سمر يزبكصفحات ثقافية

شباب الكاتب كلمة السر لتحقير الكتاب!

null
سمر يزبك
حفل الأدب العربي بالكثير من النصوص، التي يتحسر أصحابها على ضياع شبابهم من بين أيديهم، والرثاء لأحوالهم في ظل الشيخوخة، وبعض الشعر الذي قيل في هذا المجال صار مثلاً، ومن هذه الأبيات التي تنسب أحياناً الى حاتم الطائي، وأحياناً الى أبي العتاهية وغيرهما: «عريت عن الشباب وكنت غضاً/ كما يعرى عن الورق القضيب/ ونحت على الشباب بدمع عيني/ فما نفع البكاء ولا النحيب/ ألا ليت الشباب يعود يوماً/ فأخبره بما فعل المشيب».
لم يعد الحزن اليوم في الأدب العربي على ضياع الشباب، بل لعل حال الشباب يقول: ألا ليت الشباب يزول يوماً، بعدما أصبحت صفة الشباب تستخدم للتحقير في إطار صراع الأجيال الأدبية المسكوت عنه، والذي يجب أن نبدأ في مناقشته بجدية.
وإذا كنا نحن العرب لسنا الوحيدين الذين نهتم بمصطلح الجيل الأدبي، إلا أن ثقافتنا هي الأكثر تمسكاً به الآن، لأغراض الضبط والسيطرة والتحجيم التي يمارسها الجيل المتحكم في الثقافة العربية الآن. وهو جيل نعرف نقاده الذين يتحكمون في الجوائز والمؤتمرات، كتابةً وقلماً.
وليس معنى هذا أن جيل الستينات الذي يحكم الثقافة العربية الآن لم يعان الإقصاء نفسه من الرواد، لكنه كان جيلاً محظوظاً بالظرف السياسي المميز له في العالم كله، وبالتالي كان من الضروري تمييزه والتوقف عنده؛ فهو جيل الغضب والثورة على الهزيمة السياسية هنا، والجمود السياسي والاجتماعي هناك. وقد خلقت فورة الحماسة والغضب ملامح تبرر تمييز ذلك الجيل، لكن أوروبا أقلعت عن فكرة التجييل، بينما استمر التمسك بها هنا، حيث ننتظر جيلاً على رأس كل عشر سنوات. وأصبح من غير الطبيعي أو المسموح به أن يترك كاتب أو شاعر هائماً بلا جيل!
هذا التمسك بالأجيال وتصنيف الكتابة على أساس العمر، يبدوان حيلة نقدية لتسهيل التعامل مع النصوص، مثلما يفعل النحات والرسام والمصور الفوتوغرافي مع الموديل، عندما يطلب منه الثبات!
لكن التثبيت من أجل التقاط صورة، أو رسم مشهد غير تثبيت النصوص وجمع المختلف منها طبقاً لمصادفة ميلاد كتابها، في سنوات متقاربة. فهذا النوع من التثبيت يعود إلى التقاليد العربية في السياسة والمجتمع، حيث تثبيت الزمن وترتيب الأهمية في القبيلة طبقاً للسن. والثقافة العربية يغلب عليها طابع التقليد على طابع الابتكار، وانزياح المستقبل والحاضر لمصلحة الماضي، وانسحبت قوانين السياسة وأعراف القبيلة على الإبداع، وأصبح على من يحملون صفة الشباب القعود أو الوقوف جماعة في آخر الصف، بقليل من العناية بالتمايزات بينهم، على رغم أن كل مبدع أو مبدعة هو صوت نفسه، وصدى تجاربه وحساسيته تجاه الواقع.
وهذا التنميط هو في أحسن الأحوال ظلم للأصوات المتميزة، التي عليها أن تقف في طابور الجيل حتى ينظر الزمن في أمرها. وذلك إذا ما أخذنا القضية بحسن نية، لكن يبدو أن القضية أعمق، ولا ينقصها سوء النية.
قد نلتمس حسن النية للنقاد «الكبار» أو نلتمس لهم العذر، حيث لا يرى بعضهم الشباب من الأساس، بينما يتابع البعض منهم من عل، لأن النظر من شرفة الحكمة والسن الكبيرة أمر له بريقه، حيث يقف الناقد الكبير موقف المعلم والراعي المتفضل على نص الكاتب أو الكاتبة الشابة!
لكن سوء النية متوافر، ولا شك في أداء الكثير من «كبار» المبدعين الذين سقط وسم «الشباب» على ألسنتهم كمــا سقطــت التفاحــة علــى رأس نيوتــن. وأصبحت صفة «شاب أو شابة» تعني مواصفات معينة للنص: فهو لا يزال تجربة غضة وخربشات تنقصها الخبرة، وينقصها الإتقان وتحتاج إلى انتظار العمل التالي لإثبات حسن سير المبدع وسلوكه، وإن كان سيتطور أم لا، بل سيستمر أم لا.
أصبحت هذه الصفة سجناً أو عزلاً طبياً لمن جاءوا بعد المحظوظين بنعمة الميلاد مبكراً، مهما اختلفت تجاربهم، لكي يتمتعوا هم بالأضواء إلى أطول وقت ممكن. هذه الطريقة في الإقصاء تحت مسمى «الشباب» لا تقتصر على الساحة السورية فقط، لكنها سمة عربية عامة، نراها في كل بلد على حدة كما نراها في التظاهرات والجوائز العربية.
وبالنظـــر إلــى برنامج أي مؤتمر أدبي يقام هنا أو هناك، نجد نوعين من الجلسات: أولها جلسات عامة متعددة يتحدث فيها الكبار (سناً وبالتالي قيمة)، بينما تخصص جلسة واحدة يحتشد فيها عدد كبير من الجمع الهلامي غير المتمايز يوصفون أو يوصمون بأنهم شباب!
ربما كان الأمر مختلفاً في الشعر عنه في الرواية؛ فالشعراء أكثر عنفاً في معاركهم، والشعراء الشباب أكثر دفاعاً عن قصائدهم من الروائيين، ربما لأن الشعراء أكثر وضوحاً والروائيين أكثر باطنية، أو ربما لأن الحرب أكثر سفوراً في حال الشعر منها في الرواية.
في ملتقيات الشعر، هناك شاعر كبير تفرد له أمسية مستقلة، بينما يحتشد عشرة شعراء أو أكثر في أمسية واحدة، لأنهم شباب، للأسف، مع أن الكثير من الاكتشافات والتجاوزات الكبرى، في الشعر العربي والعالمي قام بها شباب، سواء رحلوا شباباً أو امتد بهم العمر، لكنهم قدموا أهم ما عندهم في شبابهم، من رامبو إلى لوركا، ومن أبي القاسم الشابي إلى بدر شاكر السياب ونازك الملائكة.
أما الجوائز فحدّث ولا حرج، سواء كانت جوائز وطنية أم مؤسسات خاصة، بعضها يخصص جوائز للكبار وأخرى للشباب، والبعض الآخر لا يلتفت إلى الشباب أساساً، وهكذا أصبحت الجوائز الأدبية نوعاً من مكافأة تقاعد يتقاضاها الأدباء بحسب سنهم واحداً بعد الآخر. وليس معنى هذا أن من يفوزون بالجوائز لا يستحقونها دائماً، غير أن بعض من لا يفوزون يستحقونها، لكن أحداً لا يلتفت إليهم لأنهم يعانون إعاقة الشباب، وهو داء يتولى الزمن علاجه.
* كاتبة سورية
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى