صفحات العالمما يحدث في لبنان

نموذج الكويت والانتخابات في لبنان: ديموقراطية الطوائف والبدو .. والنساء!

طلال سلمان
تفرض المقارنة نفسها بين الانتخابات النيابية العتيدة عندنا وانتخابات “مجلس الأمة” في الكويت، التي أنجزت أمس الأول، محققة قفزة نوعية غير مسبوقة في مجال التعبير الديموقراطي حتى ضمن وضع مأزوم، كان يهدد بانفجار خطير في هذه الدولة الصغيرة والغنية بمداخيلها النفطية كما بإشكالات الحكم فيها.
فالتجربة البرلمانية في الكويت تلقت انعكاسات الصراعات المتعددة داخل المجتمع الغني، والتي لامس بعضها موقع الأسرة الحاكمة بينما انعكس بعضها الآخر وبحدة على مكونات هذا المجتمع وتراتبياته التقليدية التي كانت لا بد أن تجسد تعبيراتها السياسية ديموقراطياً وإلا تفجرت الحساسيات بالمصالح.
فالكويت عاشت سلسلة من المحن كان أخطرها غزو صدام حسين مطلع آب 1990 الذي شطب دولتها عن الخريطة وشرد شعبها في منافي “الضيافات” العربية، حتى أعيد “كيانها” السياسي إلى الوجود بالحرب التي جمعت في صفوفها الإدارة الأميركية فرقاً عسكرية من بضع وثلاثين دولة بينها عدد من الدول العربية ولو بمشاركة رمزية…
أعيدت “الدولة” إلى الوجود، لكن كل ما فيها صار غير ما كان، وتوجب ترميم المؤسسات والتراتبية داخل السلطة والبرلمان، وبين أهل الحكم وأهل الاقتصاد وبين الحضر والبدو ثم تلك الفئة التي يطلق عليها “البدون” والمرشحة دائماً للتزايد، ليس فقط نتيجة الحدود المفتوحة، بل كذلك نتيجة تداخل الانتماءات العشائرية، والصراع السياسي المفتوح وتكاثر التيارات الإسلامية وتزايد نفوذها.
وعلى امتداد السنوات القليلة الماضية، وربما بعد الاجتياح الأميركي للعراق في ربيع 2003، تبدت وجوه الخلل والتباينات بين مواقع أهل السلطة والعائلات العريقة بنسبها والعميقة جذورها في الدورة الاقتصادية… ثم حول موقع الأجيال الجديدة والكفوءة، ولا سيما النساء وهن بين النخب علمياً وفكرياً واجتماعياً كما أنهن بين أهل الخبرة في الاقتصاد، وكان لا بد من التسليم بحقوقهن في المشاركة في الحياة السياسية، أي عبر الانتخابات النيابية…
كان العديد من الكفاءات النسائية قد وصلن إلى مواقع قيادية في الإدارة، ثم كان أن تولت أول امرأة حقيبة وزارية في الحكومة ما قبل الأخيرة، التي حلت مجلس الأمة ودعت إلى انتخابات نيابية جديدة أعطت النساء أربعة مقاعد في البرلمان الجديد… وهذه سابقة يستحق الكويتيون التهنئة على تسجيلها.
ولقد شاءت ظروف عملي الصحافي، بداية الستينيات في الكويت، أن أشهد وضع أول دستور لهذه الدولة الوليدة، وأن أحاور واضعه الخبير الدستوري الممتاز الدكتور عثمان خليل، وأن أشهد أيضاً ولادة أول مجلس أمة، بكل المناقشات التي سبقته ورافقته مقدمة تجربة ديموقراطية مفصلة على مقاس الإمارة الصغيرة والغنية، والتي كان يهددها نظام عبد الكريم قاسم، حاكم العراق آنذاك، وينذرها بتحويلها إلى قائمقامية تابعة لمحافظة البصرة.
كان الكويتيون ينظرون إلى لبنان باعتباره المثل والمثال، ويغبطون اللبنانيين على تجربتهم الديموقراطية الفريدة في بابها، من حيث تطويعها لمقتضيات التعدد الطائفي والمذهبي، والتطلع إلى تقليد الغرب قافزين من فوق واقع مجتمعهم ومحيطهم.
وكنت أحمل في وجداني ذكريات التزوير التي شهدتُها بأم العين، وأنا طفل، لانتخابات 1947 الشهيرة! ولذا فقد كنت أشفق على الكويتيين من مغبة التقليد!
ها هي الكويت تتقدمنا الآن، فيتسع برلمانها الجديد للإسلاميين ولليبراليين، للسنة والشيعة، للحضر والبدو، للعائلات العريقة وللكفاءات الجديدة، والأهم: لأربع نساء، كلهن خريجات بعض أرقى الجامعات في العالم.
أما في لبنان فإن التوافقية قد ألصقت بالديموقراطية فكادت تلغيها، فلما تمت مراعاة التوازنات الطائفية والمذهبية بالعودة إلى قانون عتيق يقوم على الفرز الطائفي والمذهبي، ويجعل كل طائفة تنتخب نوابها، ويبيح لكل قائمة يتصدرها تيار أو تنظيم، أو مجموعة من الوجهاء الأثرياء أن ينفقوا ما شاءت لهم سعة اليد ـ بغض النظر عن المصادر ـ أن ينفقوا، انتحرت الديموقراطية على باب البرلمان الجديد!
خلت الساحة لمشروع حرب أهلية تحت عنوان النظام والصلاحيات فيه (بما هي حقوق للطوائف) وليس كضمانات للتقدم نحو غد لا تحكمه العصبيات… والعصبيات باب مفتوح للتدخل الذي كان مشتركاً، ذات يوم، بين الجهات العربية التي لها نفوذ مشروع بحكم القربى والمصالح المشتركة وبين القوى الأجنبية ذات النفوذ في بلادنا.
الطريف أننا نحاول التستر على فضيحة قتل الديموقراطية بقانون الانتخاب اللاغي لحقوق المواطن (كإنسان)، باستقدام أو قبول كل الهيئات التي تحترف مراقبة الانتخابات للتثبت من ديموقراطيتها!
لدينا الآن عدد من البعثات الدولية بينها ثلاث مؤسسات رئيسية نشرت مراقبيها في لبنان: “المعهد الديموقراطي الوطني”، وهو أميركي ترئس إدارته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة (التي يقارب عمرها الثمانين عاماً) مادلين أولبرايت، التي لا يحفظ لها اللبنانيون كثيراً من الود بسبب محاولاتها منع الدولة من رسم “الخط الأزرق” بعد إجلاء الاحتلال الإسرائيلي في العام ألفين.
هذا المعهد، الذي جاءت رئيسته فجالت على عدد من المسؤولين والقيادات السياسية، أوفد إلينا ثمانية مراقبين سيتبعهم بخمسين آخرين، والتكلفة مليون دولار.
البعثة الثانية تابعة لمؤسسة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، وقد أوفدت ستة مراقبين سيلحق بهم أربعون!
أما بعثة الاتحاد الأوروبي (وكانت شاركت في مراقبة انتخابات 2005) فعديدها ثلاثون سيرتفع إلى مئة، والتكلفة أربعة ملايين يورو.
سيأتي أيضاً مراقبون من تركيا، والأطرف أن مراقبين من طرف جامعة الدول العربية سيلتحقون سريعاً بهذه الحفلة الديموقراطية الفذة، وهم جميعاً من رواد الديموقراطية وحقوق الإنسان في هذه المؤسسة العريقة التي فقدت وظيفتها الأصلية التي يدل عليها اسمها فباتت تختلق لنفسها أدواراً لم تكن لها سابقاً، وليست مهيأة لممارستها، مع كل الاحترام للنوايا الطيبة التي لا تصنع مؤسسة فعالة يمكنها أن تؤثر فتمنع التزوير، مثلاً، باسم مصلحة الطائفة أو زعيمها أو.. نكاية بالطائفة الأخرى وزعمائها!
هنيئاً للكويت بمجلسها النيابي الجديد، أما محلياً فأقصى طموحات المواطن اللبناني ألا تكون العملية الانتخابية بحد ذاتها المدخل إلى استيلاد مجلس نيابي جديد معتل وقاصر ومهدد بالانفجار من داخله والتسريع في تفجير حرب أهلية جديدة!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى