صفحات ثقافية

المثقف والمجتمع والسلطة

null
فخري صالح
يتمثل جزء أساس من معضلة علاقة المجتمع بالسلطة في العالم العربي بطبيعة الأدوار التي يلعبها المثقف العربي في علاقته بالسلطة من جهة، وعلاقته بالمجتمع المدني، أو بالجماهير، من جهة أخرى. فعلى الرغم من ضعف المجتمع المدني في بلادنا بعامة، وغلبة الهويات الفرعية، من طائفية ومناطقية وعشائرية وغيرها من الهويات ذات الطابع البدائي، إلا أن ضعف دور المثقفين، وحتى ما يسمى «عمال المعرفة» في مفاهيم ما بعد الحداثة، وكذلك ضعف صلاتهم بالمجتمع المدني ومؤسساته المختلفة، يجعل من أدوار المثقفين التحريرية، التي تدفع إلى تقدم المجتمعات وتحضرها، شبه غائبة. هكذا يغيب الدور التنويري، التحريري، للمثقف الذي يشخِّص للمجتمع والسلطة الطرق البديلة، خصوصاً في مراحل الأزمات وافتقاد الطريق.
إن عدم تشكل قاعدة اجتماعية للمثقفين يعرضهم للاستتباع والترهيب والترغيب من قبل سلطات عربية لا تؤمن بالديموقراطية وتداول السلطة، ولا تسعى كذلك لحماية حرية الرأي والتعبير.
ولو أننا نظرنا إلى علاقة المثقف بالسلطة، على مدار الخمسين سنة الماضية، التي هي عمر معظم الاستقلالات العربية، فسنجد أن هذه العلاقة قد اتخذت طابعاً مشوهاً؛ فإما أن يكون المثقف مقيماً في المعارضة، محارَباً ومنبوذاً أو مسجوناً، أو أن يكون جزءاً من آلة السلطة، ترساً صغيراً في ماكينتها الجهنمية. لا مكان هناك للمثقف الحر الذي يقول لا للسلطة، سواء كانت في الحكم أو المعارضة. لا مكان، في تاريخ العرب المعاصر، للمثقف الضمير الذي يبصر السلطة والمعارضة بأخطائهما، وما جرتاه على المجتمعات العربية من كوارث، خصوصاً أن السلطة قد تصير معارضة بعد أن تركب المعارضة الدبابات لتستولي على السلطة.
ومع ما في التعميم السابق من إمكانات خطأ، فإن ثمة نهجاً عاماً يمكن العثور عليه في علاقة المثقف بالسلطة. ونحن إذا حاولنا تأمل علاقة المثقف العربي المعاصر بالحرية سنجد أن ثمة أنواعاً من المثقفين، لا نوعاً واحداً، وهؤلاء يتفاوتون حسب تصوراتهم لأدوارهم كمثقفين وطبيعة اقترابهم أو بعدهم عن السلطة، أو حتى علاقتهم بالفئات المعارضة للسلطة الحاكمة في بلدانهم. لكن مشكلة المثقف العربي المعاصر أنه سعى لكي يكون جزءاً من السلطة خلال القرن الماضي، وأصبح بالفعل جزءاً منها أو ترساً في آلتها في بعض الأحيان، مما أثَّر على وظيفته كمثقف ناقد له رسالته التي يسعى إلى تحقيقها في الحياة العربية المعاصرة. هناك مثقفون كانوا راغبين فعلاً بالقيام بهذا الدور النقدي إلا أن ضغط الحياة اليومية، وتوحش أداة قمع السلطة في بعض البلدان العربية، وتطور آليات الاستتباع واشتغال لعبة الترغيب والترهيب، وقصر نفس المثقف العربي، قد أثمرت فشلاً ذريعاً للمهمة الرسالية التي نذر لها المثقف نفسه على صعيد الخطاب والنظرية. لكن الواقع جرف هؤلاء وجعلهم يتحولون إلى مثقفين تقنويين في خدمة السلطة، أو حتى في خدمة الفئات المعارضة، التي تدفع لهم أجرهم وتصطفيهم بصورة أو أخرى.
لقد ذهب الحلم النهضوي بمثقف قادر على مراقبة السلطة والتقليص من دورها على حساب المجتمع والمؤسسات المدنية، ودخلت النخب الثقافية الديموقراطية والليبرالية حالة سبات، لا أدري متى تفيق منها، فيما نشطت النخب الدينية، أو المثقفون التوفيقيون الذين يقدمون تنازلات واضحة للفكر السلفي الذي يمارس تأثيراً شديد القوة على الشارع.
وحتى لا نلوم المثقف العربي، الطامح إلى صعود مؤسسات المجتمع المدني وتبلور التجارب الديموقراطية في العالم العربي، علينا أن نذكر أن السلطات العربية الحاكمة لم تهمش دور المثقف فقط بل حاولت إلحاقه واستتباعه وتمييع مواقفه، وسحقته في بعض الأحيان، وحولته إلى هلام، إن لم تحوله إلى بوق وببغاء يمتدح سياساتها الكارثية على صعيد السياسة والاقتصاد والمجتمع.
لا شك أن هذه المؤسسات الحاكمة خسرت المثقف بعد أن حولته إلى شخص تابع مدّاح، أو مثقف هامشي يناصبها العداء. وها هو العالم العربي يجني ثمن أخطاء السياسيين الذين أبعدوا المثقف ومنعوه من ممارسة دوره الفاعل في التشكيلات السياسية – الاجتماعية في المجتمعات العربية.
هكذا، وفي غياب مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة وتصاعد الأيديولوجية السلفية التي يعتقد معتنقوها أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، سوف يكون دور المثقف شديد الضآلة والهامشية، بل إن هذا الدور مرشح للتآكل أكثر فأكثر في ظل اشتداد الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي. نعم سيظل هناك مثقفون يتمتعون بالصدقية والجرأة على قول الحقيقة لكن أصواتهم، في ظل هيمنة الإعلام والإعلام المضاد، ستظل ضعيفة ولن تستطيع الوصول إلى آذان الناس وسط الصخب والضجيج الذي يتعالى حولها ويكاد يمحوها.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى