صيغتها الناصرية ان نجحت في تحطيمها. لكن الجواب الاصولي جاء عاجزا. اذ ان استيراد النموذج الايراني لا يقود الا الى التفكك في ظل واقع الانقسام المذهبي في المشرق العربي، كما ان استيراد النموذج الوهابي معدّلا وجهاديا، يصب ايضا في خانة التفكك، وللاسباب نفسها.
السلطة في ارض التاريخ، لا تمارس سوى القمع السافر والتهريج والكذب. انظمة لا هدف لها سوى توريث الابناء، والاستمرار في السلطة الى الأبد. ليست معنية بالفقر وانهيار التعليم، وتحطم فرص العمل، لا تخاف الا من اسيادها الخارجيين، وتتعامى عن وحشية الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين.
ومعارضة/ معارضات عاجزة عن صوغ مشروع للوحدة الوطنية، بل تغذي اشكال التفتت الاجتماعي، جاعلة من نفسها اسيرة ‘فقهاء الظلام’، كي نستخدم عنوان رواية سليم بركات الرائعة.
السؤال هو من يلتقط هذا السقوط المخيف؟ وهل يمكن بعد فشل المشروع القومي، وانهيار خطاب الاصلاح الديني على يد ورثائه، ان نحلم بانقلاب يطيح كل شيء، مثلما فعل الضباط الاحرار في مصر عام 1952؟
قد تكون فكرة الانقلاب، هي المشكلة وليست حلا لمشكلة، فالسؤال يبدأ من ضرورة تأسيس نهضة فكرية جديدة، وهو ليس سؤالا سياسيا فقط، انه سؤال ثقافي. وهو يتعلق بضرورة تأسيس نهضة عربية ثالثة، تفتح الباب امام الخروج من مأزق التفكك، وتجعل من التقاط السلطة مسألة ممكنة.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى