صفحات العالم

ما هو أبعد من قرار المحكمة الجنائية..

تركي الحمد
أولا، تجب الإشارة إلى أن هذا المقال ليس محاولة لإدانة أو تبرئة السيد عمر البشير رئيس «جمهورية السودان الديمقراطية»، فلست مخولا هنا بالحكم على الرجل، بقدر ما أنه تأملات حول قرار المحكمة الجنائية الدولية في الرابع من مارس/آذار، بتجريم الرئيس السوداني واعتقاله بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور. وفي ظني، وبعض الظن إثم في أية حال، أن للقرار جانبين أحدهما إيجابي والآخر سلبي. أما الجانب الإيجابي، فهو أن هنالك مجتمعا دوليا آخذا في التجسد، وفوق هذا المجتمع سلطة دولية آخذة في التشكل، مما يعني أن العالم يتجه لأن يكون «دولة» واحدة، أو هو في طريقه لأن يكون كذلك، محققاً في ذلك أحلاماً كانت تداعب أذهان المفكرين الطوباويين في الماضي من الزمان. قد تكون مثل هذه «السلطة العالمية» متعثرة في خطواتها الأولى، وقد تكون مجحفة في حق البعض أحياناً، ومحابية للبعض أحياناً أخرى، ولكن هذا جزء من الثمن الذي يجب أن يدفعه الإنسان في سبيل تكون كيانات جديدة لا تلبث أن تتغير وتتطور، وتصبح أكثر عدلا ومساواة تجاه الجميع، هكذا تطور مفهوم حقوق الإنسان، وهكذا تطور مفهوم الحرية، وهكذا تطور مفهوم المساواة، فانطلق من مفهوم ضيق للإنسان والحرية والمساواة، ليصبح مفهوماً شاملا للجميع.
العالم يتجه لأن يكون كياناً واحداً، خاصة في ظل عولمة جعلت مصير الأفريقي مرتبط بمصير الأوروبي، وكلا المصيرين مرتبط بما يجري في آسيا وأميركا، بل إن ما يحدث في جزر الواق واق لا بد أن يؤثر على ما يجري في جزيرة سرنديب، وبذلك تتحقق مقولة «حسني البرظان» في مسلسل «صح النوم» من أننا «كي نعرف ماذا يجري في إيطاليا، فعلينا أن نعرف ماذا يجري في البرازيل». كانت جملة يُقصد بها الفكاهة والإضحاك، فإذا بها تتحول إلى حقيقة من حقائق العصر. ولعل الأزمة المالية العالمية خير دليل على أن العالم قد أصبح كياناً واحداً، إذا اشتكى منه عضو، اشتكت بقية الأعضاء، وتداعت له بالسهر والحمى، لا حباً في ذلك العضو أو تعاطفاً معه، ولكن لأن مرضه يمرضها، وخيره يعمها، وفي المصلحة يكمن المعنى. نعم قد تكون المصلحة هي الغاية في البداية، ولكن تغير الأحوال وتطور الوعي الإنساني على مر الزمان، وكما سبق أن حدث، سوف يجعل من المصلحة هدفاً ثانوياً، ويبقى الإنسان في النهاية هو الأصل، وبذلك تتداعى الأعضاء لعضوها المريض بالسهر والحمى ليس من أجل المصلحة، ولكن بداعي المشاركة في إنسانية واحدة.
مذكرة اعتقال البشير، ومن قبله سلوبودان ميلوسيفيتش وغيرهما، تعني أن عهد الحكم المطلق لهذا الزعيم أو ذاك في دولته قد ولى، وأن العالم يراقب الجميع، وليس له أن يتمسح بمبررات السيادة وصوت الجماهير كي يقمع الجماهير، ويحول مبدأ سيادة الدولة إلى سيادته الخاصة. حقيقة أن للعولمة مثالب كثيرة، ولكن من محاسنها أنها خلقت عالماً واحداً، لا يجرؤ فيه أحد أن يصبح هتلر جديدا، أو سالازار أو فرانكو أو صدام حسين أو العقيد. مثال على ذلك هناك تغيرات كبيرة تجري في ليبيا اليوم، والسبب لا يعود إلى أن الأخ العقيد قد أصبح إنسانياً بين لحظة وضحاها، ولكن السبب يكمن في أن العقيد قد أدرك متغيرات العصر، وأن هناك عيناً تراقبه، وهو من الدهاء بحيث يعلم أن زمن عبد الناصر قد ولى، والزمن اليوم هو زمن العولمة، فطأطأ برأسه أمام الريح، لعلها تتجاوزه ولا تقتلعه، كما فعلت مع غيره. زمن العولمة، كرهناها أو أحببناها، يعني أن افتراس الحكام لشعوبهم قد ولى، وما كان يجري في الماضي لم يعد ممكناً في الحاضر، ولهذا الأمر نتائجه المستقبلية بالنسبة للثقافات والشعوب. ففي الماضي كان الحاكم يُحيي ويميت، فإن عارضه أحد كان الموت هو السبيل، وإن أضحكه أحد، كان العفو وكانت الجائزة هي النهاية، وربما يعارضه أحدهم، أو يقول قولا لا يعجبه، فيأمر بالنطع والسيف، ولكن يسعف الله ذا الدم المهدور فيقول قولا يُعجب الحاكم، فيضحك حتى يستلقي على قفاه، وتظهر ثناياه، ويأمر بالعفو عنه ومنحه جائزة سنية. مجرد قول أعجب الحاكم هو الفاصل بين الموت والحياة أحياناً، وهي صورة كانت تتكرر في ديارنا وديار عباد الله الآخرين.
أما الجانب السلبي للقرار فهو الخوف، وهو خوف مبرر، من أن تتحول مثل هذه القرارات إلى ورقة في لعبة سياسية تستخدمها القوى الكبرى، أو الدول المهيمنة على القرار الدولي، في إزاحة من لا يوافق هواها عن طريقها، وذلك مثل شعار حقوق الإنسان أو الحرية والديمقراطية الذي استخدمته الولايات المتحدة، وما زالت تستخدمه، كورقة سياسية ترفعها بين الحين والآخر في وجه من لا يتفق معها، وتختفي هذه الورقة حين ترفع الدولة راية الاستسلام، أو تكون حليفاً لأميركا وتفعل ما تشاء في الداخل. ففي عهد الرئيس جيمي كارتر مثلا (1976 ـ 1980)، كان شعار حقوق الإنسان هو الشعار الرسمي للسياسة الخارجية الأميركية، وكان مرفوعاً في وجه الاتحاد السوفيتي السابق وفي وجه الصين ودول أخرى، في ذات الوقت الذي كان فيه كارتر يمتدح إيران ويصفها بأنها راسخة الاستقرار، ويكيل المديح للشاه وحكمته وبحثه عن رفاه شعبه، في الوقت الذي كانت فيه «السافاك» (المخابرات الإيرانية أيام الشاه)، تلاحق المواطنين وتعذبهم وتقتلهم، ولكن كون إيران حليفاً للولايات المتحدة جعلها بمنأى من أن تكون ضمن قائمة الاتهام. وفي عهد كارتر نفسه، انفجرت الثورة الإيرانية في «جزيرة الاستقرار»، حسب وصف كارتر، وطردت الولايات المتحدة الشاه من أراضيها، بل من مستشفياتها، ومات وحيداً منبوذا في القاهرة بعد أقل من سنة من سقوطه، حيث كانت مصر هي الدولة الوحيدة التي وافقت على استقباله. ومثال آخر على سوء استخدام مثل هذه القرارات الدولية، والتي يؤثر عليها بشكل كبير اللاعبون الكبار في الساحة الدولية، هو الصين وكيف أن الولايات المتحدة ترفع ورقة حقوق الإنسان في وجه الصين حين تسوء العلاقات بينهما، وتختفي هذه الورقة حين تصفو الأجواء، رغم أن الحال لم يتغير. قد يُقال أن قراراً مثل قرار المحكمة الجنائية هو قرار دولي، وهو شيء مختلف عن السياسة الأميركية وأوراقها، ولكن الحقيقة أن القرارات الدولية وسياسات اللاعبين الكبار في الساحة الدولية متداخلة بشكل كبير، بحيث يصعب أحياناً التفرقة بين ما هو دولي مشترك، وبين ما هو أميركي أو أوروبي مثلا.

ولكن في النهاية نعود فنقول إن الجانب الإيجابي يطغى على الجانب السلبي في مثل هذه القرارات وما تمثله من تشكل سلطة دولية تراقب الجميع، وتعاقب الجميع إن هم اقترفوا مجازر بحق إنسانهم والإنسان من غير إنسانهم، أو إن هم استبدوا بالأمر فأصبحوا كفرعون مصر في زمانه، يرفع كم ويخفض كم، ثم ينتهي إلى القول: «ما علمت لكم من إله غيري». أما إساءة استخدام مثل هذه القرارات كأوراق سياسية لصالح هذه الدولة أو تلك، فهو واقع في الحقيقة، ولكنه واقع لن يستمر في ظني، كما حدث مع أمور خرجت في الماضي من بطن المصلحة البحتة، ولكنها في الخاتمة انتهت إلى خير الإنسان. المهم، أن الحاكم قد أصبح مقيداً في النهاية، ولم يعد في استطاعته أن يصبح فرعوناً أو نمروداً أو طاغوتاً، وهذا أمر بحد ذاته جميل.
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى