صفحات الحوار

وقفة مع الذات: برهان غليون يضع النقاط على الحروف

وائل السواح

قتل وسجن وتعذيب وتدمير وتهجير، هذه الكلمات الخمس تلخص سنوات عشراً من تاريخ سوريا ومن عذابات السوريين. ما الثورة؟ ولماذا؟ كيف بدأت وأين انتهت. الناس نيوز تحاول استقراء ذلك مع الدكتور برهان غليون الأكاديمي والسياسي السوري وأول رئيس للمجلس الوطني السوري.

شغل برهان غليون منصب أستاذ علم الاجتماعي السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس منذ 1990. وساهم بشكل دائم في إحياء النقاشات النظرية والسياسية التي شغلت المثقفين والعالم العربي في العقود الأربعة الماضية. بالإضافة إلى نشاطاته الأكاديمية، أصدر غليون العشرات من المؤلفات والأبحاث المنشورة باللغة العربية واللغات الأجنبية. من أهمها: بيان من أجل الديمقراطية (1976)، نظام الطائفية (1990)، المحنة العربية: الدولة ضد الأمة (1992)، نقد السياسة: الدولة والدين (1994)، النظام السياسي في الإسلام (2004)، العرب وتحولات العالم (2005) النخبة والشعب (2010)، عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل (2019).

سؤل 1: كثرة من السوريين تفاءلوا بوصول رئيس شاب إلى سوريا بعد “موت الدكتاتور”، هل كنت بينهم؟ هل كنت تعتقد أن العقد السابق للثورة كان يمكن أن يحمل تغييرا سلميا في سوريا، في شكل الحكم والتشاركية وحقوق الإنسان؟

ج: في البداية خطر بذهني أن من المحتمل، كي لا يكون مجرد وريث أبيه، أن يسعى إلى القيام ببعض الانفتاح لبناء شرعية حكمه على أسس غير الوراثة وأن يستقل نسبيا عن أبيه. لكن اكتشفت بسرعة ان وضعه أضعف من أن يسمح له بذلك لعدة أسباب.

الأول: أن مجيئه إلى الحكم كان بقرار من شبكات المصالح الراسخة التي تكونت في عهد أبيه، في الجيش وأجهزة الأمن ورجال الأعمال الشركاء وبيروقراطية قطاع الدولة. وهؤلاء هم الذين اختاروه ووضعوه في الحكم لحماية مصالحهم ولتأكيد استمرارية حكم الأب والنظام عموما، ولم يأتوا به إلى الحكم بسبب مواهبه في الإصلاح أو الإدارة أو الحنكة السياسية والعسكرية. فهو رهين قاعدة حكمه ومسيّريه المباشرين وإلى حد كبير، كما تبين فيما بعد، أداة طيعة بين أيديهم للاستمرار في الحفاظ على نمط الحكم وموازين القوة والحيلولة دون أي تغيير محتمل فيها. أي أنه جيء به لتجميد الوضع القائم لا لتغييره.

الثاني: أن أي تغيير يفترض الحد الأدنى من الشجاعة والخبرة السياسية، وحد أدنى من النفوذ المعنوي على النخبة الحاكمة، من قادة الأجهزة والمسؤولين في المناصب العليا في الدولة. وهو يفتقر لهذه الصفات جميعا، بل يكاد يكون شخصية فارغة تماما ولا يملك الحد الأدنى من الذاتية، بما تعنيه من الوعي والإرادة المستقلين. هو بالأحرى أشبه بالحرباء يخفي حقيقة فراغه الداخلي بالتكيف مع أي وضع أو أي شخص وهذا ما يفسر أيضا لجوءه للكذب وإنكار الواقع من دون أن يشعر بأي حرج. وهو بالأحرى من نوع فزاعات الطيور أو خيال المآتة.

والثالث أنه كان يفتقر منذ البداية لفريق عمل خاص به يساعده في دخوله وكر الأفاعي الممثل بالقادة المخضرمين العسكريين والأمنيين والحزبيين البعثيين. وقد فشل في أن يجمع من حوله بعض المثقفين والخبرات السورية المهاجرة مثل عصام الزعيم وغسان الرفاعي وغيرهم، لأنه لم يملك الإرادة الكافية لحمايتهم من عدوان أصحاب السلطة الحقيقية الذين أرادوا أن يبقى كلياً في قبضتهم وتابعا لهم.

وبالنسبة لفتوته ودراسته في أوروبا تحضرني الآن محاولات عم زوجته إقناعي، بمناسبة تشكيل وزارته الأولى، بأن أشارك في الحكومة الأولى بعد توليه الحكم، مدعيا أن الأسد الشاب والمثقف المتعلم في أوروبا يراهن على أناس مثلي، مخضرمي الثقافة لمساعدته على تحقيق الإصلاح. وكان جوابي إن الفتوة والإقامة في الغرب لا يصنعان من أي فرد قائدا سياسيا بالضرورة وأن الفرد، حتى لو كان صاحب إرادة إصلاحية حقا، وهذا يحتاج إلى دليل لم يظهر بعد، لا يستطيع أن يفعل شيئا إزاء شبكات المصالح والمافيات المسيطرة سيطرة مطلقة على النظام. وأتيت له بمثال الرئيس الجزائري محمد بوضيافi الذي استدعته النخبة العسكرية الحاكمة في الجزائر من مهجره في المغرب واحتفت بقبوله منصب الرئاسة، وهو من الزعماء التاريخيين للثورة، لكن في أول محاولة لتجاوزها والتفكير في الإصلاح بالإعلان عن رغبته بتشكيل حزب تابع للرئيس يعزز موقعه، اغتالته مافيا الحكم في وضح النهار برصاصة أطلقها أحد رجال حمايته أثناء إلقاء خطابه. وقلت الجهاز أقوى من الفرد. وهو مدان بأن يبقى رهين إرادة هؤلاء أو يقضون عليه. فهم النظام الحقيقي. بشار وشبوبيته وأسطورة إقامته في بريطانيا وزواجه من سيدة ولدت أيضا في بريطانيا وتحمل ثقافة أوروبية، كل ذلك لم يكن هو ذاته سوى ساتر عورة لنظام متمرس ومتجذر في الحرب الأهلية الباردة المستمرة في الواقع منذ مجزرة حماة عام 1982. لذلك لم أراهن أي لحظة على فتوة بشار وثقافته الحديثة المفترضة ولكنني رأيت بالعكس ضعفه وعجزه وقلة حيلته وانقياده الأعمى لإرادة من يملك القوة من الشركاء في النظام القائم وفيما بعد، عندما خرج السوريون في الثورة، من القوى الخارجية الإقليمية كإيران، والدولية كروسيا. وهو مستعد للتحالف مع أي شيطان لينقذ منصبه والتغطية على افتقار حكمه إلى أي مشروع إصلاحي أو غير إصلاحي محتمل، واكتفائه بالحفاظ على مظهر الرئاسة بوصفه الموقع الأول في السلطة واستغلاله لتحصيل الثروة والمغانم لأسرته وعائلته.

سؤال 2: البعض يقول إن الثورة السورية أخذت المعارضة على حين غرّة. ما رأيك؟ هل تعتقد أن المعارضة السورية كانت مهيأة لاندلاع الانتفاضة السورية، أم أنها لحقت بها لاهثة؟ وهل تعتبر أن الحراك السياسي السوري (ربيع دمشق، إعلان دمشق، النشاط السوري-اللبناني المشترك) كان مقدمة للثورة السورية؟

ج: من المبالغة الحديث في سورية الأسد عن معارضة. هناك شخصيات معارضة لكن لا توجد مؤسسات، ولم يكن هدف حكم الطوارئ الدائم وتنويع الأجهزة الأمنية إلا قتل هذه المؤسسات المعارضة في مهدها. وهذا ما يفسر أن معظم أفرادها كانوا موزعين بين المعتقلات السرية، أو الأقبية البعيدة عن نظر المخابرات أو المنافي. ولم يكن لديهم أي إمكانية للنشاط والتواصل مع الجمهور. كان هناك بعض الأشخاص الشجعان الذين يحاولون اقتناص الفرص من وقت لآخر للتعبير عن آرائهم وإعلان موقفهم من النظام أو انتقاد سياساته. لذلك من المبالغة حتى القول بأنها كانت تلهث وراء الثورة. كانت عاجزة عن أن تدرك أن ما كان يجري ثورة بالفعل وتستوعب معنى ذلك ومقتضياته. وهذا ما يفسر أنه بعد سبعة أشهر من انطلاق الثورة لم تنجح في التوصل إلى اتفاق رغم نداءات النشطاء الشباب الذين تجاوزتهم الأحداث وحطم القمع شبكات تواصلهم وزج معظمهم في المعتقلات أو اضطروا إلى الاختفاء. وهو ما يفسر أيضا فشل المحاولات التي جاءت من خارج هذه المعارضة مثل المجلس الوطني السوري الذي كان بمبادرة نشطاء التنسيقيات، والضغط القوي على أحزاب أو بالأحرى مجموعات المعارضة. أما الائتلاف الوطني القائم فقد جاء بمبادرة مجموعة أصدقاء الشعب السوري، من الدول التي وقفت ضد سياسة الأسد الدموية. أما اليوم بعد مرور عشر سنوات فأعتقد ان هذه المعارضة تبخرت تماما ولم يبق منها سوى شبح معارضة.

لكن في المقابل لعب الحراك السياسي والفكري الذي سمي ربيع دمشق عام 2001 في بداية حكم الأسد دور الخميرة لثورة 2011 بما زرعه من أفكار ومفاهيم وما مثله من تجربة للتجمع والتظاهر الداخلي والمواجهة التي كانت فريدة من نوعها في عهد النظام الطاغية. وهي الثقافة الجديدة أو الفكرة التحررية التي غذت شباب الثورة وجمعت بينهم في مرحلتها الأولى، قبل أن ينجح القمع في تشتيت نشطائها والقضاء عليهم ويفتح الباب أمام صعود قوى كانت هامشية بالنسبة لربيع دمشق لتتصدر المجابهة مع النظام، بثقافة شعبوية مركبة من خلائط ثقافة دينية وقبلية ومناطقية وطائفية أيضا.

سؤال 3: هناك من يعتقد أن أي شخص أو جهة تقف بمواجهة النظام في سوريا هو جزء من المعارضة، كيف تنظر إلى هذا القول؟ وما هو موقف المعارضة المطلوب من التنظيمات الإسلامية الراديكالية، بما فيها داعش وهيئة تحرير الشام والتنظيمات الإسلامية الأخرى؟

ج: في الاستخدام الشائع كل من يقف ضد نظام قائم ويسعى لتغييره أو تغيير سياسته، في أي اتجاه كان، يسمى معارضة. لكن أطياف المعارضة لا تملك مشروعا سياسيا واحدا وإنما مشاريع مختلفة. هناك معارضة إسلامية وعلمانية ومتطرفة وربما طائفية وقبلية وقومية وعنصرية. ليس المطلوب رفض لقب معارضة على أي فصيل لا يتفق معنا ولا عدم الاعتراف بوجوده وصفته كمعارض. وليس هناك أي سبب كي تكون كل أطراف المعارضة في مركب واحد. التحالفات السياسية تقوم عادة بين قوى مختلفة على أساس اتفاق على مشروع سياسي. وهذا المشروع الذي كافحت من أجله القوى الثورية هو إسقاط نظام الاستبداد وإقامة نظام ديمقراطي يضمن الحريات والحقوق المتساوية لجميع السوريين من دون تمييز. هذا جوهر مطالب الجمهور الشعبي الواسع. كل من يوافق على هذا البرنامج يمكن دمجه في قطب المعارضة الديمقراطية وكل من يعترض عليه أو يرفضه مرفوض منه. وفي السنوات الماضية لم تخف التيارات الجهادية والسلفية هويتها واختارت أن تعمل لوحدها، ودخلت في حروب مع القوى الديمقراطية ومع النظام في الوقت نفسه.

سؤال4: تحدثت في كتابك “عطب الذات” مطولاً عن الإخوان المسلمين، هل تغيّرت نظرتك في الفترة الأخيرة؟ هل يمكن التحالف مع الإخوان المسلمين في الإطار المنشود للمعارضة السورية؟

ج: الإخوان المسلمون في سورية تنظيم ولد في عهد الحكومات الليبرالية وتبنى مرشده الأول مصطفى السباعي موقفا ديمقراطيا وعقد اتفاقات سياسية مع الأحزاب اليسارية في بعض الانتخابات النيابية في الخمسينيات. وفي حقبة ربيع دمشق أصدر التنظيم وثيقة يؤكد فيها انتماءه للحركة الديمقراطية والدولة المدنية وأصبح عضوا في تكتل إعلان دمشق. وعلى هذا الأساس دخل أيضا في المجلس الوطني السوري في أكتوبر تشرين الأول 2011. لكنه بعد تراجع القوى الديمقراطية خلال الثورة وصعود القوى الإسلامية السلفية والجهادية مال إلى تنفيذ أجندة مستقلة غازل من خلالها القوى السلفية من دون شك. وهذا ما يفسر انفراده بتشكيل منظمة عسكرية خاصة باسم “هيئة حماية المدنيين”. هل يمكن التحالف مع الإخوان في إطار جبهة أو حركة ديمقراطية في المستقبل؟ هذا يتوقف على التحالف من أجل أي هدف. إذا كان المستقبل في سورية لنظام ديمقراطي على الأغلب سيكون التنافس بين الإسلاميين المعتدلين والديمقراطيين، ولن يكون هناك أصلا مجال للحديث عن تحالف. لكن في الوقت الراهن أعتقد أن مستقبلهم هو التقرب أكثر من القوى الديمقراطية وهذا ما يضمن لهم البقاء في النظام الجديد، لأن الارتماء في أحضان السلفيين ليس من مصلحتهم، ويتناقض مع جوهر عقيدتهم السياسية. وكنت أنا نفسي قد دعوتهم في كتابي “نقد السياسة: الدولة والدين”، إلى أن يتحولوا إلى ديمقراطية إسلامية على منوال الديمقراطية المسيحية التي عرفتها أغلب الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية وكان لها دور كبير في نهضتها أيضا. لكن أعتقد أنهم خسروا الرهان للأسف. ولو فعلوا لكنا اليوم في مكان آخر. سنرى إذا كان بإمكانهم أن يقوموا بمراجعة نهجهم السابق خلال الثورة. من دون ذلك لن يبق لهم أثر يذكر.

سؤال 5: كيف تنظر إلى مسألة التوتر في الأوقات بين العرب والكرد؟ يبدو أن حزب الوحدة الشعبية يعدل قليلا من خطه السياسي وقد استبعد الانفصال وحتى “الفيدرالية، متبنيا مفهوم “اللامركزية الموسعة”. هل حان الوقت لدمج الحزب ومجلس سوريا الديمقراطية بمعارضة سورية موحدة؟

ج: ينبغي بالتأكيد فتح حوار معمق مع جميع القوى السياسية الكردية السورية لأن من المفترض أنه لا شيء يحول بينها والعمل على مشروع ديمقراطي. وما برز من خلافات في السنوات السابقة مع قوى المعارضة السورية الأخرى كان ثمرة انحراف بعض الأحزاب الكردية السورية عن الأجندة الديمقراطية الواحدة والعمل على أجندات مختلفة قومية وحزبية، وهو أيضا ما يفسر تشكيلها لقوات عسكرية خاصة، سواء أكانت البيشمركة لدى أحزاب المجلس الوطني الكردي أو قوات حماية الشعب لدى الاتحاد الديمقراطي. وهذه المسألة إلى جانب مسألة نظام الإدارة الذاتية وحدود سلطاتها السياسية والجغرافية شرق الفرات ونمط سيطرة سلطة الحزب الواحد، وبلورة رؤية مشتركة للحقوق القومية الكردية في إطار الجمهورية السورية، من المسائل الرئيسة التي ينبغي التوصل فيها إلى حلول ديمقراطية مقبولة من جميع السوريين.

سؤال 6: هل تعتقد أن اللجنة الدستورية قد وصلت إلى طريق مسدود؟ وهل كانت في الأساس المسار الصحيح لحل سياسي للأزمة السورية؟ الكرد وهيئة تحرير الشام هما القوتان الوحيدتان اللتان تعارضان النظام ومع ذلك هما غير ممثلتين فيها.

ج: اللجنة الدستورية لم تصل إلى طريق مسدود لأن هدفها كان بالأصل سد الطريق على مسار جنيف وخلق تكتل روسي إيراني تركي يعزز موقف موسكو فيها في مواجهة التكتل الغربي. وقد نجحت في مهمتها تماما فلم تتقدم المفاوضات السورية خطوة واحدة منذ عشر سنوات. والحل ليس بإدخال الأحزاب الكردية، وإنما بالعودة إلى مفاوضات جدية تحترم قرارات مجلس الأمن ومنها 2254، شكلا ومضمونا، وتبدأ بتشكيل هيئة حكم انتقالي تعمل حسب وثيقة دستورية مؤقتة للإعداد، تحت إشراف الأمم المتحدة، لانتخابات ديمقراطية تنجم عنها حكومة تمثيلية هي المخولة بحل المشاكل البنيوية الرئيسة بما فيها شكل الدولة والنظام المركزي أو اللامركزي أو حتى مناطق الحكم الذاتي إذا كانت هناك مطالب مشروعة لإقامتها. من دون ذلك لن تتكون سلطة شرعية تحظى بالثقة وقادرة على إعادة بناء الدولة السورية. وسوف يبقى الانقسام والتشتت، والشد والجذب بين القوى المسيطرة اليوم على جزء هنا وجزء هناك من الأرض، ولن نخرج من الحرب الأهلية. وبدل أن نحظى بدولة ديمقراطية تعددية سوف ندخل في متاهة حروب أهلية متعددة، ونظل أسرى منطقها، أي في “لا دولة”.

سؤال 7: هل آن الأوان لظهور تشكيل معارض جديد يؤسس على ما أنتجته المعارضة في هيئاتها ومؤتمراتها وهياكلها، ولكنه يتجاوز كلّ عثراتها وأخطائها؟ هل هذا ممكن؟ أم أنه فكرة طوباوية؟ هل السوري مؤهل لعمل جماعي منظم؟ هل تؤيد انتقال أثر المعارضة إلى مكان جديد، لكي تتجاوز التأثيرات الإقليمية؟

ج: بالعكس أرى أننا على مستوى سورية ككل نزداد تشتتا، ولا نزال نراكم من الأخطاء والزلات أكثر مما نتجاوزه منها. وليس لهذا علاقة بأهلية السوريين للعمل الجماعي المنظم أو بثقافتهم، فالسوريون ليسوا نوعا بشريا مختلفا عن المجتمعات الأخرى. إنما هذا هو ثمن الإحباط الناجم عن خسارة الرهانات الكبرى والتضحيات اللامحدودة، وتحطيم الآمال، كما يمكن أن يحصل في كل المجتمعات وفي كل زمان. وهو كذلك ثمن العنف الاستثنائي الذي مورس عليهم بهدف إحداث عطب دائم وإبادة جسدية ومعنوية ورمزية لشعب أعزل، ترك لمصيره أمام نظام قائم على العنف والترويع والإرهاب وفاقد للأهلية الأخلاقية والسياسية. وهو كذلك ثمن تخلي المجتمع الدولي عن السوريين في محنتهم الأقسى، بدل مساعدتهم والأخذ بيدهم والعمل على مداواة جراحهم الفاغرة منذ عشر سنوات. وكان يكفي مد يد المساعدة لهم، وإعطائهم الحد الأدنى من الأمل، ووضع حد لاستباحة حقوقهم وحياتهم والامتهان اليومي والقاسي لكرامتهم، حتى يستعيدوا حسهم السياسي والمدني والإنساني الطبيعي. واعتقد أن خطوة مهمة في اتجاه تشكيل الدول الديمقراطية الرئيسية محكمة خاصة بجرائم الحرب في سورية لتعيد الأمل وتدفع نحو سلوك أكثر إيجابية وثقة.

سؤال 8: لقد تدول الصراع في سوريا إلى حد كبير.. هل بقي أي دور للفاعلين السياسيين السوريين؟

ج: ربما تدول أكثر من اللازم، وهذا ما يعمل على زيادة التناقضات وتفتيت المناطق وتكريس الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية والمناطقية، وتطبيع الحروب بالوكالة، وشرعنة الاحتلالات الأجنبية، وتنامي مشاريع الاستيطان والتغيير الديموغرافي والثقافي والمذهبي. لذلك ما لم ينجح السوريون في التغلب على إحباطهم، وينهضوا لاستجماع قوتهم المعنوية واستعادة الثقة بأنفسهم وقدراتهم ومستقبلهم وتنظيم صفوفهم، لن تخرج سورية من الوضع الخطير الذي تتخبط فيه. وسوف تتحول إلى مستنقع لرعاية كل أنواع الطفيليات والحشرات السامة والأفاعي الضارية. ولن يكون السوريون ضحاياه الوحيدين بالتأكيد. لقد تدول الصراع إلى درجة لم يعد من الممكن لأحد حله من دون السوريين. فهو، أكثرمن أي وقت سابق، متوقف على أخذ مصيرهم بأيديهم، والتجرؤ على فقء الدمل الطائفي الذي يسمم وجودهم ويعطل نهوضهم.

الناس نيوز

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى