نقد ومقالات

شخصيّة المُبدع بين الحقيقة والوهم/ سوسن جميل حسن

“ربّي، لا تكرّه حدا (أحدًا) فيني (بي)”.

لطالما سمعت هذه الجملة تتردّد على لسان أمّي، أمّي التي غادرتنا قبل أن نكتشفها كما يليق بإنسان طيب، فهي كبقية الأمهات، كانت حاضرة في عالمنا كبديهيّة وضرورة تحدّدها حاجاتنا الحياتية المادية والروحية، تنظم علاقتنا بها الضوابط الأخلاقية والقيمية والمعرفية والتربوية السائدة، وموجودة بحكم الطبيعة والخط البياني للحياة كما عليه أن يكون، خط مستقيم بلا تعرّجات أو انحناءات، إنما مسترسل كمياه نهر يدفعها التيار.

كانت هذه الجملة تسبب لديّ حالة من البلبلة تنمو معي من دون أن أفهمها، إلى أن تعرّفتُ إليها وعرفتُ بأنها حالة من القلق، الخوف من ألّا أستطيع أن أكون محبوبة ممّن حولي، الخوف من أن يكرهني من يتعامل معي، التوجّس من علاقتي بالآخرين، التي كانت دائمًا تفرض علي نوعًا من محاسبة الذات والخوف من أن أكون قد ارتكبت أخطاء بحقّهم، ترافق هذا الشعور مع نموّ حساسيّة مفرطة تجاه الآخر، حساسيّة لها علاقة بمشاعره، إذ أحسب حسابًا لها وأضبط سلوكي وكلماتي كي لا أخدش مشاعره، في الوقت نفسه كنتُ سريعة العطب أيضًا، عندما كنتُ أفترض أن الجميع مثلي ويجب ألّا يكونوا قساة في سلوكهم أو تصرفاتهم أو أقوالهم، بينما الواقع غير هذا، عرفت في مسيرة حياتي وتجاربي ومرضاي، أن الواقع غيره بالمطلق، وأن الأمور لا تُقاس بما أرغب أو أمارس، بل هناك أنماط لا تعدّ من الشخصيّات، ولكل منها طبائعها ونظم تفكيرها وأمزجتها وقيمها إلى ما هنالك من مقوّمات الشخصية.

إنما بقيت الجملة في بالي، وصرت أفهم مقولة أمّي، التي كانت في الدرجة الأولى تنطوي على خوف من خذلان الجسد أو عجزه ما يضطرها إلى احتياج الآخرين في حياتها، وهذا ما كان يرعبها، خاصة لما يمثّل الجسد في وعيها، هي وجيلها، وما يُرمى عليه من حمولات قيمية تجعله عبئًا على صاحبه، دائم الانشغال به من أجل حمايته وإبقائه في تلك الزاوية المعتمة التي لا يمكن إضاءتها حتى أمام صاحبها من دون الشعور بوزر ارتكاب ما أو خطيئة ما.

ليس موضوع الجسد وخذلانه الذي قد يرمي صاحبه تحت عبء الحاجة المُهين، هو ما ترمي إليه المقالة، إنما موضوع الشخصية وبطانتها، الشخصية العلنية التي يُشهرها حاملها كهوية أمام الآخرين، وما يستبطن في غرفه السرّية التي لا يمكن ولوجها بالكامل حتى من قبل أمهر وأحذق المحللين النفسيين، أو ممّن يعيشون معه بقرب كبير، وعند المبدع بشكل خاص.

للمبدع وسائط أخرى للإشهار، منتجه الإبداعي، الثقافي، الأدبي، الفني، الموسيقي، إلى ما هنالك من مجالات الإبداع، التي تعلن عن نفسها بما هي عليه من جسور يمدّها تجاه الآخرين، ليس بقصد التعارف، إنما لأن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، هذا لا يعني أنه يحتاج إلى العيش ضمن مجموعة فقط، فهو يشترك مع بقية المخلوقات التي تعيش في قطعان أو جماعات، إنما مجالات تَحقّقِ هذه النزعة الاجتماعية، محاولة كونه موضوعًا بحد ذاته يلفت نظر أو اهتمام الآخرين الذين ينتمون معه إلى النوع نفسه والمجموعة نفسها، فماذا تعني الكتابة أو الرسم أو النحت أو الموسيقى أو أي عمل إبداعي غير النزوع أو الإحساس بالحاجة لحوار مع الآخرين؟ حتى لو كانت هناك نزعة مستبطنة توحي بأن كل أشكال الإبداع في الأساس هي محاولة لمواجهة أسئلة الوجود، أو الهروب من حتمية الموت والفناء، لكن تبقى الرغبة للوصول إلى الآخر ولفت نظره واستنهاض اهتمامه أحد الأسباب أو الدوافع الخفية وراء الإبداع، هي بمثابة فتح حوار أو مسارات بين المبدع وآخرين افتراضيين مقيمين في باله، فهل كان للإنسان أن يضمر أفقًا بلا نهايات أو حدودٍ لأسئلته وتصوّراته وخياله لو كان يعيش بمفرده؟

لكل فرد شخصية تتراكم عبر الزمن، تتضافر في تشكيلها عوامل كثيرة، خلقية ومكتسبة، وله أيضًا عالمه السري الذي لا يمكن كشفه بسهولة، فالإنسان كائن مراوغ بما يملك من قدرات على التعلم والخيال والتحكم بذاته والتكيف، الإبداع فيه الكثير من الغواية، مهما حاول الإنسان تقييد مشاعره وعواطفه وميوله بإخضاعها لنواظم أخلاقية أو قيمية، خاصة وعامة، فإنه لا يستطيع قتلها بالمطلق، بل هي تنحو إلى نوع آخر من الشغف، حتى لدى الأشخاص الانتحاريين الذين يمكن أن يفجروا أنفسهم مقابل فكرة ما أو عقيدة ما، ومهما بلغوا من الجفاف الروحي، لديهم شغف حدّ التماهي بقيمة آمنوا بها حدّ تقديس الشخصية التي زرعتها في عقولهم، ولهذه الشخصية تأثير كبير تصل حدّ الغواية وتمنح صاحبها كاريزما يرسمها متابعوه في خيالهم له، تكون القوة الأكبر في تماهيهم مع الفكرة التي آمنوا بها واستعدادهم للموت من أجلها.

في المنجز الإبداعي قيمة عالية من الجمال تلامس أرواح المتلقين، وبشكل خاص الشاعر أو الأديب، باعتبار أن الكلمة أداة التعبير الأكثر شيوعًا وفهمًا من بقية مفردات التعبير أو أدواته، فالفنون البصرية عمومًا تحتاج إلى ثقافة خاصة لتهجئتها والإحساس، مثلها مثل الموسيقى أو الغناء، ولديها القدرة على التأثير، فالشاعر الذي يبرع في استخدام اللغة وحياكة صور وأفكار ومشاهد تحمل موسيقى أو تستبطنها، فإنه من أكثر المبدعين تأثيرًا بالآخرين، كذلك الأديب بقدرته على نسج عوالم متخيّلة يبث فيها قدرة عالية على التأثير بالمشاعر، ويرسم شخصيات آسرة يمكن لها الخلود أكثر من مبدعها، لكن في وجدان المتلقي لا يكون هناك افتراق واع بين الشخصية ومؤلفها، لذلك فإن العديد من المؤلفين ارتبط اسمهم بأبطال صنعوهم، كالشاب فيرتر عند غوته، مدام بوفاري عند فلوبير، لوليتا عند نابوكوف، أبطال مسرحيات شكسبير، والشواهد في الأدب كثيرة، هذا ما شكّل حضورًا إشكاليًّا للمبدع في ضمير المتلقين، فهو بالنسبة إليهم هذه الشخصية الغامضة الخلّاقة المبدعة الساحرة، حتى إن الكثيرين وقعوا في نوع من العلاقة العاطفية مع أولئك المبدعين والمبدعات أيضًا، ولو عن بعد أو من طرفهم فقط، فهل سيبقى المبدع حائزًا على هذا الكمّ من التعلق العاطفي فيما لو ظهر في الواقع وبين متلقيّ فنّه كشخصية عادية، بجانبها الإنساني بكل ما يحمل من أبعاد مادية ومعرفية وسلوكية وقيمية وأخلاقية ومبادئ وغيرها، وبكل أهوائه وأمزجته ونقاط ضعفه؟

العالم الافتراضي

إلى تاريخ قريب كان هناك ستار بين المبدع وجمهور المتلقين، منذ ما قبل ظهور الطباعة ثم الصورة والصورة الصحافية، إذ لم يكن بين يدي المتلقي إلّا المنجز الذي يشهره صاحبه، ومع هذا كانت تشتعل العواطف لدى شريحة من الجمهور، أمّا اليوم في عصر الثورة الرقمية، والإنترنت ومنصاته المتنوعة، وتطبيقاته التي تمنح المستخدمين التفاعل المباشر واللحظي، كتابة وسمعًا وصورة وفيديو، فإن الأمر اختلف كثيرًا، فلم يعد الكاتب أو الشاعر أو المبدع، أيًّا كان، متخفيًا خلف جدار سميك لا يصل منه إلى الآخرين غير منتجه الذي يكرّسه كشخصية رفيعة تكاد تصل حد الأسطورة لدى بعضهم، وفي الوقت نفسه فإن هذه الوسائط فتحت أبوابًا أخرى للزيف، أو لازدهار جوانب مخفية من جوانب الشخصية، فإذا استثنينا موضوع الدعاية والتسويق الذي ساهمت مواقع التواصل ومنصات الإنترنت في ازدهاره، يمكننا الحديث عن بعض المواضيع التي تنامت مع توفر هذه المواقع والمنصات، ويمكن اعتبارها تتابعًا وتطورًا لما شاع على نطاق محدود وفرته طرق التواصل قبلها، فكلنا يعرف عن علاقات حب ولدت بالتراسل بين مبدعين ومبدعات، أو بين مبدعين ومتلقين فيما مضى، أمّا اليوم فإن التواصل متاح بسهولة وتزامن، لا يحتاج الأمر أكثر من لمس أيقونة على جهاز ذكي لتنفتح نوافذ وأبواب تودي إلى قصص لا حدّ لاحتمال تحققها، يشعل غوايتها ما تقدم هذه المنصات من إمكانية إشهار صور تخص جانبًا من جوانب الشخصية، الجانب الغاوي الذي يعرف صاحبه كيف يسوّقه ويستثمره، خاصة بالكلمات، فتقدح شرارات الإعجاب والاندفاع نحوه، وزاد في تفاقم الحالة الوضع الراهن للعالم كله خاصة في العامين الأخيرين، عامي كورونا والإرباك الذي رمى البشرية فيه، من حجر وتقييد حريات وسفر وغيره، وما أدى إليه أيضًا من تردي أو هبوط الحالة المزاجية العامة لدى العالم بالمجمل، أضيفت إليه خصوصية ما تعاني منه مجتمعاتنا من حروب وويلات وانهيارات دول ومجتمعات. هذا الوضع فائق التأثير والضغط على النفوس والأرواح أدّى إلى البحث عن حياة بديلة لا تتوفر ضمن المعطيات الموجودة إلّا في العالم الافتراضي. ومن هنا بدأت التحولات، وبدأ اللعب. فالناس عمومًا بحاجة إلى ما يروي أرواحهم التي تجففها الحياة والتجارب بما تترك من وشوم عليها، بحاجة إلى سقاية لتنتعش أرواحهم، فكيف في مرحلة كالتي نعيشها وتجفف منابع الحياة في الواقع والمجاز؟ لو تتبعنا الصفحات التي ينشئها سوريون أو غيرهم في بلدان اللجوء والاغتراب، أو حتى في بلدانهم المأزومة، لوجدنا هذا الخواء الروحي بأعتى صوره، كيف أن مرتادي الصفحات يطرحون همومهم ومعاناتهم، كيف يبحثون فيها عمّا وعمّن يبدد وحدتهم ووحشتهم وعزلتهم وغربتهم ويداوي خيباتهم وإخفاقاتهم وجنوحهم نحو المجاهيل في خوض التجارب والدخول إلى العالم.

لو قُيّض لهؤلاء الواقعين في غرام بعض الشخصيات المبدعة، المأخوذين بسحر اللغة، المخطوفين لعوالم المبدع الخيالية، أن يُعايشوا هؤلاء المبدعين عن قرب، أن يختصروا المسافات، ويهدموا الجدران الوهمية وهالات القداسة التي يضفونها على المبدع، ترى هل ستبقى هذه المشاعر متقدة؟ هل سيتحرّر المفتونون من سطوة الأوهام الجميلة التي حاكتها الكلمات أو اللغة التي يحمّلها المبدع الكثير من غواياته؟ وهل الأفضل بالنسبة إلى المبدع أن يبقى خلف ستار يفصل بينه وبين جمهوره؟ لكن لماذا نفترض أن المبدع منزّه عن أهواء النفس البشرية؟ ألم تقدّم له هذه الوسائط أبوابًا ينفذ منها إلى ما يلامس نرجسيته، أو يعوّض ثغرات في روحه وأن شعورًا بنقص ما لديه؟ ألا يمكن للمبدع أن يعاني من اضطرابات نفسية أو روحية؟ أو هل هو منزّه عن الأخطاء أو الاضطرابات السلوكية؟ هل ما يشهره المبدع على وسائط التواصل هي فعلًا صورته الحقيقية؟ أم إنه واعٍ لما يقوم به من أجل تكريس نجوميته وإرضاء نرجسيته، النرجسية المتوافرة بمستويات لدى غالبيتهم؟

لو قيّض لهذه العلاقات التي وفرتها منصات التواصل أن تخرج إلى الواقع، ويتعايش المبدع عن قرب مع المتيمين به، أو المبدعة، كم من هذه العلاقات سيصمد أمام حقيقة الشخصية المغلفة بطبقات من الهالات الباهرة؟

ربما لا يميز البعض بين المبدع وشخصيته الإنسانية، فيقعون في غرام المبدع كشخصية إنسانية بينما هم واقعون تحت غواية إبداعه، وهذا أمر فائق التعقيد، حتى في الحالات العديدة التي سجلها التاريخ، فمن منا مثلًا يستطيع سبر أغوار جالا، ملهمة سلفادور دالي وزوجته، لنعرف حقيقة ما يعني بالنسبة إليها، وهل شغفها به كان شغفها برجل يحمل كل هذا التناقض والجموح والجنون في داخله وفي سلوكه، أم شغفها بإبداعه الذي يحمل هذا الجموح نحو نسف كل ما هو معهود ومألوف وشائع؟ هل كان لجالا أن تخبرنا الحقيقة فيما لو سألناها الصدق حول علاقتها بدالي، وهل كرهته في لحظة ما؟

أعود إلى مقولة أمي، فقد تمادت في بالي لتشمل نطاقًا أوسع من الجسد، على الرغم من أهميته وأنه سيشكل فيما لو بلغت خيانته حدّ العجز أمامه، مصدر شعور بالذل وانتهاك الكرامة، إلّا أن محبة الآخرين، وخاصة في العلاقات الحميمة والخاصة، تحتاج إلى تفقد الذات وسؤالها عن توازنها بين ما تنادي وتجهر به، وبين ما تعيش في ظلمتها وما تخفي في غرفها السرية، الغرف التي لا تستطيع منصات التواصل الوصول إليها، ولا حتى أسرّة التحليل النفسي مهما ادّعت من بلوغ القدرة والإمكانية العلمية، إنها ببساطة الإنسان بما هو سلوك عفوي ومواقف حياتية تخبر عنه، فإما أن يحبّه الناس أو يكرهونه.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى