صفحات ثقافية

الطريــق القويــم

null
عباس بيضون
النقاش الذي فتحه يوسف عبدلكي حول الحروفية مهم، واذا بدا انه تأخر قليلاً فإنه لم يفت، فأنا لا أعلم انه انفتح على مصراعيه، ولا أعلم أنه انتهى إلى نتائج. يأتي يوسف عبدلكي وقت افول الحروفية ليحاكمها، ولست اظن انه يحاكم حقها في الوجود او مشروعيتها. لا أحسب ان نقاشه يبدأ من هنا وان عُمي على مناقشيه ذلك، وحسبوا ان الأمر هكذا، انهم يحسبون ان الأمر هكذا. لأنهم لا يعرفونه الا كذلك. ولأن اطروحة الحروفية النظرية والايديولوجية هي هذا. اطروحة الحروفية تنبع تماماً من المشروعية وحق الوجود. انها في الاساس بحث عن الطريق القويم الى الفن، والطريق القويم هنا هو بمقياس قومي، انه الطريق العربي الى الفن، وحين نقول الطريق العربي لا نعني طريقاً من طرق وإنما يعني الطريق الصحيح والقويم، وما عداه ليس بالطبع على هذه الصفة. ما عداه، أياً كان، هو الطريق الضال والزائف، إنه عندئذ ليس سوى انتحال شخصية ليست لنا وانحراف عن هويتنا وتقليد لما هو غريب وأجنبي. ليست الحروفية مدرسة كبقية المدارس واطروحتها ليست كبقية الاطروحات. لا تختار الخط العربي او الزخرفة الإسلامية لأسباب جمالية، فحسب ولكن لأسباب ايديولوجية بالدرجة الأولى، لا تعارض المدارس الأخرى من وجهة جمالية وإنما تعارضها بالجملة، لأنها مستوردة أجنبية، تعارضها وتدحضها على هذا الصعيد، ولأنها جميعاً سواء في التغرب فهي سواء في الانحراف وفي البعد. أطروحة الحروفية تقول إن كل ما سبقها ضلال فمعها تبدأ الأصالة ويبدأ الفن الحقيقي، لأن الحقيقي في نظر الاطروحة الحروفية هو القومي بلا فرق، الحروفية في عين نفسها صنو الهوية ووحدها يمكنها أن تدّعيها وتنبع منها. إنها الهوية وليست الأخريات سوى عكسها. انها الفن القويم الصحيح والأخريات غير ذلك، وهي البداية الاولى الصحيحة والأخريات تراكم انحراف وأخطاء. تقول الحروفية حان أن نبدأ ونبدأ من هنا. تقول إن ما سلف لم يكن سوياً فهي هكذا طاردة وأحادية.
ليست الحروفية كنتاج او اسلوب في المحل نفسه. إنها بالطبع طريقة من طرق ولها على هذا النحو، حقها ومشروعيتها. لكن الحروفية لا تريد نفسها مجرد طريقة او اسلوب، لأن طرحها الايديولوجي يتعدى مكانها الجمالي. طرحها الايديولوجي يقوم بالدرجة الاولى على ادعاء الهوية وبالتالي احتكار المشروعية وإعادة التأسيس والبداية الصحيحة، وهي، على هذا، تنفي ما سلف عربياً في العصر الحديث.
مشكلة الحروفية إذن ليست في لوحتها أو نتاجها، إنها تماماً في فلسفتها التي تفيض كثيراً عنها. ان الدعامة النظرية (الهوية والفن القومي) تتعدّيان قدرتها وهي لا تواجه بعملها ونتاجها بقدر ما تواجه بأطروحتها وادعائها. إن على المتلقين أن لا يروا أعمالاً كما هي، ولكن كتجلٍّ وكفيض من الحقيقة الكبرى التي تصدر عنها. علينا أن نرى في كل لوحة حروفية قبس الهوية والطريق القومي، وعليه فإن هذه اللوحة ليست لسان الفن بقدر ما هي لسان الأمة. وعلى المتلقي ان يعنو لهذه الحقيقة ولا يناقشها، شأنها في ذلك شأن منظمات وأنظمة تستبد باسم حقيقة أعلى قومية او دينية او طبقية لا فرق.
نظرية البدء الصحيح والطريق القويم قلما تعنى بالقيمة الجمالية. من بلغ الطريق الصحيح فقد وصل، بقطع النظر عن موهبته وقدرته وفنه. واذا تمايز الفنانون او تفاضلوا ففي ادعاء كل منهم انه اتصل اكثر من غيره، او قبل غيره، بالروح الأعلى. لا يعني هذا ان الفنانين لا يتفاوتون ويختلفون، ولكن يعني ان هذا التفاوت والاختلاف ليسا الأصل. فالاصل هو في هذه الصلة السحرية، التي قد لا تختلف عن التعزيم بين الفن في فقره وجموده أحياناً، وبين الحقيقة العليا، وهذه دعوى قد لا تكون سوى شعوذة او شبه شعوذة شأنها شأن الرقى والطلاسم.
على ان شيئا كهذا لابس الأدب والفن في كل مرة ادعى فيهما هذان انهما تجلي نظام اعلى او حقيقة مفارقة او ارادة أسمى. لا يعني هذا الكلام اننا نحاكم الحروفية كفن وكلوحة ولو انني لا استبعد ان تكون السذاجة النظرية قد لابست العمل الفني نفسه، وهذا ما يحدث كل مرة يعلو منها اليقين النظري على المغامرة الفنية، وليست الواقعية الاشتراكية ببعيدة ولا الشعر الوطني العربي أيضاً. لا بد ان الرسم الحروفي وشقع المفردات الزخرفية أحياناً كثيرة لا يكفيان لعمل نفاذ. لكننا، اكرر، لا نحاكم الحروفية كنتاج ولا كفن. يحق ان نحاكم اعمالا بعينها كما فعل عبدلكي الذي استدرك وأشاد بأعمال حروفية. أشاركه الرأي فيها ولا أشاركه، لكن الأمر ليس هنا. اذ المح عبدلكي الى انحدار الحروفية. فإننا لا نحاكمها كمدرسة ولا كطريقة، ليس انحدار التجريد، اذا حصل، او التعبيرية مثلاً في بلد ما او فن ما انحدار للطريقتين. هذا لا يمنع من ان المدارس تستنفد وتنحط، لكننا لا نستنتج ذلك من مجرد النظر الى أعمال فنان كالساعي. يستحق الأمر عندئذ محاكمة اوسع. يمكننا ان نفرد فلاناً او فلاناً في الفن الاكاديمي مثلاً، لكن هذا لا يمنع من ان يكون الفن الاكاديمي كله محل محاكمة. سيكون الأمر كذلك إذا تناولنا الانطباعية العربية مثلاً او السيريالية (العربية) او التجريد او.. او.. في أحوال كثيرة لن يكون حظ اتجاه كهذا افضل من حظ الحروفية، وربما نجد للحروفية بالطبع افضلية على بعضها. سنقول بالطبع ان قلق اتجاهاتنا الفنية لا ينحصر بالحروفية، بل سنقول إن للحروفية فضل تساؤل غفلت عنه اتجاهات لم يدر لها أن الفن يُسأل عن صلته بمحيطه ومكانه وأن فكرتنا عن «عالمية مهاجرة» التي بكرنا اليها أو قد لا تكون سوى المعادل البسيط لفقدان البحث والسؤال، او لفن بلا سؤال ولا يبتعد عن أن يكون نوعاً من التمرين المدرسي.
قد نستخف بكثير من الحروفيين عن حق، وقد نثمن او لا نثمن المدرسة نفسها، لكننا لا نجد الحال أفضل اذا نظرنا الى الفن الاكاديمي والانطباعية والسيريالية… فهذه، وربما غيرها، لم تترك ما يغني. لا ننسى أن من أفردناهم من السالفين كمحمود سعيد والجزار على سبيل المثال، انما فعلنا ذلك بدعوى قربهم من محيطهم ومكانهم والتفاتهم الى مكانهم وزمانهم. ليس الفن مهارة حرة من الزمان والمكان، بل ليس مهارة فحسب. للشخصية والعالم والتمثل قيمة محددة، وكل هذا يتم في تراسل وتفاعل مع لحظة وثقافة وواقع. لم تخطئ الحروفية السؤال، لكنها استسهلت الجواب وحصرته وسطّحته، الغريب أن السؤال نفسه قد لا يبدو أصيلاً، وقد يكون هو نفسه مستعاراً. لقد نبهنا بورخيس وماركيز الى ألف ليلة وليلة، كما نبهنا ماتيس وماتيو الى الحرف العربي او الخط العربي. ان مسألة الاصالة أكثر تعقيداً مما يتراءى لأصحاب الطريق الملكية، لكن سؤالها ليس لغوا، او هو على الاقل لم يكن لغوا حينه. ليس التفكير في الخط العربي وألف ليلة وليلة وخيال الظل سيئاً، لكن تلخيص التراث والواقع على هذا النحو أبسط وأفقر مما ينبغي، وعليه قد لا ينتهي الأمر بغير اصطلاح فظ وشعار. لكن الحروفية ليست وحدها التي تلخص وتبسط، قد لا يكون تاريخنا مع الفن كله شيئاً آخر.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى