أبحاث

حراك عربي بلا نتائج موازية/ غازي دحمان

شهدت المنطقة العربية، على مدى العامين الماضيين، حراكاً سياسياً نشطاً، جرت ترجمته من خلال القمم العديدة التي جمعت، في أحيانٍ كثيرة، الفاعلين الذين كانت لهم تأثيرات واضحة في مسارات الأحداث في المنطقة في العقد الأخير، الأمر الذي أوحى باحتمال صياغة أجندة الجغرافيا السياسية العربية للمرحلة المقبلة، وتحديد اتجاه التفاعلات مع البيئتين الإقليمية والدولية، وموقع العالم العربي ودوره فيهما.

لكن، مع بدايات هذا العام، ومرور وقتٍ لا بأس به على هذا الحراك، من قمّة العلا في الرياض إلى القمّة العربية في الجزائر، بالإضافة إلى القمتين مع رئيسي أميركا والصين، ومؤتمري بغداد (الأول والثاني)، وصولاً إلى القمة التشاورية في أبوظبي قبل أيام، يمكن رؤية حدود مفاعيل هذه القمم، إذ رغم محاولة الفاعلين تأكيد نهاية مرحلة الاستقطابات الإقليمية، لم يؤدّ الحراك إلى صناعة بدائل إقليمية تنهض بالوضع الإقليمي إلى آفاق جديدة من التأثير والفاعلية في لعبة الصراعات الجيوسياسية الدولية المحتدمة.

هل شكّل هذا الحراك فرصةً ضائعة على العرب؟ بدون شك، خاصة أنّه جاء في سياق متغيّرات أتاحتها ظروف الحرب الأوكرانية والحاجة العالمية للطاقة، التي يمتلك العرب حصصاً وازنة منها في السوق الدولية. ومع أنّ العرب حققوا درجة لا بأس بها من الاستقلال الجيوسياسي والاستراتيجي في مواجهة الضغوط التي تعرّضوا لها، إلّا أنّ صنّاع السياسات العربية لم يستطيعوا تجاوز ذلك إلى تحويل هذا الأمر إلى قيم مضافة لسياساتهم الدولية، بدل الاكتفاء بالموقف الدفاعي الذي استهلك الدبلوماسية العربية من دون مبرّر يستدعي ذلك.

يحيل هذا إلى البحث عن أسباب ضعف مردودية الحراك العربي، والتي يمكن تلخيصها بثلاثة عوامل رئيسية: الافتقاد للرؤية: فلم تضع الأطراف المعنية رؤىً محدّدةً لهذا الحراك، فقد كان الهدف الأساسي منه معالجة أوضاعٍ كان من شأن استمرارها زيادة الأعطال التي لحقت بقنوات التواصل بين الفاعلين، وبالتالي وقف انحدار العلاقات إلى مستوياتٍ أخطر.

– تأثره بالسياقات الدولية: وهذه ربما نقطة لصالحه، على اعتبار أن النظام الإقليمي العربي فرع من النظام العالمي. ومن الطبيعي أن يتأثر بسياقات الأحداث الدولية. ومن جهة أخرى، انعكس هذا التأثر على أهداف الحراك، بحيث ظهر وكأنه مجرّد رد فعل على أحداث حصلت ووصل صداها متأخّراً إلى العالم العربي.

– توظيف فردي: حيث رغب كل طرفٍ مشاركٍ في هذا الحراك في توظيف صورته وفعاليته في: إما إرسال رسائل وقتية وآنية إلى أطراف إقليمية ودولية يشتبك معها بصراعات وحوارات معينة، أو تعزيز الوضع التفاوضي بقضايا معيّنة، وهذا ما قد يفسّر أسباب عدم هيكلة هذا الحراك (الحراكات) وإيجاد أطر محدّدة لها، وحتى عدم حصولها على هويةٍ واضحة.

يكشف ذلك عن مضمونٍ أكثر عمقاً، ويتمثل بحقيقة أن ليس للفاعلين العرب استراتيجية واضحة في مواجهة التحدّيات التي تواجههم، سواء التي تطرحها البيئة الإقليمية، أو الناتجة عن متغيّرات البيئة الدولية، والتي تحتاج إلى تطوير رؤية شاملة تستفيد من عوامل الجغرافيا السياسية العربية، والقدرة على توظيفها في التفاعل الدولي، عبر صياغة مشروع جيوسياسي عربي، يستطيع مواجهة المشاريع الجيوسياسية التي تخترق العالم العربي في مختلف فضاءاته.

ليس سرّاً أن العقلية السياسية العربية تشكّلت في القرن العشرين ولم يجر تحديثها بما يتناسب والمتغيّرات الهائلة في السياسة الدولية ولعبة السياسة التي تطوّرت بفضل التقنيات الحديثة في صنع السياسة، وهذا ما يجعلها غير قادرةٍ على مواكبة العصر، وعجزها عن إيجاد سياساتٍ بديلةٍ لمواجهة المتغيرات المتسارعة أو الظروف الناشئة. والمثال الأكثر بروزاً في هذا السياق يتمثل بكيفية إدارة (وضبط) الحراكات الاجتماعية التي شهدتها المنطقة العربية، والتي كانت، في جوهرها، تعكس توق الشعوب وأشواقها إلى الانخراط بفعاليات العصر الحديث، والخروج من أوضاعٍ باتت مستنزفة للطاقات العربية، فماذا كانت النتيجة؟ نحكمكم أو ندمّر البلاد على رؤوس العباد!

ما نحتاجه في العالم العربي، في هذه اللحظة، وفي ظل ربيع الحكام العرب، بعد نجاحهم في القضاء على ربيع الشعوب العربية، إدراكهم أن تطوير عملية صنع السياسات، وإنْ كانت ثمارها ستعود بالخير على المجتمعات العربية، لا تشكّل عليهم مخاطر كبرى، بل يمكن أن تعود عليهم بالفوائد، أقلّه لجهة تعزيز الاستقرار، كما عليهم أن يدركوا أن الشعوب العربية ليست مصادر الخطر الوحيدة عند عقلنة سياسات الأنظمة وترشيدها.

وهكذا، في وقتٍ يسبح فيه الحراك السياسي العربي في فضاء اللا جدوى، تتراكم الأخطاء تتراكم وتتبلور التحدّيات. ومن ينظر إلى خريطة المخاطر التي تحيط بمعظم الدول العربية سيكتشف أن هذه المخاطر ربما تخبو أحيانا ويجري تسكينها، لكنّ ذلك لا يعني زوالها، بقدر ما يعني أنها تختبر الظروف وتنتظر الفرص المناسبة للإعلان عن نفسها بقوّة. وفي الغالب، حسب حاجة الفاعلين الخارجيين الذين يقفون خلفها.

ستبقى الحراكات السياسية للأنظمة العربية من دون طائل، طالما ظلت محكومة بالحسابات قصيرة الأجل. وسنرى مؤتمرات وقمما كثيرة بدون أن نرى نتائج موازية ذات قيمة، ما دامت العقلية السياسية العربية محكومةً بضيق الأفق وضعف الإدراك السياسي.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى