صفحات العالمقضية فلسطين

عباس يتنحى والحقيقة أصعب من أن تُقال

حسام عيتاني
لا يريـــد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبـــــاس تقديم ترشيحه الى الانتخابات المقبلة. والأهـــم، في الزمن العربي الحالي، انه لم يعد له وريث من صلبه ومن أهله الأقربين. يرغب الرجل في الانكفاء بعدما تبخرت آمال علقت على الإدارة الأميركية الديموقراطية، ليتبين قبل أن يختفي صدى خطاب جامعة القاهرة، أن الولايات المتحدة لا تستطيع إقناع إسرائيل بالتراجع عن خطط توسيع الاستيطان وتكثيفه ناهيك عن دفع مفاوضات الوضع النهائي.

لم يعـــد من مفر، إذاً، أمـــام عباس من التنحــــي بعــــد استجابة جزئيـــة لطلب رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير، صائب عريقات إبلاغ الشعب الفلسطيني بالحقيقة، وخلاصتها أن مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة بات شبــــه مستحيـــل وأن الأقـــرب الى الصواب هو العـــدول عنه والسعي الى دولة ثنائية القومية، يهودية عربية. وغالباً ما تكـــون الحقيقة كريهة أو جارحة، لكن لا بد من التعرف إليها والتحديق فيها إذا أراد الناس متابعة حياتهم. عليه، فلا بد أن عريقات يعلم، كما يعلم عباس وكثر غيرهما، أن الدولة الثنائية القومية تجد في نفوس الإسرائيليين هوى أقل مما يجده قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومعلوم أن الدولة التي تضمن لمواطنيها العرب (من المسلمين والمسيحيين) واليهود حقوقاً كاملة ومتساوية، ورقة طرحت من قبل فصائل عدة في مراحل مختلفة من تاريخ القضية الفلسطينية. والشرط الشارط لتنهض دولة ثنائية القومية، هو تبنيها العلمانية والديموقراطية –الليبرالية بحذافيرهما (على النمط الأوروبي القاري وليس الانغلوساكسوني) أو التوافق على تقاسم قومي – طائفي للمناصب والسلطات اقتداء بالنهجين اللبناني والعراقي.
والنماذج هذه هي الأقرب الى المتناول النظري بيد انها تقع في خانة المحال الواقعي والعملي. فما من عنصر واحد من العناصر التي تدخل في تشكيل موازين القوى بين طرفين يخوضان صراعاً من صنف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، يمكن ذكره كعنصر يسند الموقف الفلسطيني. لا من الناحية السياسية والعسكرية، عند اقتصار الكلام عن تحالفات خارجية أو توافقات داخلية وقوى اجتماعية ترفد أياً من المشروعين بالدعم والتأييد، ولا عند انتقال الحديث الى مسائل الاقتصاد والتعليم، بالطبع، وصولاً الى القدرة على إنتاج تناغم ثقافي وطني، حيث يقترب الإسرائيليون من إنتاج روايتهم التاريخية لنشوء دولتهم والنظر الى مستقبلهم، بقدر ابتعاد الفلسطينيين عن صوغ فكرة الوطن والاستقلال والتحرر من الاحتلال.
لكن الحقيقة، أيضاً، متعددة الأوجه، ما يفترض القول إن امتناع محمود عباس عن ترشيح نفسه لولايــــة رئاسية ثانيــــة، ينبئ – في معنى ما- بنهاية حقبــــة قد يصح وصفها بالحقبة السلمية الفلسطينية، أي تلك الأعوام التي ازدهرت فيها الفكرة القائلة بإمكان التوصل الى تسوية تاريخية مع إسرائيل تتيح استعادة الشعب الفلسطيني لحد أدنى من تواصله الاجتماعي في ظل كيان سياسي قابل للحياة، استناداً الى تأييد عربي ودولي متينين، وذلك بعد نبذ الأشكال القصوى واليائسة من العنف (على غرار تلك التي ظهرت في أوائل السبعينات بعد أحداث الأردن أو التي «طوّرها» الإسلاميون) أو بالأحرى محاولة توظيف العنف ضمن إطار سياسي «عقلاني». وجرياً على عادة تحقيب التاريخ وقسمته الى أطوار ذات سمات وصفات مميزة، يجوز القول إن أفول الحقبة تلك التي بدأت في مؤتمر مدريد ووصلت الى ذروتها مع إنشاء السلطة الوطنية في الضفة وغزة عام 1994، لا يعني، حكماً، بزوغ فجر حقبة أفضل.
ننحــــي جانباً حديــــث الشماتة الذي اعتبر أن قــــرار عباس «محاولة للتقرب الى أصدقائه الإسرائيليين والأميركيين» وحديث اليُتم الذي يذهب الى مطالبة الرجل بتحمل أكثر من طاقته على الاحتمال، مجاملة أو هرباً من المسؤولية أو حتى التزاماً بالعادة العربية (الشمولية الأصول) التي لا تستسيغ خروج الحاكم من مقره سوى الى القبر أو المنفى. ننحى إذاً هذين الموقفين في محاولة للتمعن في البدائل التي يمكن أن يخرجها المشهد الفلسطيني اليوم.
مـع الأخــذ في الحسبان إمكان تراجــع عبــاس عــن قـراره برغـــم وصفه له بـ «النهائي» نزولاً عند مطالب أو ضغوط بدأت تتكون فور إعلانه رغبته عدم ترشيح نفسه لولاية ثانية، يمكن القول إن أسماء المرشحين لشغل منصب رئيس السلطة تعكس الاستقطاب المتفاقم على الساحة الفلسطينية. قد تفسر الأسماء الثلاثة الأولى التي تَرِد الى الذهن أولاً، سبب تمسك أعضاء اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير ببقاء عباس في منصبه. السمة المشتركة بين أصحاب الأسماء تلك انهم إما غير قادرين على القيام بمهمات رئيس السلطة أو انهم يثيرون حولهم قدراً من الانقسام والخلاف، من غير الممكن تداركه في ظروف كهذه التي تعيشها القضية الفلسطينية اليوم.
ولئـــن كان تراجــــع إدارة باراك أوباما عــــن مواقفها من المستوطنات، وهي المواقف التي أوحت للسلطة باشتراط تجميد البناء تجميداً كاملاً قبل العودة الى مائدة المفاوضات، هو السبب المباشر وراء قرار عباس ترك رئاسة السلطة بعد الانتخابات المقررة في كانون الثاني (يناير) المقبل، فإن في التراجع المذكور ما يشي بما هو أعمق من كونه فشلاً أميركياً آخر في الالتزام بتعهدات قُطعت للفلسطينيين. بل من المباح الاعتقاد أن الإخفاق الأميركي الذي بدأ بالظهور بعد أيام قليلة من كلمة أوباما في القاهرة، عبر طرح «صفقة» التطبيع العربي مع إسرائيل في مقابل وقف الاستيطان والذي انقلب تفهماً وتأييداً لوجهة النظر الإسرائيلية من مسألة البناء في المستوطنات، على ما عبرت الوزيرة هيلاري كلينتون عقب لقائها بنيامين نتانياهو، هو في واقع الأمر تكثيف لخسارة القضية الفلسطينية أي سند دولي يمكن الاعتماد عليه في عملية سياسية من النوع الذي انخرطت فيه منظمة التحرير منذ حوالى العقدين.

وإذا صح التشخيص هذا، وهو صحيح على الأرجح، يكون الفلسطينيون كالتائه في صحراء لا دليل لهم فيها سوى من يدفعهم الى الانتحار.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى