مراجعات الكتب

«كلهم» شهود: وكأنّ الشوك في حلقي.. ينمو/ عمار المأمون

افتتحت صالة FAIT & CAUSE في باريس مؤخراً معرضاً للفنان السوري نجاح البقاعي بعنوان «كلّهم شهود»، نتعرف فيه على اللوحات التي أنجزها البقاعي بعد نجاته من سوريا، ملتقطاً ويلات الاعتقال في أقبية التعذيب والموت. يُذكَر أنه هذه اللوحات سبق أن نُشرت في صحيفة ليبراسيون الفرنسية عام 2018، إذ أُفردت لها خمس صفحات كاملة، بوصفها «شهادة» أو «عملاً فنيّاً» يترك من يشاهده مذهولاً رعباً وخوفاً من ممارسات الأجهزة الأمنيّة في سوريا.

يرافق المعرض صدور كتاب يحمل أيضاً عنوان كلهم شهود. الكتاب صادر عن دار أكت سود، وقد أشرف عليه الباحث والمترجم السوري فاروق مردم بك، ويحوي شهادات لكتاب وفنانين ومسرحيين من مختلف الجنسيات، بينهم سوريون وعراقيون ولبنانيون، كلهم «كتبوا بحرية عن المشاعر التي انتابتهم حين مشاهدة هذه اللوحات، لأجل أن يشهدوا معـ(نا) ضد الرعب»، حسب مقدمة الكاتب. يحوي الكتاب أيضاً اللوحات التي يستضيفها المعرض.

هذه الـ«نا» تعود على «الجميع»، لا فقط السورين، هي تشمل العالم كله، الذي على اختلاف مسافته من الحدث السوري شَهِد، ولو للحظة، الرعب الذي أنتجه النظام السوري. هذه الـ«نا» تعود أيضاً على الأنظمة والبشر، فما شهدته في سوريا إلى الآن مجاز وحدث كشف عطب العالم، خصوصاً أن «أعداء شعبهم، هم الآن أكثر من أي وقت مضى، أعداء البشريّة أجمعها».

يصعب على من يقرأ تلمُّس النبْرة في الكتابة، ليَظهر الشعر أو الكلام المنمّق وزناً وتكراراً كبديل عنها، كما في الفقرة السابقة عن الـ«نا»، والتي – على ابتذالها بدون نبْرة – لا مفرّ منها، خصوصاً حين نقف داخل صالة المعرض، مُحاطين بلوحات بقاعي، التي نتعرّف في الكتاب على حكايتها وحكاية البقاعي نفسه: 70 يوماً في الفرع 227 في دمشق، يتعرض للتعذيب، وينقل جثث أقرانه وأشباهه، ثم ما إن تمكن من مغادرة سوريا حتى بدأ بالرسم.

لكن، لنَنْفِ كل ما هو خارج الإطار، أي ذاك الذي نقرأه في الكتاب وفي التعريف عن المعرض وما نقرأه في الأخبار عن سوريا، ولنشاهدْ فقط اللوحات، ولننسَ أيضاً اسم البقاعي وحكايته، وشهادات كل من حوله. نحن أمام ما يثير الرعب، هناك أجساد هزيلة تُضرَب وتُعذَّب من قِبَل أجساد أخرى. المشهد متكرر مراراً في تاريخ الفنّ، لكن لمَ القشعريرة أمام هذه اللوحات بالذات؟ الإجابة، ربما، أن الأوجه في لوحات البقاعي تبدو كأنها مصوَّرة على حين غرة، غفلةً، إذ يلتقط البقاعي لحظة اللاتصديق، تلك الدهشة التي تعبر الفرد قبل الشدّة، والتي يحاول نفسها ذاك الأمل باستحالة أن يقوم أحدهم بضرب آخر حد تهشيم أسنانه على الأرض تحت جزمته. هذا الأمل بالاستحالة منشأه الفرد نفسه، المشدوه أمام جلاده، والذي يعلم أن هناك حداً لا يمكن تجاوزه في أذيّة الآخر، حداً يحدد إنسانيتنا جميعاً كبشر. هنا يظهر الرعب، في لحظة تلاشي هذا اليقين، والشهادة على أن الاستحالة قابلة للتحقيق، لا بل ويمكن لأي أحد أن يختبرها، كحالة البقاعي نفسه، الشاهد على أسوأ تجليات الطبيعة البشريّة.

تتسلل بعد التحديق في «اللوحات» صور أخرى يستعيدها المشاهد، الذي يتعرف ما أنجزه «سوريّ ما»، نجا من جحيم الأسد؛ نفسها ماكينة القتل التي أنتجت صور قيصر، في استعراض عَلَني للّحم المُعذَّب والعنف السياسي الواقع على أقران وأشباه هذا السوري المدعوّ البقاعي. إثر ذلك، يظهر الرعب مرة، وينمو شوك في الحلق، فأولئك اللذين في اللوحات ذوو أسماء وأوجه وأُسَر، ذوو محاسن وخطايا، وهم أيضاً الذين شهد البقاعي على موت 341 منهم، حملهم هو، من موت مؤقت إلى موت لا رجوع عنه، ضمن فضاء يتفاوت فيه الموت، وتختلف درجاته.

هناك إشكالية في تلقّي هذه اللوحات من وجهة نظر جماليّة، أو على الأقل لديّ أنا إشكالية. فكيف أقارن لوحةً للبقاعي تمثل جثثاً/أشخاصاً، بأخرى تمثّل شخصيات متخيلة خضعت للتعذيب، خصوصاً أننا نمتلك مرجعية للمقارنة: «العذابات» التي تُمثلها لوحات البقاعي لها مقابل فوتوغرافي ذو قيمة قانونية وإدارية، أي إننا لا نتحدث عن «مخيلة» فنان يصور التعذيب في سوريا، بل شخص «شَهِد» التعذيب واختبره، وأنجز رسماً ما رآه. ربما الإشكاليّة – والقشعريرة – سببُها البقاعي نفسه، الذي نراه حياً، بيننا، يقف ليُخبرنا ما يحدث. وهنا نستعيد السؤال الذي طرحته هالة قضماني حين نُشرت اللوحات لأول مرّة: هل هذه «أعمال فنيّة» أم «شهادات»؟

نترك السؤال الآن لنعود للشهود، الذين دوّنوا وكتبوا عن سوريا واللوحات وأنفسهم، والذين يقف كل واحد منهم على مسافة مختلفة من الحدث تبدأ من داخله، أي البقاعي نفسه الذي اختبر السياط بلحمه، وتنتهي في مكان آخر. سوريا بالنسبة لهؤلاء ذكرى من الطفولة، أو صورة تمر على التلفاز. المشترك أن كلاً منهم يحمل خيبة أمل ما، نُمّق الكلام أو ابتُذل، إذ نقرأ عبارات كـ«انتصار الديكتاتور في سوريا»، «سوريا مقبرة الثورات»، «النظام السوري يقودنا جميعاً إلى الهاوية»… لنعود إثر ذلك للـ«نا». فما حصل سوريا يكشف عمق البنى والأنظمة على تنوعها، والتي على اختلاف مواقفها خيّبت أمل «الجميع». لكن بعد قراءة الشهادات والنظر إليها ككتلة واحدة، نكتشف واحدة من خصائص خيبة الأمل، هي العدوى التعاطفيّة، تلك التي إن استفحلت، تتحول صوتاً وتصريحاً وإشارة جمعيّة إلى «الشرّ» الذي مسّ الجميع.

نعود لسؤال «عمل فنّي» أم «شهادة»، والذي يتركنا في محاولة الإجابة عنه ضمن فئتين هما تواريخ الفن والإطار القضائي، خصوصاً أن هناك قوة «خارج الإطار» تتحكم بالفئات وتعرفها وتحدّد أسلوب تلقيها، وجدّيتَها من عدم جدّيتِها بالمعنى الأدائي. لكن ربما هناك فئة ثالثة، مختلفة عما سبق؛ تصنيف يخاطب «الجميع» مهدداً كلامهم وصمتهم على حد سواء، هي «الحقيقة العارية»، تلك اللحظة التي تكشف عَيب المعرفة وسخرية أثرها. فـ«العري» هنا، عري الأجساد رسماً وحقيقةً، هو وسيط لمعرفة من نوع مختلف، لا تُخفي وراءها شيئاً سوى فجاجتها وصراحتها. الحقيقة العاريّة مفادها أن محاولات عقلنة ومَنطَقة النظام السوري، وفهم السبب والنتيجة، لم تتمكن من إيقاف يد جلاّد أو دفع سبّابة قاتل عن الزناد، بل تركت الألم الناتج عن العنف السياسيّ يشكّل لحمه، ليُحدّق فينا مذعوراً ضمن كل لوحة، مشيراً إلى نفسه كعلامة على خيبتنا من «العالم». الأهم أن هذه الحقيقة تُثبت لا-جدوى معرفتنا الدقيقة بمن تسبّب بهذا «العري».

نرى في واحدة من اللوحات جسداً معذَّباً يطفو في البياض، في اللامكان ربما، أو في عمق الوعي بالألم. فالألم ينفي اللغة، لأنه في لحظة اشتداده وانتشاره يُغيِّب كل ما حوله، بل حتى يفكّك ذات المُعذَّب نفسه، تلك التي تتكثّف في مساحات الألم، والذي – في لوحات البقاعي – يعيد رسم اللحم وحدوده، لتظهر اللوحة أمامنا أشبه بالشرايين التي ترسم الجسد المتألم. والمفارقة أنْ لا عضوَ يُستثنى في اللوحات؛ كل ما يتألم مرئي، وما حوله أبيض، إذ لا يسمع المتألم مَن حولَه، بل يطفو في وجهه حد الإغماء. أما نحن، الشهود على اختلاف موقعنا، فنختنق إن نتحدث، ونختنق إن نصمت.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى