صفحات العالمما يحدث في لبنان

هـويتـي

ابراهيم شرارة
ضاعت هويتي. فقدتها في مكان ما. لم أشعر بداية بخطورة هذا الأمر. ظننته مجرد حادث عابر، لن يترك أي أثر في مجرى حياتي. كأن أفقد مثلاً علبة سجائر، أو رقم هاتف قديم. وفي أسوأ الأحوال، لن يكون لهذا الفقدان أثر ملموس يتعدى إجراءات استخراج إخراج قيد فردي يفي بمعاملات الدوائر الرسمية، أو الحسابات المصرفية، المدينة طبعاً. هكذا ظننت.
لكن لا. هويتي الضائعة تحولت إلى مشكلة حقيقة. وجدت نفسي، فجأة، ضائعةً. أنا هنا، لكنها ضائعة ومشتتة. ثم بدأت أشعر بأجسام غريبة تصطدم بي في كل مرّة. أحاول العبور باتجاه ما، فلا أنجح. وفي كل مكان، يمشي رجال واثقون، كل باتجاه واضح، لكنهم لا يرونني.
تنبهت لاحقاً إلى أنني اجلس قبالة شاشة التلفزيون، وأن هذا الإحساس بالاصطدام، نابع من إعلان تعرضه بعض القنوات اللبنانية مؤخراً. لا أذكر تفاصيل الإعلان جيداً. لكن ما حفظته منه ترك في نفسي أثراً فائق الخطورة، يفوق الكدمات الناجمة عن تلك الصدمات الوهمية. يقول الإعلان لي، إنني إن لم امتلك هويتي، فلن يروني. يُقصد من الذين لن يروني، السياسيون ربما. يقول الإعلان أيضا إنني سأختفي. سأكون سراباً، وسيصطدم بي أولئك المارّون بخطوات واثقة. هؤلاء هم أصحاب الهويات.
هويتي إذا هي أنا، فإن امتلكتها في المهلة المحددة، وجدت نفسي. وإن وجدتها، وجدني المرشحون للانتخابات، صوتاً جاهزاً مستعداً أبداً. هذا ما فهمته من الإعلان الذي يدعو المواطنين إلى استصدار بطاقات هوية جديدة، في الفترة المحددة لذلك، تكفل لهم إمكانية المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة.
يخيفني الإعلان. أرى فيه تهديداً لوجودي في هذا البلد، بصراحة. تهديد وجوديّ، يعني. أساساً، أنا غير مرئي في هذه اللحظة. فأنا لست ممن يملكون «هوية» واضحة المرجعية والانتماء. والسياسيون الذين يتنافسون على هوية البلد لا يهتمون بي. يهتمون فقط بأصحاب الهويات الواثقة. يحصونهم كل لحظة. يدافعون عنهم، ويحمونهم في وجه أصحاب الهويات الواثقة الأخرى.
إعلان آخر يطلب مني الاستعداد للانتخابات بنبرة حاسمة: استعد، استعد.. وتجيب أصوات مجهولة: أنا جاهز. أسمع الإعلان عبر الراديو وأخاف أكثر. أخاف وأفكر مرة بعد مرة. أفكر بالآخرين، أصحاب الأصوات تلك: يقولون إنهم جاهزون. هم لديهم هوياتهم حتماً، ومستعدون أيضاً. وبالتالي لديهم من يحميهم بالطبع. وأنا؟ تحيط الأسئلة بي، بينما استمع إلى الإعلان.
استمع، وأردد: استعد، استعد، استعد..
مهلاً، وجدتها. صارت الصورة واضحة الآن. تصوّر، بعد كل سنوات الحرب والضياع والتفكير والتحليل، وجدت الحل. هويتي تحميني. هكذا ببساطة. رغماً عن فئة أصحاب الهويات الضائعة أو المفقودة أو الضالّة.
هويتي تحميني. سوف أذهب إذاً إلى المختار. سوف أبصم بالعشرة، لأحصل على هويتي الجديدة (البدل عن ضائعة). وسأحلف اليمين على أن أحافظ عليها أبداً.
وفي اليوم الموعود، في السابع من حزيران مبدئياً، سوف أذهب، باكراً جداً، إلى الصندوق. سألعن تخلّفي عن الانتماء لهويتي، في السنوات السابقة. سألوم نفسي فقط، وسأطلب السماح من أصحاب المناصب والمراتب والطوائف والمذاهب، وتعبيراً عن صدق نواياي، سأدوّن اسم هويتي الجديدة، وأسقطها في الصندوق.
أو، سوف أطفئ شاشة التلفزيون. وأظل أبحث عن هويتي.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى