ثورة ليبيا

«القذافية» وقد غدت ركاماً

بشير هلال
بمواصلته في كل من «ظهوراته» الإعلامية إنكار حصول تظاهرات وانتفاضات ضد نظامه والادعاء أن الشعب «مستعد للموت من أجله» يحاول العقيد القذافي بين أشياء أخرى مصادرة شعور الليبيين باسترداد كرامتهم ونفي تطهرهم من نظامه. يندرج ذلك في سياق استخدام وسائل عنف سياسي سينيكي مُسلَّح بلفظية إبادوية وشاطبةً لإنسانيتهم ومُواطنيتهم (وصفهم بالجرذان والمُخَدَّرين مقابل تقديم نفسه كقائد ثوري وكمُسبِّبٍ لمجد ليبيا) وترويعية (تهديدهم بالحرب الأهلية وبالتقسيم وتوسل دعم غربي ضدهم بادعاء توليد الانتفاضة لإمارات إسلامية وراءها «القاعدة»). سياق يُضاف لآخر مبني على عنفٍ دامٍ ومفتوح عبر تحريكه ما أمكن من الوسائل العسكرية القصوى لكتائبه الخاصة ومرتزقته ضد مُنتفِضين عزَّل كما لو كانوا عدواً خارجياً.
استمرارية سياقَيْ الوحشية هذين، على رغم عقوبات مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي وتزايد الضغوط الدولية لرحيل «الابن الرهيب للقومية العربية»- وفق «لا تريبون دو جنيف» – جعلت الانتفاضة الليبية محفوفة بأخطار أشد تعقيداً من سابقتيْها التونسية والمصرية، ودفعت إلى تغليب تفسير شعبي وإعلامي لسلوكه قوامه جنون الرجل والجنوح الجرمي الناجم عنه.
مشكلة هذا التفسير المُتضمِّن قدراً من الصحة لجهة عظامية العقيد واختلاله النفسي أنه يُقدَّم كتفسير مفتاحي لأوضاع وشروط نمت ونشأت فيها القذافية، أوسع جوهرياً من حقل تحليله كفرد. وبالتالي بدل أن يكون باباً للمعرفة يغدو حائلاً دونها.
فهو يتجاهل أولاً، أثر السلطة المُطلقة التي بتنكُسِّها تتحوّل إلى جنون كما تشير دراسات حديثة في تناولها لحالات مثل نيرون وكاليغولا الذي سُحِر بالشرق وكان يريد أن يحكم روما مثل «أمير شرقي، كإلهٍ حي، يتصرَّف برعاياه كأشياء ولا يُقدِّم حساباً لأحد».
وثانياً، لعدم قدرته على تفسير معاملته حتى ما قبل أسابيع كزعيم مقبول في تواطؤ غالب ومُستمِر منذ أتاح توقفه عن تمويل عمليات ومنظمات إرهابية وتفكيكه البرنامج النووي وحل قضيتي «لوكربي» و «يوتا» واكتفائه بتمكين أُحاديته وإعداد توريثه داخلياً وبتجميع الألقاب الفانتازية التعظيمية خارجياً، اكتساب «احترام» مستجِّد في الغرب. فيما كان قبل ذلك محمياً نسبياً بنظام الحرب الباردة وقطبها السوفياتي. فلم يُصادف صعوبات جدية إلا أثناء الحصار الدولي عليه بموجب القرار 748، بعد نهاية القطب المذكور.
وثالثاً، وأبعد من ذلك كله، أنه يعيق توضيح الأواليات وماهية السياق التي أتاحت لشخص مثله أن يُصعِّد تحَكُمه (كما في «صعود أرتورو أوي» مسرحية بريخت) إلى درجة صيرورته حاكماً مُفرَداً من دون وازع في نظام أزاح ملكية دستورية خفيفة الربقة وبرلمانية مبدئياً، بادعاء «الإطاحة بالنظام الرجعي المتخلف» و «إقامة جمهورية حرة ذات سيادة، كافلة لأبنائها حق المساواة، لا سيد ولا مسود» كما أعلن بيان الانقلاب العسكري الناصري النزعة المُذاع للمفارقة من بنغازي أول مُقوِّضي ديكتاتوريته اليوم.
لا بأس في هذا السياق من تذكُر ما قاله الأستاذ الجامعي والطبيب النفسي جيرولد بوست دارِس الملامح النفسية لعددٍ من الزعماء ومؤسِّس «مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي»، عن القذافي لصحيفة «لو تان» السويسرية (21 أيار/ مايو 2010): «ليس مجنوناً بالتأكيد. ثمة ظرفان لا يعود فيهما عقلانياً تماماً: عندما ينجح فيغدو استفزازياً ومتفخِّماً، وعندما يفشل فيميل إلى خلق الأزمات»، وذلك لنرجسيته الشديدة وغروره ونزعة الغضب لديه. وينصح – وهنا الأكثر أهمية – بالتعامل معه «بحزم من دون إثارة وأن يُوَضَح له بثبات ودونما لبس أن هناك حدوداً».
بالتالي فالسؤال يصبح: كيف ومتى ومن وضع حدوداً للعقيد؟ والجواب هو بالإيجاب على المستوى الدولي والأميركي خصوصاً، وبالسلب على المستويين الداخلي والعربي. فنشأت عن ذلك في العقد الأخير معادلة قوامها انضباطه في الخارج غير العربي وتحرره من أية حدود في الداخل. فزادت سلطته إطلاقية وتدميراً لبقايا «العقدين» القبلي والاجتماعي اللذين ينسبهما بعض المحللين إلى فترة بداياته واستطاع الاحتفاظ بالحكم طويلاً باسمهما على رغم غرائبية وسذاجة تغليفهما الايديولوجي وطفلية طقوسيته.
الأول، كانت مهمته التوليف بين الامتناع التقليدي للتنظيم القبلي والنزعة الجهوية على الرضوخ لدولة مركزية- فليبيا نشأت اتحادية أولاً وبقرار دولي – وبين الحاجة إلى حدٍ من التنظيم مع نمو الصناعة النفطية وريوعها. والثاني كان يفترض أن ينظم قدراً من دولة رعائية تستخدم الريوع وتعيد توزيعها.
بأي حال فـ «العقد القبلي» صدَّعه منحى العقيد باستخدام قدرات الدولة ولجانه «الثورية» و «الشعبية» في «جماهيرية» مزعومة كأداة للتفريق بين القبائل وداخلها وتسييد قبيلته ابتغاءً لسلطة شخصية -عائلية وزبائنية قامعة ولاغية للسياسة وعاجزة عن إدارة المستويات والحساسيات و «السلطات» المختلفة من التنظيم الاجتماعي، بأفق تجاوز التقليدي منها وتحديثها.
أما «العقد» الاجتماعي فصدّعته التخبطات العشوائية الأصلية للعقيد وإنفاقه السياسي (الوحدات الفاشلة والتسلح والبرنامج النووي والنهر «العظيم» والدعاية للكتاب الأخضر وإنشاء مجموعات إسلامية موالية والتدخل في أفريقيا والعالم العربي وأبعد) ثم آثار فترة الحصار، التي تلاها بدء خصخصة الاقتصاد عبر الشبكات العائلية والعلائق المافياوية المدعومة بإنفاقٍ متعاظم على كتائب خاصة مُهَمِشَة للجيش الرسمي يقودها الأبناء والأقارب واقتضت اقتطاعات مالية ضخمة وإفقاراً مُعَمماً. وكلا الصدعين وقعا موقعاً سيئاً عند شباب زاد مدينية وعدداً ونسبة في التركيب السكاني وتعليماً واندراجاً في العولمة وطلباً على الحريات والتواصل وشبكاته وقيمه والاستهلاك والوظائف غير الهامشية التي صارت جل ما يؤمنه النظام لقسم متناقص باستمرار.
بالتالي ففقدانه كل شرعية ومعقولية هما بمعنى ما نتاج لهذين التصدُّعين المرتبطيْن بديكتاتوريته الشاملة، مُضافاً إليهما زوال تأثير توليفه البائس بين مرجعياته الناصرية والإسلاموية والإشتراكوية. وما تعميم المُنتفضين رفع علم الاستقلال بدل «الجماهيرية» سوى إعلان عن رغبة عميقة بالقطع مع كل ما يمت إلى «القذافية» بصلة، معنى ومبنى. ما نراه هو ركامها يسعى في انبعاث مستحيل.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى