صفحات مختارة

دول تمنع نشوء مقاومات ومقاومات تمنع نشوء دول

منير الخطيب
عاشت مجتمعاتنا تجربة الدولة مع صدمة الحداثة الكولونيالية. قبل ذلك الحدث الكوني كانت غارقة في تاريخها المملوكي – السلطاني، فقد عرفت أشكال الخلافة والإمارة والسلطنة، وجميعها بنيات مختلفة كل الاختلاف عن مفهوم الدولة وتجلياته وتعبيراته بوصفه أحد أهم ذرى الحداثة الغربية.
وخلال سيرورة نزع الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية التي تحولت إلى عملية نزع  لمظاهر الحداثة التي تسللت إلى مجتمعاتنا مع تلك الصدمة ومع الانقلاب «الثوري» الذي أسس لزمن المشروعية الثورية، أعيد بعث تاريخنا المملوكي- العثماني مغلفا بشعارات «اشتراكية» و»تقدمية». وفي متن هذا التحول أعيد الاعتبار للدولة- السلطانية، فدولة الحزب الواحد ودولة- العشيرة ودولة-الطغمة هي أشكال «محدثة» لتلك الدولة- السلطانية.
إن إجهاض تجربة الدولة في بلادنا، إضافة لأسباب أخرى كثيرة، جعلت النخب في مجتمعاتنا تهتم بصفات الدولة وليس بمفهوم الدولة ومسائله النظرية وتطبيقاته المعقدة والشائكة. اهتمت هذه النخب بالصفة الاسلامية للدولة وكذلك بالصفة الاشتراكية لها، فهذه الصفات في نظرها أهم من الموصوف، مما دعا مفكرا مرموقا كالياس مرقص لأن يقول «الصفة أكلت الموصوف»، أي أن صفات الدولة التي وضعتها الأيديولوجيا أكلت ماهيتها وجوهرها، ومما دعا مفكرا مرموقا آخر كعبد الله العروي لأن يقول إن النخب في بلادنا تمتلك «أدلوجة» عن الدولة فقط.
لذا يمكن القول إنه خلال ثلاثة قرون من تداخل مجتمعاتنا مع زمانية التوسع الرأسمالي الغربي، أي من غزو نابليون لمصر وصولا إلى غزو بوش للعراق، فشلت مجتمعاتنا في دخول عتبة العصر. وأهم عناوين هذا الفشل العجز عن إنتاج دول تعاقدية تتولى مهام تحصين الاستقلال وإنجاز التنمية وتفعيل الانتاج المادي والفكري والتصدي لأطماع الخارج ومواجهتها وفقا لمنطق مصالح الدولة – الأمة. فالدولة السلطانية: دولة- الحزب أو دولة- الطغمة هي دولة حصرية وجزئية تمثل»شقفة» من مجتمعها أولا، ودولة حرب داخلية ثانيا، ودولة احتكار للسلطة والثروة ثالثا، ودولة تعطيل وإقصاء للقوى الاقتصادية والاجتماعية المنتجة رابعا، ودولة خصي لإمكانيات مقاومة مجتمعاتنا للغزو الخارجي خامسا، ودولة لا تنتج إلا معارضات ومقاومات انشقاقية وتوتاليتارية على شاكلتها سادسا.
وتمثل التجربة الصدّامية مثالا صارخا على ذلك، فنسبة 100 في المئة التي حصل عليها صدام حسين في آخر استفتاء أجراه  قبل سقوط بغداد كانت تعني في مضمونها أن المجتمع العراقي قد فقد إمكانية مقاومة الغزو الخارجي بنفس النسبة، أي بنسبة 100 في المئة، وأن النظام قد هزم المجتمع بنسبة 100 في المئة، وأن السقوط الهين والسريع لبغداد، رغم وجود الحرس الجمهوري وميلشيات صدام وجيش القدس بملايينه السبعة، يؤكد هذه الحقيقة.
كذلك لا يمكن فصل انكشاف السودان مؤخرا على شتى أشكال التدخلات الخارجية التي لن يكون آخرها قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف البشير عن مناخات الحروب الداخلية بين مكونات الشعب السوداني والتي رعتها الدولة- التسلطية وكانت طرفا فيها.
وإذا كان لكل دولة سلطة، ليس بالضرورة أن يكون لكل سلطة دولة كما يقول الراحل إلياس مرقص أيضا. ففي البلاد العربية سلطات وحسب، انحدرت إلى مجرد تسلط وولاية على البشر، هيأت بلدانها للاحتلال والاختراق الخارجي.
بالمقابل، إن حركات المقاومة الإسلامية التي ولدت ونمت في سياقات تغول السلطات التوتاليتارية وغياب فكر الدولة ومنطق الدولة وأخلاق وضمير الدولة، وفي ظل تراجع الفئات الوسطى في مجتمعاتنا ورجحان التركيبة الرعاعية لها واجتثاث كل مظاهر الحداثة فيها، اتسمت هذه الحركات بجملة من السمات تجعلها محكومة بإعادة إنتاج التوتاليتارية والتأخر الثقافي والسياسي والخراب الاقتصادي والاحتراب الاجتماعي، بالرغم من «قداسة» الشعارات التي ترفعها في أذهان البشر العاديين وفي أذهان النخب أيضا، وذلك لأن هذه الحركات تتسم بذات السمات التي تميز السلطات التي حكمت المسارات الداخلية لمجتمعاتنا خلال الخمسين سنة الماضية.
فهي حركات حصرية وجزئية، إما حصرية مذهبيا أو حصرية عقائديا وايديولوجيا، ولا تمتلك مشروعا للمستقبل أو مشروعا للحياة، فهي لا تمتلك إلا مشاريع للموت الجماعي. كذلك لا تحظى بإجماع وطني، ولا تعنيها حرية الإنسان وحقوقه. فالايديولوجيا التي يحملها الرأس الذاتوي وسبل تحقيقها أهم من حرية الأفراد وحقوقهم. كذلك يحكمها هذيان الهدف على حساب منطق الواقع والتاريخ، فيتضخم البعد الإرادوي لديها مدفوعا إلى نهاياته القصوى، ولـــــو كان ثمن ذلك الحرب الأهلية ما دامت هـــي «حرب مقدسة» على»العملاء والخونة». فالبشر في نظرها منقسمون إلى أخيار وأشرار وإلى وطنيين وعملاء، كذلك هي حركات تنتعش في مناخات الفوضى الاجتماعية أو بالأصح مناخات «الخلاعة» الاجتماعية التي هــي مناخات غياب الدولة وتعبيراتها. فوضعية «اللا دولة» التي هي وضعية فوضى الطوائف والمذاهب والإثنيات والأيديولوجيات المنفلتة من عقالها ووضعية حرب الجميع على الجميع هي التي تنتعش فيها هذه الحركات الجهادية.
إن غياب فكر ومنطق الدولة يعني غياب الأخلاق والقانون والضمير وغياب الحرية والكرامة والتحرير والتنمية. وليس أدّل على ذلك من أننا أصبحنا محكومين بثنائية دول تسلطية تمنع نشوء مجتمعات لها قدرة على المقاومة، وحركات مقاومة توتاليتارية تمنع نشوء دول.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى