صفحات أخرى

لا يستقيم وعينا الديموقراطي من دون تفكير ذاك «الاستثناء»

صالح بشير
* نُشر هذا المقال في الجريدة، بتاريخ 21/8/2005
قد يخطئ علمانيو العرب وديموقراطيوهم وتحديثيوهم، سواء أُطلقت عليهم تلك الصفات عن وجه حق، أو على سبيل التجاوز السخيّ أو زعَمها بعضهم لنفسه إدعاءً، إذ يعتبرون أن ما يعيق دعواتهم ويقف في وجهها عقبةً كأداء إنما هو حصرا بُنى مجتمعاتهم وتكلس سلطاتها وتعسفها والتيارات الدينية، تقليدية كانت، تستنكف عن أي تغيير، أم ثورية نكوصية (على ما بين النعتين من تنافر ظاهري)، تعبر عنها وتنهض بها المجموعات النضالية والجهادية.
القول بذلك لا يجانب الصواب طبعا، ولا ينكره أحد، وقد يأخذ به أو ببعضه حتى من لم يكن ديموقراطيا أو علمانيا أو تحديثيا. لكن المأخذ عليه، وعلى الاقتصار عليه، أنه تعميمي لا تخصيصي، وأنه مقلد لا مجدد، يكتفي بتكرار وباستحضار إرث التنوير الأوروبي ومقولاته الكلاسيكية، في صيغة لها إيديولوجية رثّة في الغالب، ودون الإحاطة بخلفياتها الفلسفية والتاريخية، ودون القدرة على ذلك، من قبل نُخبٍ لدينا تستعجل التنظير والتصدي لإنتاج الفكر والظفر بلقب المفكر (وهذا أمر هيّن في بلدان العُرب)، دون أن تستوفي عدّة وشروط الاضطلاع بمثل تلك المهمّة.
ونتاج ذلك، أو بعض نتاجه، أقله في هذا المجال وبصرف النظر عن التيارات والمشارب الأخرى (وهي ليست أفضل حالا)، وضع الفكر والثقافة السياسيين في ربوعنا، وذهولهما المقيم عن خصوصيات كثيرة، يطول الخوض فيها ولا تتسع لها هذه العجالة، بحيث لا يمكننا إلا الاكفتاء بإحداها، ممثلة في الظاهرة الإسرائيلية، وفي مفعولها أو دورها الداحض والناقـــض للديموقراطـــية في بلداننا كما يفهمها دعاتُها المحليون، إذ تستوي الدولة العبرية وتجــربتها تحديا، نظريا وفكريا، قصّرت نخب المنطقة، تلك التحديثية منها الناشدة التقدم على وجه التخصيص، في إدراكه والتصدي له.
نحن، بطبيعة الحال، لا نرمي من هذا الكلام إلى استعادة وتسويغ تلك الحجة البائسة التي كثيرا ما لاكها ويلوكها المستبدون العرب، من أهل السلطة أو من أهل الإيديولوجيا، من أن قيام الدولة العبرية ووجودها، هو الذي حال دون استتباب الديموقراطية في بلداننا وأجهضه. وهو أمر، إن سلمنا جدلا بصحته، لا يرى المرء كيف ينطبق على كيانات تقع في الأطراف، نائية عن ساحة المعركة. هذا ناهيك عن أن إسرائيل ذاتها هي من يقدم الدحض الأبلغ لهذه الحجة، وهي التي أفلحت في الحفاظ على ديموقراطية نظامها، رغم الحروب والعداء الذي حاصرها، وشكل تهديدا لوجودها، أو هكذا خُيّل لها في بعض الأطوار، دون أن يفكر جنرالاتها في الانقضاض على السلطة بذريعة إنقاذ الوطن. كما أننا لن نسعى حتى إلى محاكمة الأنموذج الإسرائيلي باسم القيم الديموقراطية التي يدعيها ويخلّ بها إذ يرتضي اضطهاد الغير، على اعتبار أن ذلك، إضافة إلى ممارسات الغرب عموما، إبان الفترة الاستعمارية وبعدها، كان له بالغ الأثر في تشويه الفكرة الديموقراطية في بلدان المنطقة ولدى أبنائها. وربما أظهر تلك الفكرة على أنها ليست أكثر من بناء إيديولوجي مثل سواه، يخفي خلف برّاق شعاراته واقعا من الإجحاف.
بل ما نعنيه يتجاوز ذلك ويتعداه إلى القول بأن الظاهرة الإسرائيلية تمثل تحديا مبرما ناقضا للأقانيم التي يحسبها ديموقراطيونا وتحديثيونا وعلمانيونا الشرط الضروري لكل نصاب ديموقراطي، بحيث ينتفي مثل ذلك النصاب بانتفائها. والحال أن الدولة العبرية ديموقراطية، وإنْ لمواطنيها من اليهود على نحو حصري أو يكاد، بالضد من ذلك الشرط الضروري المُفترض.
فهي تأسست، ككيان وليس فقط كنظام حكم، على إرادة إيديولوجية، تتوخى، مثلها في ذلك مثل كل إرادة إيديولوجية، النبذ والإقصاء (حتى حيال اليهود غير الصهاينة) وتطويع التاريخ بالعنف، وقسر الشروط التاريخية لبلوغ هدف محدد سلفا وما كان يمكن لتلك الشروط التاريخية، بمفردها ووفق ديناميكيتها الخاصة، أن تفضي إليه، ما قد يجعل الصهيونية، فكريا، في عداد الإيديولوجيات التوتاليتارية التي شهدتها أوروبا النصف الأول من القرن العشرين. لكنها أفضت، من حيث نظام الحكم، ووفق التحديدات التي سبقت الإشارة إليها، إلى نتيجة مناقضة.
كما أن للظاهرة الإسرائيلية ملمحا آخر، يُفترض أنه ينافي الأسس التي تقوم عليها الكيانات الديموقراطية والحديثة، هو تأسسها على خرافة تاريخية، وإعادة أحيائها بالضد من كل بديهية موضوعية، هي العودة إلى أرض كان يقيم فيها اليهود منذ آلاف السنين، وانتحال ذلك على أنه مصدر شرعية تاريخية من ناحية، ومن ناحية أخرى قيام الكيان على الانتماء الديني لا على الانتماء المدني، وتأسيس المواطنة عليه، بجعل الانتماء المدني، الذي تُفترض فيه النسبية والرابطة القانونية، مشروطا بالانتماء الديني، المطلق والمتسامي على كل قانون بشري، ليس فقط في علاقة الدولة بمواطنيها، بل أيضا في علاقاتها بمحيطها، ما دامت الخرائط الوحيدة التي تعترف بها إسرائيل، هي تلك الواردة في الكتاب المقدس.
وهكذا، تستـــوي الظاـــهرة الإسرائيليــــة تسفيهـــاً ماثلا متفعِّلا في التاريخ، لكل ما يسوقه ديموقراطيونا عادةًَ شروطا لا بد من تحقيقها من أجل التحرر والتقدم وبلوغ الديموقراطية. ولعل ذلك ما يفسر تلك المفارقة التي مفادها أن الظاهرة الإسرائيلية ربما كانت أفعل في إلهام الحركات الإسلامية من سواها، تلك التي رأت فيها نموذجا على ما يمكن أن تحققه أمة مؤمنيـــن (فـــي المقام الأول، وأمة مواطنين عرضا). كما أن اعتبـــار فلسطيـــن أرض وقف إسلامي لا يجوز التفاوض عليها قد لا يكون أكثر من صدى لما يذهب إليه الصهاينة من أن الأرض تلك وعد إلهي لليهود. وإذا صح هذا الافتراض، فقد يكون من أوجه جدلية النزاع العربي-الإسرائيلي التي لا يجري التنبه لها عادة.
كل ذلك للقول إن فكرا ديموقراطيا كسولا، كذلك المعمول به لدى نخبنا، لن يبلغ مراميه، إن هو لم يواجه ذلك الاستثناء الإسرائيلي، إدراكا وتجاوزا، على ما حاولنا تبيانه في هذه العجالة، التي تطرح (بعض) أسئلة أكثر مما تجزم بأجوبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى