صبحي حديديصفحات العالم

الترابي ومفهوم ‘العدالة الدولية’: مفارقات اكتشاف جديد

null
صبحي حديدي
بسبب تصريحات اعتبر فيها أنّ الرئيس السوداني عمر البشير ‘مدان سياسياً بجرائم ارتكبت في دارفور، وعليه المثول طوعاً أمام المحكمة الجنائية الدولية’، لجأت السلطات السودانية إلى اعتقال الشيخ حسن الترابي، زعيم حزب ‘المؤتمر الشعبي’.
واليوم، بعد احتجاز دام شهرين، تمّ الإفراج عنه ضمن سياقات المسألة ذاتها، أي قرار إصدار مذكرة توقيف البشير، ليس دون مفارقة صارخة: كان الإعتقال يستهدف التنكيل بالترابي، وكان الإفراج يسعى إلى استرضائه والإيحاء بتوفّر إجماع شعبي سوداني حول رفض المذكّرة. غير أنّ الترابي أعاد التشديد على مواقفه المعارضة للنظام، وإيمانه بالعدالة الدولية، وبكلّ ما يمكن أن يقود إلى تحقيقها في بلاده أوّلاً، لأنه ‘لا حصانة لأحد في هذا العالم’، و’السجون لا تجعل أصحاب المبادىء يعدّلون مواقفهم’.
ولعلّ من الخير أن أسارع إلى تكرار موقفي الشخصي من قرار المدّعي العامّ لمحكمة الجنايات الدولية، القاضي لويس مورينو أوكامبو، الذي سبق لي أن سجّلته في هذه الصفحات، واختصاره أنني لا أحمل أيّ مقدار من التعاطف مع حاكم فرد أوحد عسكري إنقلابي مثل الفريق البشير، بل يثلج صدري أن تُسجّل سابقة كهذه ضدّ حاكم على رأس عمله، من طينة حكّام بلادنا، غاصبي السلطة المستبدّين. ما كان سيثلج الصدر أكثر، في المقابل، ويُسقط عن الممارسة بأسرها صفات النفاق والإنتقائية والكيل بعشرات المكاييل المتباينة، هو أن تُسجّل السابقة الأولى ضدّ كبار مجرمي الحرب قبل صغارهم، في الأنظمة الديمقراطية والمتقدّمة قبل تلك الشمولية أو النامية أو الفقيرة. ثمة، في طليعة عتاة مجرمي الحرب الكبار، الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في غزو العراق وأفغانستان (1.2مليون ضحية، فضلاً عن حقيقة أنّ النزاع في دارفور داخلي، وليس غزواً عسكرياً على غرار ما فعل بوش)؛ ورئيس الوزراء السابق توني بلير في الملفات ذاتها، خاصة جنوب العراق، والبصرة؛ ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون (في فلسطين، كما في لبنان)، واللاحق إيهود أولمرت، والأسبق منهما إيهود باراك وبنيامين نتنياهو وإسحق شامير ومناحيم بيغن… وبالطبع، ما يضيف إلى النفاق غطرسة وعنجهية واستهتاراً أنّ الولايات المتحدة رفضت الإنضمام إلى المحكمة عند تأسيسها، في روما سنة 2002، وما تزال ترفض خضوع أيّ مواطن أمريكي لقوانينها.
ذلك يضع إيمان الترابي بـ ‘العدالة الدولية’ موضع مساءلة فورية، بالنظر إلى لائحة مواقفه السابقة من قرارات ما يُسمّى ‘المجتمع الدولي’ حول السودان، لكي لا يتحدّث المرء عن كامل فلسفة الترابي في صدد المعادلات ما بعد الكولونيالية بين المستعمِر والمستعمَر، والشرق والغرب إجمالاً. وهذا يستوجب استذكار حقيقتين أساسيتين، تقفزان سريعاً إلى صدارة أيّ نقاش حول التاريخ المشترك الذي جمع البشير بالترابي. الحقيقة الأولى تقول إنّ الشيخ كان حليف، ومهندس الكثير من سياسات، نظام البشير، منذ أن نفّذ الأخير انقلابه سنة 1989؛ وأمّا الحقيقة الثانية فهي تلك التي تؤكد موقع الترابي المتميّز، ليس في المشهد السياسي السوداني وحده، بل في قلب الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة، في مشرق العالم العربي ومغربه، فضلاً عن جغرافيات واسعة متشعبة، في آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وذات يوم قيل إنّ الدول العربية تنزلق، مرغمة كما تجب الإشارة، في ‘حمأة الأصولية’، والتعبير لم يكن استشراقياً فحسب، بل بدأ نحته محلياً؛ أمّا السودان فهو الدولة الوحيدة التي اختارت، طواعية، أن يكون الإسلام هو نظام الحكم فيها. تتمة هذه الحقيقة أنّ رجال الحكم في السودان، وبعد أن أوضحوا خيارهم ذاك، أعلنوا أنهم لا ينوون التراجع عنه، وكانوا لا يتركون هامشاً للشكّ في أنهم سيحاولون ترسيخ نظام إسلامي مهما كانت العراقيل والعواقب… بما في ذلك الحرب الأهلية. الأمور، بسبب من هذا على الأرجح، لم تتخذ مجراها المختلف علي الصعيد العقائدي فحسب، بل اتخذت أيضاً صفة المأساة المفتوحة على الصعيد الوطني والإنساني.
ذلك لأنّ السودان دولة ـ أمّة، وسكّانه (قرابة 39 مليون نسمة) يتكلمون أكثر من مائة لغة ويتوزعون في عشرات المجموعات الإثنية، وينشطرون وفقاً لخطوط ولاء قبلية وجغرافية ليس أقلّها انقسام الشمال بثقافته العربية، والجنوب بثقافته الأفريقية أو الوثنية. وثمة مفتاح حاسم لفهم التاريخ السوداني، هو أنّ الفتح الإسلامي عرّب مصر بعد أقل من عقد على وفاة الرسول العربي، ولكنه توقّف عند حدود السودان ويمّمت الجيوش شطر الغرب لنشر الإسلام في شمال أفريقيا وإسبانيا.
وسينتظر السودان (المسيحي إجمالاً) ألف عام أخرى على تخوم الإسلام قبل أن يصل العرب، لا على هيئة مجاهدين في سبيل إعلاء كلمة الله، بل كرجال دين وتجّار ذهب وعاج ورقيق، قدموا من مصر وبغداد وجزيرة العرب وشمال افريقيا، واستخدموا القرآن واللغة العربية والطرق الصوفية لتقويض النظام القبلي الناجز وتفكيك العقائد المسيحية والوثنية. وفي عام 1885 وضعت انتفاضة المهدي خاتمة دامية للوجود المصري على أرض السودان، لا لشيء إلاّ لتمهّد الأرض للوجود الإستعماري البريطاني.
هؤلاء هم ‘عرب الحدود’، التعبير الذي اعتاد استخدامه الترابي لوصف عواقب الفاصل الزمني الطويل الذي جعل ولادة الهوية العربية في السودان قيصرية، بالمعاني السيكولوجية والسياسية والجغرافية، وسهّل لجوء الإدارة الإستعمارية البريطانية إلى سياسة الباب المغلق، المعاكسة تماماً للسياسة التي اعتمدها الروّاد العرب. وفي معجم مفردات التاج الإمبراطوري كان إغلاق الباب على عرب الشمال المسلمين يعني فتحه على مصراعيه أمام قبائل الجنوب عبر تقسيمه إلى ثلاثة أقاليم، وتأسيس وضع خاص بها، وإسناد الخدمات التربوية والاجتماعية إلى البعثات التبشيرية، وتكليف زعماء القبائل بالشؤون الإدارية المحلية، وإحياء اللغات الإثنية والثقافة القبلية على حساب الإسلام واللغة العربية. ولكنّ سياسة الباب المغلق كانت، أيضاً، نافذة تفتحها الضرورات الموضوعية على أيّ ريح، كأنْ تتفاوض بريطانيا مع الشمال وحده عند تحلّل الإمبراطورية وانسحاب بريطانيا من المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وحين أحرز السودان استقلاله عام 1956، كان الجنوب يسترجع، لتوّه، ذاكرة الرقّ وإرث الطريقتين الصوفيتين ـ السياسيتين (الأنصار والختمية)، ويستعد للأسوأ، عن حقّ أو عن باطل.
ومن المفارقات ذات الدلالة أنّ ‘الإستبداد العلماني’، كما يصف الكاتب الأمريكي ملتون فيورست أسلوب حكم جعفر النميري بعد إنقلاب 1969، حظي بدعم مبدئي من الشيوعيين، وبمعارضة من الشيخ الترابي الذي بقي رهن الإعتقال طيلة سبع سنوات. ثم انقلبت الأقدار سريعاً، فأعدم النميري عشرات القادة الشيوعيين قبل أن يهتدي إلى فضائل الشريعة وتطبيق الحدود في قوانين أيلول (سبتمبر) 1983، ولا يكتفي بالإفراج عن الترابي بل ويعيّنه وزيراً للعدل! المفارقة الأخرى أنّ اكتشاف النفط كان الكاشف الحاسم لاختبار سلسلة القوانين الإستبدادية (غير العلمانية هذه المرة!)، وطرح ورقة الإنفصال بعنف حصد أكثر من مليون ضحية، في أقلّ التقديرات تشاؤماً. وفيورست يوافق الشماليين على أنّ صراع الشمال والجنوب ليس حرباً بين الإسلام والمسيحية، بل هو ‘ارتطام ثقافتين لا تتصالحان بسهولة، شاءت الأقدار أن تضعهما تحت علم واحد’.
والحقّ أنّ المهندس الحقيقي وراء هذا الطور من نقل عرب الحدود إلى عرب الإسلام، أو الحكم الإسلامي، أو الشريعة في تطبيقها الدنيوي المعتدل، أو ما يشاء المرء من تسميات تدخل في النطاق الدلالي ذاته، كان الشيخ حسن الترابي نفسه، ولن يكون الأمر مفاجئاً إلاّ عند السذّج أو هواة الغرق في السذاجة. وكاتب هذه السطور يختلف مع تسعة أعشار آراء الترابي في الدين والدنيا، سواء كان الشيخ في واحدة من الإشراقات المعدّة للإستهلاك الداخلي، أو تلك الخاصة بالتصدير إلى الخارج كما تقول النكتة الشعبية السودانية. ولكنّ الترابي، شاء المرء أم أبى، يظلّ المنظّر الأبرز لحركة الإحياء الاسلامي، والقدوة الحسنة لجيل (أوّل وثانٍ ربما) انخرط في تسييس معقّد تنظيمي وفكري للصحوة ولعقائدها. صحيح أنه ليس حسن البنّا ولا آية الله الخميني، ويصعب أن يعيد إنتاج شخصية أبو الأعلى المودودي، ولكنه مولع تماماً بما يشابه الهوس البلشفي بالتنظيم والتعبئة. ذلك، والكثير سواه، يحتّم استبعاد النظرة الأحادية إلى شخصية الترابي على الضفتين: التقيّ النقيّ (كما يردّد الحالمون من أتباعه)، أو المنافق ومنظّر الإرهاب (كما يردد العصابيون من خصومه).
‘ما الذي يمكن أن يعنيه الحكم الإسلامي’؟ يسأل الترابي. ‘النموذج بالغ الوضوح، أما أفق الحكم فهو محدود، والقانون ليس توكيلاً للرقابة الإجتماعية لأنّ المعايير الأخلاقية والضمير الفردي شديدة الأهمية، وهي مستقلة بذاتها. لن نلجأ إلى ضبط المواقف الفكرية من الإسلام، أو قنونتها، ونحن نثمّن ونضمن حرية البشر والحرية الدينية ليس لغير المسلمين فحسب، بل للمسلمين أنفسهم حين يحملون قناعات مختلفة. إنني شخصياً أعتنق آراء تسير على النقيض تماماً من المدارس السلفية في التشريع حول مسائل مثل وضع المرأة، وشهادة غير المسلم في المحاكم، وحكم الكافر. البعض يردد أنني متأثر بالغرب إلى حدّ اقتراف الكفر. ولكني لا أقبل الحكم على سلمان رشدي بالموت، ولو استفاق مسلم ذات صباح وقال إنه كفّ عن الإيمان، فهذا شأنه وحده’.
ويمضي الشيخ في شرح تفسيره لعلاقة الدين بالدنيا فيقول: ‘الحكم الإسلامي ليس شاملاً لأن الإسلام وحده هو الرؤية الشاملة للحياة، وإذا اختُزل في الحكم وحده فإن الحكومة ستكون عاجزة مشلولة، وهذا ليس من الإسلام في شيء. الحكم لا مصلحة له في التدخل في عبادة الفرد أو صلاته أو صيامه إلا في ما يتصّل بالتحدّي العلني للصيام. نحن لا نخلط بين ما هو أخلاقي وما هو شرعي. الرسول نفسه أغلظ في القول ضدّ الممتنعين عن الصلاة، ولكنه لم يتخذ أي إجراء بحقهم. وتوجد فروض اجتماعية حول كيفية اختيار الرجال والنساء للباسهم، ولكن المسألة ليست جزءاً من القانون’. ولا يكتمل المعمار التنظيري للشيخ الترابي دون التوقف عند الإسلام الراهن، في العالم الراهن: ‘قد تكون النزعة القومية هي البديل عن الإسلام في بلدان أخرى. لكن الإسلام هو النزعة القومية الوحيدة المتوفرة أمامنا إذا شئنا تأكيد قيمنا الوطنية الأصلية، وأصالتنا، واستقلالنا عن الغرب. الإسلام هو حداثتنا الوحيدة. إنه العقيدة الوحيدة التي يمكن أن تقوم مقام العقيدة الوطنية في أيامنا هذه’.
بذلك فإنّ إعلانه الإستمرار في معارضة البشير أمر محمود، بالنظر إلى أنه يسير على النهج ذاته الذي اعتمده بعد الإفراج عنه في خريف 2003، ولعلّه صار خياراً أكثر ضرورة، وأعلى قيمة، بالنظر إلى تعقيدات الموقف الإنساني في إقليم دارفور، وانقلاب الكثير من معطياته إلى بورصة مساومة واتّجار في الأروقة الدولية. هذا، في الإستطراد، لا يصنع مسوّغاً كافياً لكي تنأى معارضة الترابي عن أجنداتها السودانية الداخلية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكي تتكئ على هذا الإكتشاف الجديد، بالنسبة إليه على الأقلّ: ‘العدالة الدولية’.

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى