الناس

نعمة أم نقمة؟ أن تكون أعزباً في سوريا/ علاء زريفة

“ليش لهلأ ما تزوجت؟ عقبال ما نفرح فيك، وانشالله منشوف ولادك”؛ عبارات كثيراً ما أسمعها خلال حياتي اليومية. البقّال، شوفير السرفيس، الزملاء والزميلات في العمل، الأقارب، وغيرهم كثيرون. وكأنهم يُبطنون تساؤلاً آخر، ألا هو: لماذا لا تدخل هذا الجحيم اليومي معنا؟

فبمجرد أن يعرف أحدهم أنني بلغت سن السابعة والثلاثين من دون زواج، حتى يبادرني ببلاهة بهذا السؤال: لماذا؟

لوهلة أشعر بأنه قادم من كوكب آخر، ولا يعيش معنا في سوريا المنهكة تماماً. من قبل، كنت أستفيض شارحاً، في تعداد الأسباب، معلّلاً ذلك، مرةً بالوضع الاقتصادي الصعب، وأخرى بآثار الحرب. كانت هذه حجةً سهلةً بالنسبة إليّ للتملص من الإجابة لئلا أقع في شرك المجادلة العقيمة حول أهمية الزواج، وحتمية تكوين أسرة وفقاً للعبارة الراسخة عن عدم جدوى الهروب من هذا الالتزام: “كلنا كنا نقول هيك، وبالآخر وقعنا، وما حدا سمّى علينا”. ولذلك صرت مؤخراً أضجر من هذا التساؤل الأحمق، فأقول لمن يسألني عن سبب عزوفي عن الزواج، بأنني نسيت.

حرية شخصية

للحقيقة، عدم الزواج بالنسبة إليّ، يرجع إلى اختياري الشخصي الذي يتعلق بطبيعتي ككاتب، وبأنَّ الزواج هو خيار مرهون بالحب أولاً وأخيراً، ومرتبط بوجود الشريك المناسب عاطفياً وعقلياً، مما هو أوسع من فكرة الزواج التقليدي اجتماعياً. ولأن متطلبات رجل بدأ يدخل في حيطان الأربعين تصبح أكثر تعقيداً وإرباكاً مما قد تكون عليه في سن العشرينات، كذلك يصبح خياراً مخيفاً نوعاً ما من جهة، فقدان جزء من حريتك الشخصية لأن شخصاً آخر أصبح جزءاً أساسياً من حياتك.

كما أني لا أحتمل أن يشاركني حياتي السيئة أحد، وأظلمه معي، لمجرد تنفيذ رغبة الأهل والآخرين بأن تكون لوجودي قيمة اجتماعية ما مثل أن يتوقفوا عن مناداتي باسمي، وينادونني: “أبو فلان”.

لا أنكر أن هاجس الأبوة قد يسكنني أحياناً، فهي مسألة فطرية تتعلق بطبيعتنا كبشر، وأن غصةً ما أبتلعها بحرقةٍ، عندما أشاهد أخي يداعب ويضحك مع ابنتيه. بالتأكيد أفتقد أحياناً سماع كلمة “بابا”، كأي عزب آخر بلغ من العمر عتيّاً. ولكن مسألة الإنجاب هي مسؤولية كبيرة في هذه البلاد، وقد تكون بمثابة جريمة موصوفة. فكيف تنجب طفلاً لا تستطيع حمايته في مجتمع يغصّ بأنواع الجريمة والعنف والفساد، ولا يمكنك أن تؤمّن له ما حُرمت منه أنت في طفولتك؟ كيف تقنعه عندما يكبر بأن للعلم قيمةً، وأن موهبةً ما قد يمتلكها قد تصنع منه شخصاً عظيماً وناجحاً إذا ما كافح واجتهد؟ كيف لي أن أزيّن له واقعاً، بحياة وردية تستحق أن تُعاش، لا أراه أنا.

هل يحتاج العزب إلى خرزة زرقاء؟

أن تكون عزباً في سوريا، فأنت في نظر بعض جمهور المتزوجين شخص مرتاح تعيش على مهل، يوماً بيوم، لا تحمل همّاً، وحرٌّ في سلوكك وتصرفاتك، غير عابئ بالعادات والتقاليد والمناسبات الاجتماعية التي قد تكبّل المتزوج أو المتزوجة، والواجبات التي تثقل كاهلهم/ ن مادياً ومعنوياً، ومشكلات الأبناء وتربيتهم وتعليمهم، وأعباء المعيشة التي تكسر الظهر. هذا كله يحتاج إلى قرض دائم السداد من أعمارهم/ ن، يتطلب شخصاً بسبع أرواح، وعشر أذرع، وأكثر من رئة، وصبر يتجاوز مقدرة أيوب شخصياً، لتؤمّن لأسرتك كفاف يومها، والذي هو سقف طموح أي شخص سوري من الطبقة الفقيرة المهمّشة.

وفي المقابل، قد يكون امتناع بعض الشبان عن الزواج، ليس فقط نتيجةً طبيعيةً لراهن الحرب فيها، وظرفها الاقتصادي القاسي، والكفيل بجعل الزواج أو مجرد التفكير فيه، ضرباً من المستحيل بعيد المنال، وفكرةً مجنونةً بامتياز. وعلى الرغم من عدّ البعض الزواج “مؤسسةً فاشلةً”، وانتشار مظاهر التفكك الأسري، وارتفاع حالات الطلاق بسببه، إلا أن من أولئك الشبان من عاشوا حياتهم طولاً وعرضاً، وملؤوها بالعلاقات السريعة وضروب “المصاحبة”، مستغلين، ومنتقدين في ما بعد، حالة ما يسمونه “الانحلال الأخلاقي”، والانفلات الذي نعيشه اليوم. هؤلاء الذين يرون أنفسهم في رحلة مضنية بحثاً عن ربيبة “الصون والعفاف”، واللي “ما باس تمها إلا أمها”، تلك الفتاة “القنوعة المستورة” التي ترضى بالقليل، وتحتمل شظف العيش في بيوتهم، أو يبحثون مع “شرط العفة السابق”، عن فتاة موظفة للاتّكاء على دخلها كمصدر دخل إضافي.

صورة نمطية لسيناريو نمطي

غالباً ما ترتبط صورة المتزوج في مجتمعنا بأشياء ومكتسبات هي -دائماً- في خدمة الذكر (الحمام الساخن، واللقمة الطيبة، والفراش الدافئ)، كجائزة ترضية بعد يوم عمل طويل، بينما تكون الزوجة هنا مكمّلاً لـ”مشهد العزوبة المتناهية” ذاك، لا تبرز فيه أكثر من كونها خادمةً أو جاريةً، وتالياً، وغالباً أيضاً، ما يُنظر إلى العزب في بلادنا ككائن ناقص اجتماعياً، أو مصابٍ بخلل نفسي أو عاطفي وجنسي، فيريح الشاب “يده” بطلب يد فتاة للزواج وتكوين أسرة، ويصبح بذلك كائناً “تام الدين”، موفور الاحترام من قبل الجميع.

مما لا يقبل الشك فيه، أن الزواج قد يكون “سُنّة الكون” أو “شرّاً لا بد منه”. هذا الطرح قد يبدو منطقياً في بلادٍ طبيعية، بلادٍ لا تلهث فيها كحمار الطاحونة سعياً وراء الرغيف، بلادٍ لا يحتل فيها الهاجس الاقتصادي، وأزمات المعيشة اليومية، وحصار الحاجات الأولى للبهائم التي تخنقك، من مأكل ومشرب.

وتالياً، سيكون ارتفاع نسب العزوبة بين الشباب والشابات أمراً في غاية المنطقية، فغياب الاستقرار المادي، والرواتب الهزيلة، وارتفاع تكاليف الزواج (ذهب، وحفلة عرس، وجهاز عروس، وأثاث منزلي لمن كان محظوظاً وامتلك منزلاً، أو غلاء الإيجارات لمن لا يمتلك هذه الرفاهة)، وحلم السفر هو ما يسكن لبَّ أغلب هذه الفئة بحثاً عن عمل يؤمّن لهم ثروةً صغيرةً بعد سنوات من “الشحشطة والتعتير”، ثم العودة، لبناء عش الزوجية السعيد.

في مقابل هذه السوداوية، هناك نقطة مضيئة تسجَّل لصالح المتزوجين، وبعض “العزّابية” “السناغل”، ممن لا يزالون يعيشون في أحضان أمهاتهم، كون العزب الذي يعيش وحيداً أو مع مجموعة من مكسوري الخاطر من “السناغل”، وحدهم، محرومين من بركات البطاقة الذكية، فهم مضطرون إلى الحصول على خبزهم اليومي بسعر مضاعف عن السعر المدعوم من الدولة، بالإضافة إلى كل الامتيازات الرائعة التي تؤمّنها هذه البطاقة العجيبة لمقتنيها.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى