نقد ومقالات

آني إرنو الفائزة بجائزة نوبل لعام 2022

ويكيبيديا عن المؤلفة

آني إرنو: السياسيّ يُدرَكُ من خلالِ الاجتماعيّ

ألكسندر غيفن

وُلدت آني إرنو، التي توّجت هذا العام بجائزة نوبل للآداب، عام 1940، وهي تنحدر من أسرة متوسطة الحال. كان والدها يشتغل في التجارة. عملت إرنو مدرّسة بالتعليم الثانوي. وتستفيد رواياتها وأعمالها في التخييل الذاتي، وخاصّة كتابها “الأعوام”، من علم الاجتماع في مسعى لفهم التاريخ السياسي والثقافي لفرنسا خلال مرحلة ما بعد الحرب، وأيضًا لفهم القضايا النسوية. اشتهرت إرنو باتخاذها مواقف سياسية، سواء تعلّق الأمر بالرئيس إيمانويل ماكرون، أو بالدفاع عن القضية الفلسطينية، أو دعمها لحركة “السترات الصفراء”.

(*) حدّثينا عن لقائك الأول بالسّياسة؟ هل تذكرين المرّة الأولى التي أدليت فيها بصوتك؟

يبدو لي أن لقائي بالسّياسة قد حصل منذ أن بدأت أعي الأشياء من حولي، وذلك لسبب بسيط. لقد ولدت عام 1940 في النورماندي، في شمال غربي فرنسا. كانت الحرب على أشدها، وكان القصف الذي خلّف العديد من القتلى، ثم جاءت الهدنة. ما زلتُ أتذكّر اللباس الذي كُنتُ أرتديه بألوانه الزرقاء والحمراء والبيضاء، عندما كنا نَحتفلُ بهذا الحدث. أتذكرُ ذلك اليوم الذي رافقت فيه والدتي، وكانت ذاهبة لأجل الإدلاء بصوتها، وذلك الفضاء المعزول المخصص لهذه الغاية، والذي يشبه المكان الذي يُمارسُ فيه الاعتراف في الكنيسة. كانَ والداي يديران مقهىً ومخزنًا للبقالة، وكان مجاورًا للمطبخ، ولا يُوجدُ باب بينهما، وهذا ما يخلق الانغمار في القضايا السياسية، بالتأكيد، بتأثير من الكلمات التي كان العمّال يتبادلونها عندما يرتادون هذا المقهى بصورة دائمة. لقد تأثرت طفولتي ومراهقتي بخطاب سوسيوسياسي من أهمّ علاماته إضرابات صيف 1954 ضدّ جوزيف لانيل/ Joseph Lanile الوزير الأول، والهزيمة في معركة ديان تيان فو/ Dien Bien Phu ، وبالطبع حرب الجزائر. وفي عام 1958، وكان عمري يومئذ 18 عامًا، كنت مع الاستفتاء الشعبي الذي نظمه ديغول/Charles de Gaulle، رغم أنني لم أدل بصوتي، لأن السن القانوي كان 21 عامًا. ويبدو لي أن البدايات الأولى لنقاشاتي الجادّة في ما هو سياسي ترتدّ إلى هذا العام 1958، وخاصّة النقاشات حول الجمهورية الخامسة التي أرادها ديغول. وفي العام التالي، أي 1959، انتقلت إلى صفّ المعارضة ضدّ ديغول، وعبرت عن موقفي المؤيد لاستقلال الجزائر. إذًا، هذه القضايا، وهذه الحرب، وانقلاب الضباط، كلّ ذلك ترك أثرًا قويًا فيّ خلال سنواتي الأولى في الكلية، كما هي الحال أيضًا بالنسبة لعديدٍ من الطلاب في هذه المرحلة. لا يمكن أن أنسى اليوم الذي أدليت فيه لأول مرة بصوتي. كان ذلك في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 1962، خلال الاستفتاء حول تغيير الدستور، حيث تم التنصيص على انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام. أفكّر في كلّ انتخابات رئاسية، مما يعطي مبررًا لتصويتي يومئذ بـ لا. فما ندّد به مانديس فرانس/ Pierre Mendès France، وميتران/ François Mitterrand، ووالديك روشي/ Waldeck Rochet في تلك الفترة، أي تعزيز سلطة رئيس الجمهورية على حساب البرلمان، هو ما حصل.

(*) نشأت في أسرة وفي وسط كانت السياسة فيهما تحظى باهتمام خاص؟ هل كان هنالك تقليد في النقاش والنضال؟ وما هو الهابيتوس الذي نهلت منه؟

بين أفراد أسرتي، ابن عمّي، فقط، هو الذي كان منخرطًا في حزب سياسي هو الحزب الشيوعي. والدايَ لم يكن لهما أي انتماء سياسي، باستثناء تصويتهما لأجل بيير بوجاد/ Pierre Poujade الناشط السياسي والنقابي. ومنذ 1956، كان صوتهما يذهب لفائدة اليسار. وخلال عام 1965، صوتا لفائدة اليسار، وفضَّلا ميتران على ديغول. كانت ذكريات إضراب 1936، وإضراب ليون بلوم/ Léon Blum راسخة بقوة. كان يُنظرُ إلى ليون بلوم بوصفه “جيدًا بالنسبة للعمال”، وهذه العبارة التي كثيرًا ما تتردّد مع نظيرتها “كان من أجل الأغنياء”، تعبّر عن رؤية العالم الكامنة في الوسط الذي أنتمي إليه. كنا ندرك السياسي من خلال الاجتماعي.

الهابيتوس/ Habitus السياسي الذي غرفت من معينه لم يكن واضحا إلى حدّ ما حتى حدود 16 أو 17 من عمري، لأنني كنت أذهب إلى مدرسة خاصّة إلى جانب فتيات من طبقات ميسورة، والمعلمون وجهوا ضربة قوية للمدرسة العلمانية “مدرسة بدون إله”، والشيوعيون والاشتراكيون، بينما في بيتنا، كنا نعيش بشكل متواضع، أفضل من العمال بقليل. هذه هي الحال التي كان عليها والداي. قراءة رواية “عناقيد الغضب” لجون شتاينبك أحدثت لي رجّة قوية، كما لو أن الموقع الخاصّ بي يجب أن يكون في هذا الفضاء الاجتماعي، وبين هؤلاء الناس الذين تصورهم الرواية. ثمة هابيتوس خاص منشق عن الطبقة ومنقسم مثل وضعه. في درس الفلسفة، كان من السّهل أن أقتنع بالتحليلات الماركسية التي كنت أتعرّف عليها من خلال أستاذة المادة. والكتاب الأول الذي أتيح لي أن أقرأه، وبفضل المكتبة الدوّارة التي نظمتها هذه الأستاذة، هو كتاب “الحياة اليومية للعوائل العمّالية”، لمؤلّفه شومبار دولاو، Chombart de Laowe. في هذا الكتاب، وجدت كامل الهابيتوس الاجتماعي الذي يميزنا، كما لم نذكره بعد. هذا معناه، وأنا أتساءل إلى أي حدّ تتعيّن الأوامر والأحكام الصادرة عن الوالدين في الحياة اليومية بوصفها ما يَخلقُ المواقف السياسية. وهكذا، فإن حقيقة أنني كنت أسمع والدتي عدّة مرات تتكلّم بصوت عال عن شعوري بالدونية في ما يتعلّق برفاقي من خلفيات ميسورة: “أنت أكثر قيمة!” هذا الذي كنت أسمعه من والدتي هو بنفس الأهمية، إن لم يكن أكثر أهمية، من أي نقاش بين زميلاتي في الفصل.

(*) تتصل نصوصك بالتاريخ السياسي الفرنسي. أيُّ رؤية لديك عن العقود الأخيرة؟

نشهد تمدّدًا متصلًا، وبلا انقطاع، لليمين، رغم اللحظات التي طبعها اليسار، مثل التعايش بين شيراك وجوسبان عام 1997، وذلك منذ الانعطاف نحو الليبرالية الذي اتخذه ميتران، رجل 1981، وجميع القوانين المتعلقة بالحرية التي جاءت قبل إلغاء عقوبة الإعدام، والأسبوع الخامس من الإجازة مدفوعة الأجر، هذا التمدد لليمين يرسّخنا بقوة في معتقد المنطق الصّارم واقتصاد السّوق، من الصعب التخلي عن الوهم!

هنالك لحظة رئيسة بالنسبة لي، وتتمثل في برنامج “عاشت الأزمة!”، الذي يقدّمه إيف مونتان/ Yves Montand، هذا الرفيق من الحزب الشيوعي الذي يكمن دوره في أن يشرح لنا بشكل أو بآخر كيف يجب علينا الخضوع للنظام الاقتصادي الليبرالي. وبالموازاة مع هذا التمدد لليمين، وسيطرة النظام الاقتصادي الليبرالي، ثمة محو لكل ما هو اجتماعي. لقد بات الشعب بمثابة الشبح بالنسبة للسياسة، باستثناء فترة الانتخابات الرئاسية. ومن الواضح أن هذا الابتعاد عن حياة الناس، وهذا التخلّي الذي يعزى إلى الحزب الاشتراكي وإلى اليمين، قد أدى بعدد مهم من الناخبين إلى التصويت للجبهة الوطنية، التي يعدّ تزايد حضورها شيئًا فشيئًا في المشهد من أهمّ علامات هذين العقدين. لقد عملت الجبهة الوطنية على فرض موضوعاتها: الهجرة والإسلام، وهو أمر ما كان لينتشر بهذه السهولة، لو لم تجد هذه الموضوعات من يتبناها من اليمين واليسار الحاكمين (مانويل فالس على سبيل المثال لا الحصر).

كانت هناك دائمًا إضرابات، أي ما نسميه من الآن فصاعدًا بـ”الحركات الاجتماعية”، لكننا إذا نظرنا في نتائجها، وباستثناء إضراب 1995، مع سحب قانون الحماية الاجتماعية، وإضراب 2006 مع سحب “عقد العمل الأول” CPE، فإننا ندرك أن أيًا منها لم ينجح، على نطاق واسع وطويل بعض الشيء، وهذا اتجاه واضح بشكل متزايد في العقد الماضي، في ظل الرئيسين هولاند/ F. Hollande، وماكرون، E.Macron. لقد صاحب هذا التركيز المستمر على لحظات الثورة الاجتماعية تشديد المراقبة والقبضة الأمنية بصورة متزايدة، وهو السبيل الوحيد لضمان تمرير القوانين لصالح الليبرالية، وإثراء الأوليغارشية المالية.

(*) ما هو تقديرك للحركات الاجتماعية التي عرفتها فرنسا في السنين الأخيرة؟

ينبغي التأكيد على أن هذه الحركات تتواتر بإيقاع سريع، وتستمرّ لمدة أطول من ذي قبل، سواء تعلّق الأمر بقانون الشغل، أو بإصلاح الشركة الوطنية للسكك الحديدية، أو بالمتقاعدين، أو بالاحتجاجات الأسبوعية لأصحاب السترات الصفراء. هذه الحركات تتميز بكون نشاطها يتعدّى حدود موضوعها، إلى الاحتجاج ضدّ السياسة العامة لليمين، وهو ما يخدم الفئات الواسعة من المجتمع. إن تصدّر هذه الاحتجاجات فئات جديدة تشعر أن حقوقها تتعرّض للانتهاك، مثل الطلاب والعمال والنقابيين، وهذا التصدّر يزداد قبولًا، وهو ما يعدّ علامة على درجة السّخط الذي تشعر به فئات واسعة من الشعب.

(*) تضطلعين بمسؤولية اتخاذ مواقف يسارية، ماذا يعني لك اليسار اليوم؟

الحرية، المساواة والتآخي، ولكن المساواة قبل كلّ شيء، لأنها شرط الحرية والتآخي. أين الحرية عندما نعيش في حالة من عدم الاستقرار، وإبعاد المعرفة والثقافة، والإدانة بالعمل ضعيف الأجر؟ التآخي، من دون عدالة اجتماعية، ليس سوى شيء من الخطأ الاعتماد عليه، وليسَ سوى لحظة من الشعور الوطني جوفاء، مثل لحظة ما بعد هجمات 2015 و2016. في الواقع، إن مجال المساواة هو مجال التربية، والصحّة والسكن والعلاقات بين الجنسين، وبين جميع البشر. والأحزاب أو الحكومات التي تسمي نفسها أحزابًا، أو حكومات يسارية، والتي لا تكافح ضدّ ضروب اللامساواة، لا تستحقّ هذه التسمية.

(*) هل النسوية مسألة سياسية؟

من خلال الاشتراط بأنه إذا كان للمرأة الحق في الصعود إلى السقالة، فيجب أن يكون لها الحق في الصعود إلى المنصة، فإن “أولمب دو غوج/ Olympe de Gouges ” تضع مسألة القانون ودور المرأة في المدينة بطريقة رائعة ومأساوية. منذ القرن التاسع عشر، طالبت الحركة النسائية بالحقوق التي تتصل بالحياة المدنية، والتي لا يملكها إلا الرّجال، مثل الحقّ في التصويت، والحق في الدراسة، والحق في ممارسة الوظائف التي كانت محظورة على النساء.

وعندما نتذكّر عدد السنوات والقرون التي استغرقت، حتى تتمكّن النساء، في فرنسا، من التصويت (1945)، ومن فتح حساب بنكي من دون الحاجة إلى موافقة الزوج (1965)، ومن ولوج مدرسة البوليتيكنيك (1972)، وأن يكون في مقدورهن اجتياز الاختبارات الكتابية نفسها التي يجتازها الرجل في امتحانات التبريز (سنوات 1980)، يتضح لنا أن تحقيق المساواة في الحقوق، والتي تتطلب كلّ مرّة تغيير القوانين، كان قضية سياسية رئيسة. وخلال سنوات 1970، ومع الإعلان بأن “الشخصي هو سياسي” بالضرورة، فقد جعلنا من المساحة الخاصّة، وحرية النساء في التصرّف في أجسادهنّ، قضية سياسية.

يبدو لي الآن أن النسوية في صدد تشكيل قوة سياسية في حدّ ذاتها، بتيارات عالمية ومادية، أو متقاطعة. ويهتمّ كفاحها بتأسيس مجتمع مختلف، في العمل والتربية والثقافة والتمثيل السياسي، مجتمع للجميع رجالًا ونساء. النسوية والثورة، إنه برنامج جميل.

(*) لقد اتخذتم مرات عديدة مواقف عمومية، فهل يعد هذا بديهيًا بالنسبة لكم بوصفكم كاتبة؟ وهل من الضروري الفصل بين المواقف؟

الكتابة بالنسبة لي، دائمًا، فعل سياسي بالمعنى الواسع: إنها إعطاء صورة عن العالم، والأفراد، وهي، كما يقول رولان بارت، اختيار المجال الاجتماعي الذي تكتب فيه لغتك. وإذا جاز لي أن أرجع إلى النصوص التي كتبتها، فمن الواضح أنها تتضمّن رؤية واعتراضًا على الوضع الاجتماعي من جهة، ووضع النساء من جهة ثانية، وغالبًا ما يكون الأمران معًا. لقد نشأت هذه المواقف من المشاعر والأحاسيس التي كان من الضروري الكشف عنها في مسعى للبحث عن الحقيقة. وهذه الضرورة هي ما يشجع دائمًا. بالنسبة لي، لا توجد كلمة مجانبة للصواب في ما يخصّ الكلام عن كتبي، وعن “الالتزام” بالمعنى التقليدي الذي ساد بعد الحرب، سوى كلمة “رسالة”. ما يعنيني في كتبي ليس سوى نفسي، وحياتي تمامًا.

(*) هل ينتابك الحنين إلى أدب الالتزام لما بعد الحرب؟

لا. لقد أسهم أدب الالتزام في تكويني، وهنا أفكّر في “دروب الحرية” لسارتر، وفي مسرحه ومسرح كامو، وفي “الشرط الإنساني”، لكنني عندما بدأت الكتابة، وعلى الرّغم من عدم الالتزام بالتأكيد، فإنّ الرواية الجديدة هي التي شدّتني، وهي التي أثارت أسئلتي بخصوص الكتابة.

(*) كيف تقيّمين علاقة معاصرينا بالسياسة؟

إذا انطلقنا من إعادة انتخاب شيراك/ Jacques Chirac على رأس الجمهورية عام 2002، وبعيدًا عن المواجهات والنقاشات التي حصلت خلال الانتخابات الرئاسية، فإننا نلاحظ ما هو أكثر من اللامبالاة تجاه السياسة، وفقدان الإيمان بقدرة الحكومات على تغيير الحياة، وضرب من الاشمئزاز من الوعود المتكرّرة، والتي لم يتمّ الوفاء بها. وفي عام 2005 صوت أكثر من 54% بـ لا في الاستفتاء حول مشروع الدستور الأوروبي، ثم سخر المحتالون من هذا التصويت. حركة السترات الصفراء انبثقت من هذا العجز، ومن الشعور بعالمٍ سياسي، حكامًا وأحزابًا، بعيدٍ عن العالم الواقعي. وفي الوقت نفسه، فالطموح إلى حياة مختلفة ربّما لم يسبق أن كان بهذه القوة منذ 1981.

(*) هل رجال السياسة يتكلمون لغة مختلفة عن لغة الكتاب؟

للكتاب ورجال السياسة استعمال مختلف للغة، وهذا يعود إلى كونهم ينطلقون من غائيات مختلفة. السياسيون يتقصّدون الإقناع، والتأثير المباشر. إنهم يبحثون عن الإجماع الفوري. الجمل التي ينطق بها السياسيون يراد بها دائمًا أفعال. فالقول موصول بالفعل. لغة السياسي لغة أدائية، سواء أعلن عن خفض الضريبة، أو عن حالة الاستثناء، أو عن عالم جديد. بينما لغة الكاتب تتميز بكونها لغة تحريضية، فهي تحثّ على التفكير، والشعور والحلم والتذكّر بطريقة مترابطة. إنها لغة ليست خاضعة لاستبدادية الحاضر، ولا للنتائج التي ينبغي تحقيقها.

(*) ما هي، بالنسبة لكم، الأعمال الإبداعية الكبرى ذات الطموح السياسي؟ وما الذي نتعلمه منها اليوم؟

تثيرني بقوة الأعمال الواسعة، مثل “الحياة والمصير”، لفاسيلي كروسمان/ Vassili Grossman، و”لاستوريا” لـ إلسا مورانتي/ Elsa Morante، التي تلقي بنا في عمق الزمن التاريخي، في الوقت نفسه التي تجعلنا نعيش تعقيداته وصعوباته. هذه الأعمال تحطّم النزعة الفردانية، وما يميز عصرنا أي الحاضر الهائل الموجود في كلّ مكان، والذي لا أفق له سوى نفسه.

لدي، إذًا، ميل قوي نحو رواية “الأحمر والأسود”، و”التربية العاطفية” أيضًا، ولأعمال حيث السياق والأفكار السياسية قد تم اختبارها من قبل الشخصية الروائية، سواء “جوليان سوريل”، أو “فريديريك مورو”. لا شكّ أن أسْباتَ نوفمبر وديسمبر من عام 2019، وثورة السترات الصفراء، كل ذلك جعلني أفكر في الصفحات التي كتبها فلوبير/ Gustave Flaubert عن أيام 1884م. تتيح لنا النصوص إمكانية المقارنة والفهم: نحن أقل تحيّرًا، ولا ندين بالشكل الكافي ما مررنا به من خلال تجربة القراءة.

ترجمة: إدريس الخضراوي.

المصدر:

Alexandre Gefen, La littérature est une affaire politique, Editions L’Observatoire, Pris 2022, pp.100-110.

المترجم: إدريس الخضراوي

ضفة ثالثة

——————————

الترجمات العربية لروايات آني إرنو تعاني مشكلات: النوبلية الفرنسية أعادت للفن الروائي مهمة التأمل في الحياة والمجتمع والطبقات/ عمر شبانة

من خلال أربع روايات أو  أربعة كتب، ومع كتابة آني إرنو عموماً، لا أجد داعياً إلى الدخول في التصنيف الأدبي، إذ يستطيع قارئ نصوص هذه الروائية الفرنسية “النوبلية” الجديدة أن يضع يده على كاتبة عالمية بالمعنى الإبداعي والإنساني، بل كاتبة من مستوى رفيع في تأملها للعالم من خلال ذاتها، كما يبدو ذلك في الكتب التي وجدتها متاحة في الترجمة العربية، وهي “المكان” ترجمة أمينة رشيد وسيد البحراوي (شرقيات، 1994)، “الاحتلال” ترجمة إسكندر حبش، و”انظر إلى الأضواء يا حبيبي” ترجمة لينا بدر، و”الحدث” ترجمة سحر ستالة ومراجعة محمد جليد وهذه كلها صدرت عن  دار الجمل.

كاتبة من أصول ريفية وأبوين عاملين تحوز نوبل، وهي في نظري تستحقها لأسباب، عدا مناهضتها للعدو الصهيوني ومناصرتها للحق الفلسطيني، إذ ثمة سبب مهم أنها إنسانية تستعيد في روايتها “المكان” سيرة والديها (والدها خصوصاً)، منذ كانا عاملين بين المزارع والمصانع وحتى انتقالهما إلى طبقة “وسطى صغيرة” بامتلاك مقهى أو بقالة، ومن خلالهما تستعيد حياتها معهما وحياة مجتمع كامل حتى وفاة والدها. كتابة بسيطة زاخرة بالتفاصيل الجوهرية النابعة من تأملات عميقة في الحياة والمجتمع والطبقات.

كاتبة رفيعة المستوى إذ يستطيع القارئ العربي الوصول إلى هذه القناعة على رغم الركاكة الفظيعة والأخطاء النحوية والإملائية فضلاً عن المطبعية غير المعقولة في الترجمات العربية، ركاكة تنم عن استهتار المترجمين والناشرين معاً. يذكر أنه تمت ترجمة ثماني روايات لآني إرنو إلى العربية، بدأت عام 1994 مع رواية “المكان” ثم تلاها عدد من الترجمات لرواياتها “الحدث” و “الاحتلال” و”البنت الأخرى- لم أخرج من ليلي” و”انظر إلى الأضواء يا حبيبي” و”شغف بسيط” و”امرأة” و”مذكرات فتاة”، لكن الحصول عليها كلها مستحيل في الظروف السيئة التي يعانيها النشر العربي والتوزيع.

الكتابة عن الكتابة

وابتداء ربما لا يستطيع قارئ أو ناقد كتابات الفرنسية “النوبلية” الجديدة آني إرنو تصنيف كتاباتها في إطار جنس أدبي محدد، وإن كانت رواية أم سيرة روائية أو رواية سِيرية أم يوميات ومذكرات، لذا فلا داعي للدخول في هذه التصنيفات التي لن تضيف شيئاً إلى هذه الكتابة الراقية والرفيعة المستوى والملتزمة سياسياً واجتماعياً – طبقياً وثقافياً – أدبياً، ولعل الكاتبة نفسها تنقذنا من هذا المأزق وهي تكتب عن كتابتها.

تكتب إرنو كثيراً عن الكتابة ذاتها لتكون الكتابة موضوعها وليست مجرد أداة فتقول، “بدا لي الكتاب الذي أنا بصدد تأليفه أشبه بمحاولة يائسة. كانت ذكرى تقنعني، كما في لحظات الرعشة الجنسية أو نور برق يشعرنا أن هذا هو الجوهر”. وفي موضع آخر تقول، “شعرت أنني حصلت على الشيء الذي أنشد امتلاكه عبر الكلمات من دون جهد، جاعلة بذلك سعيي إلى الكتابة بلا جدوى، ولكن الكتابة في هذه اللحظة بعد أن اختفى الشعور الذي غمرني تحتاج إلى أهمية (والمقصود اهتمام) أشد قوة إلى درجة أنها تجد تبريرها في الحلم”.

أو ترى أن “التذكر عبر الخيال أو التذكر عبر الذاكرة هو قدر الكتابة”، كما ترى “أن نرى لكي نكتب يعني أن نرى بشكل مختلف، فما أكتبه ليس بحثاً استطلاعياً ولا تحرياً منهجياً إنما يوميات، مما ينسجم على الأكثر مع مزاجي الذي يميل إلى الالتقاط الانطباعي للأشياء والناس والأجواء، كتابة حرة في إبداء الملاحظات والمشاعر محاولة مني الإمساك بشيء ما من الحياة الدائرة هناك”.

وتقول، “بالتأكيد نستطيع كتابة قصص من الحياة من خلال المتاجر الكبرى الشاسعة التي نرتادها، فهي تشكل جزءاً من مشهد الطفولة، المخزن الكبير بالنسبة إلى كل الناس، مكان أليف يتداخل استخدامه مع الحياة، غير أننا لا نقدر أهميته على أساس علاقتنا بالآخرين وطريقتنا في صنع المجتمع مع معاصرينا في القرن الـ 21”.

عمل سياسي

الكتابة في نظرها “عمل سياسي يفتح أعيننا على عدم المساواة الاجتماعية، وتحقيق مهمة أخلاقية وسياسية، وليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة وجعله في النهاية لا يُنسى”، ومن دون ذلك كله يمكننا أن نلمس مواقفها ذات الطابع الطبقي في مواجهة أصحاب رأس المال والإمبريالية المتوحشة، مثلما يبدو ذلك في كتابها/ يومياتها “انظر إلى الأضواء يا حبيبي” (ترجمة لينا بدر، دار الجمل 2017)، التي تقدم فيها مشاهداتها وانطباعاتها عن مخازن التسوق الكبرى (المولات)، وخصوصاً مخزن “أوشان” بكل ما ينطوي عليه من “استهتار” بالإنسان (الزبون) عبر الإغراءات والتحذيرات من الاقتراب أو طرق الدفع واليافطات المرفوعة فوق البضائع.

وفي واحدة من “يومياتها” تقرأ عن حريق شب في مصنع نسيج في بنغلاديش وتسبب في قتل المئات والأكثرية من النساء، ويعود عمل المصنع لمصلحة متاجر كبرى أحدها متجر “أوشان” الذي لا يتدخل في شأن هذه الكارثة الإنسانية، فتقول في هذا السياق إن “الثورة لن تأتي إلا من المستغلين من الطرف الآخر للعالم”.دار

واستطراداً تأتي الكاتبة على ذكر بطاقة للزبائن المخلصين للمتجر، إذ يسألونها عند الصندوق “هل لديك بطاقة الزبون الوفي؟”، فترد بخشونة “لست وفية لأحد”، فهي تستنكر وجود عبارة “إلى زبائننا الكرام” أصلاً لكونها “زبونة حرة”، وتعترف بأن سلوكها “حال من المغالاة العنيدة”، وتصف سلوك المتجر بالقول “ليس هناك أسرع وأدهى منهم ليجعلوك معلقاً بعلامتهم التجارية”.

وإلى ذلك فهي ترى أن المتجر أو المخزن “ينسجم مع التنوع الثقافي لزبائنه ويتابع بدقة شديدة أعيادهم”، وأن هذا هو “عرف التسويق وليس أخلاقاً”.

وتكمل، “لماذا لا نثور، لا ننتقم من الانتظار الذي يفرضه علينا المخزن؟”، وعلى “عالم المخازن الكبرى والاقتصاد الحر؟”، مؤكدة أن “طواعية المستهلكين لا حدود لها”، فضلاً عن أن “العائلة التي أنشأت أول مخزن كارفور في المدينة تأكل في صحون من ذهب”.

وينبغي التأكيد هنا أن ثمة ضعفاً في صياغة جميع الترجمات التي عثرنا عليها، وثمة أخطاء لغوية ونحوية لا يعرف القارئ كيف يتابع معها القراءة، فيتساءل “هل هي ترجمة غوغل وغيره من المحركات؟”، ومن هذه الأخطاء على سبيل المثال لا الحصر، أخطاء في النحو مثل: لا أعرف إن كان اسمه آت (الصحيح: آتياً، خبر كان)، اجتياز إحدى الحواجز (الصحيح: أحد الحواجز)، يغطي رأسه قلنسوة (تغطي)، تزان فوق ميزان (والصحيح توزن)، لا تشتري (تشتر)، عشرة سلع.

وليفسر لنا أحد هذه الجملة، “دون أن ينسوا تسجيل لحظة الدفع على الأرومة” أو “في منتصف بعد الظهر بين أناس يصعدون وآخرون ينزلون على نحو بالكاد مسموع” و”إحضار واحداً” و “إن لديه كلب” و “نحو 50000 قسماً غذائياً” و”عشر أرغفة، عشرة سِلع”، ” و”ملقيةً” (ملقاة)، و”حول الأولاد المتكاثرون” و “تينك الراهبات” (أولئك) و”أرى سيدة وفتاتين ومراهق” (مراهقاً) “لم يشترها ثم “لم يرتادها”، و”كأن ليس هناك كتباً”(كتب).

“الاحتلال” غيرة العاشقة

وبالانتقال إلى كتاب أو يوميات “الاحتلال” (ترجمة إسكندر حبش، دار الجمل، 2011)، كتاب البوح والذكريات، وبحسب قراءتي وقراءة من يعرفون الفرنسية، نجد العجب في الترجمة أيضاً، في أخطاء اللغة العربية تحديداً، فضلاً عن ركاكة في الصياغة، لكننا أمام نص محبوك بصياغة أدبية أيضاً، نص تنشغل صاحبته بمشاعر وأحاسيس امرأة مخدوعة مع عاشق وعشيق، وهي التي انفصلت عنه لكنها بدأت تطارده وتبحث عن عشيقته الجديدة، وتبحث بطريقة مهووسة عبر كل الوسائل المتاحة، لأنه يعطيها عن عشيقته أطراف خيوط غامضة تجعلها أشد اضطراباً في حياتها اليومية وتواصلها مع العالم.

“أكتب الغيرة مثلما أحياها وأنا ألاحق الرغبات وأراكمها، الأحاسيس والأفعال التي كانت أحاسيسي وأفعالي في تلك الفترة، والكتابة في المحصلة النهائية هي كغيرة من الواقع”.

أما أخطاء ترجمة حبش إلى العربية فتتمثل في النحو وبعض ركاكة في الصياغة اللغوية، ومنها على سبيل المثال أيضاً “كلما تراجعنا قليلاً إلى الوراء كلما لاحظنا”، (خطأ تكرار كلما). ولا يجوز القول “ثمانية عشر سنة” حيث الصحيح “ثماني عشرة سنة”، ولا يصح قول “استمرينا”؟ حيث الأصح “استمررنا”، وكيف يمكن أن نقرأ “كانت صورة هذه المرأة تأتي لتجتازني”؟ أليس الأدق لغة القول “تخترقني”؟ وفي الإملاء لا يمكن القول “كنت أنكفأ” (أنكفئ) و”استمرينا” أو “لم أبقى” والصحيح “أبقَ” و “في كل مرة كانت يجتازني” و”أصبحت يداي باردتان” و “في الدائرة الثانية عشر”، أو “هذه الدهشة التي غير المحتملة تقريبا”، وجملة “أكملت اتجاهي باتجاه” وهلم جرا.

الإجهاض المحرم

في كتابها “الحدث” تستعير إرنو من ميشال ليريس مقولة “أمنيتي المزدوجة أن يصبح الحدث مكتوباً وأن يصبح المكتوب حدثاً”، ومن اليابانية يوكو تسوشيما تستعير مقولة “قد لا تكون الذاكرة إلا تحديقاً في الأشياء حتى نهايتها”، وهي هنا تتذكر والدها “في الخامسة صباحاً يحلب البقر وينظف الإسطبلات ويراعي الخيول ويحلب البقر في المساء، وفي المقابل له الكساء والغذاء والسكن وبعض النقود، كان ينام فوق الإسطبل على حصيرة من دون فرش، والحيوانات تحلم وتدق الأرض طوال الليل، وكان يفكر في دار أبويه، مكان محرم الآن. إحدى أخواته خادمة لكل الأغراض، وكانت تظهر أحيانا عند السور بصرتها خرساء، وكان الجد يلعن وهي عاجزة عن أن تقول لماذا هربت مرة أخرى من مكانها، في الليلة ذاتها كان يردها إلى أسيادها ذليلة”.

وعن الإجهاض تقول “كانت رغبتي في الإجهاض توحي بشيء من الإغواء. في الحقيقة كان إجهاضي بمثابة حكاية تبدو نهايتها مجهولة في نظر (أو) و(أندريه) و(جان ت)، “والرجل الذي حملت منه يتركني أتدبر الأمر بنفسي”. وتهدي كتابها هذا إلى “المُجهِضة” التي أجرت لها عملية الإجهاض وتقول، “الهدف الحقيقي في حياتي هو فقط التالي، أن يتحول جسدي وحواسي وأفكاري إلى كتابة، أي إلى شيء ما واضح وشامل، إلى وجودي الذائب بأكمله في أذهان الآخرين وحياتهم”.

وفي “المكان” تبدو مشغولة بحكاية الوالد الأب (والأم)، بدءاً من كونهما عاملين في المزارع والمصانع، ثم انتقالهما ليكونا مالكين لمقهى مع بقالة، يقدمان الطعام والمشروب، نقلة تعني تحولاً من الطبقة الدنيا إلى البرجوازية الدنيا، والارتقاء التدريجي في هذه الطبقة الاجتماعية، مما يسمح بإدخال تعديلات وتحسينات في المقهى والبيت.

وتتحدث عن انتقالها هي من طبقة إلى طبقة، من بنت عامل إلى “عالم البرجوازية المثقفة”، وهي التي عاشت مع أسرتها “صراع الطبقات الاجتماعية السائد في المجتمع بأسره” كما تقول. تكتب “بسرعة فرضت نفسها كواجب، ضرورة الكتابة عن حياة أبي وعن المسافة الثقافية بيننا”، وتكتب بوضوح وبوح ولا تتردد في الإفصاح عن مشاعرها تجاه الفظاظة، فهي تكتب كراوية بين عالمين، وهي الوحيدة التي تمتلك فرصة إعطاء صورة سليمة لحياة رجل “عادي”، لكنها تكتب عن والدها بـ “خجل” لكونه لا يقرأ.

——————————-

آني إرنو الفائزة بنوبل 2022.. الكتابة فعل سياسي

بوعلام رمضاني، سناء عبد العزيز

فرنسا تفوز بنوبل في الأدب للمرة السادسة عشرة

سناء عبد العزيز

منذ فضيحة نوبل الشهيرة، ظهر حرص الهيئة المانحة للجائزة على استرداد سمعتها، وتمثل أولًا في الإطاحة بكل التوقعات والمراهنات المسبقة، حتى وجد البعض أن تلك التكهنات أصبحت من الصعوبة بمكان، سيما بعد أن استعانت الأكاديمية عام 2020 بلجنة من الخبراء من مناطق لغوية مختلفة كاستجابة إلى تحقيق التنوع المطلوب منها. وفي هذا العام تحديدًا ذهبت التوقعات إلى اختيار اسم معروف بعد فوز كل من الشاعرة الأميركية لويز غلوك والروائي البريطاني من أصل تنزاني عبد الرزاق قرنح وما ترتب عليه من بروزهما إلى دائرة الضوء وترجمة أعمالهما التي لم تحقق قبل نوبل الانتشار الواسع، وكان من ضمن التوقعات هذا العام الأميركية جويس كارول أوتس، والفرنسيتان آني إرنو وماريز كوندي، والكندية مارغريت أتوود. وبالفعل أعلنت الهيئة المانحة أمس الخميس فوز الكاتبة الفرنسية آني أرنو بنوبل 2022، وهي واحدة من أكثر المؤلفين شهرة في بلادها، وأول كاتبة فرنسية تفوز بالجائزة منذ فوز باتريك موديانو في عام 2014، وبالتالي تصبح إرنو المرأة السابعة عشرة التي تتوج بنوبل منذ انطلاقها عام 1901، والفائز الفرنسي السادس عشر في تاريخ الجائزة المرموقة.

وقال عنها أندرس أولسون، رئيس لجنة التحكيم، إنها “تفحص باستمرار، ومن زوايا مختلفة، حياة تتميز بتباينات شديدة فيما يتعلق بالجنس واللغة والطبقة”.

بين الرواية والسيرة الذاتية والواقعية

وُلدت إرنو عام 1940 ونشأت في بلدة ليلوبون شمال شرقي فرنسا. بدأت مشروعها الأدبي بروايتها “خزائن فارغة” عام 1974، لكن كتابها الرابع “مكان الرجل” 1988 هو ما اعتبر حقًا بداية إنجازها الأدبي، أما الفضل لشهرتها على نطاق واسع، فينسب إلى سيرتها الذاتية “الأعوام” التي حازت إعجاب النقاد وفازت بجائزة رينودو عام 2008 وأدرجت في القائمة المختصرة لجائزة البوكر الدولية عام 2019. والتي أُطلق عليها “أول سيرة ذاتية جماعية” وأشاد بها الشاعر الألماني دورس غرونباين باعتبارها “ملحمة اجتماعية” رائدة في العالم الغربي المعاصر. وقال عنها الناشر جاك تيستارد “تحفة فنية بلا شك، إرنو تبتكر هنا شكلًا جديدًا في الأدب؛ يقع بين الرواية والسيرة الذاتية والواقعية”.

وعلى الرغم من الطابع الذاتي تلقي إرنو في “الأعوام” نظرة حية على المجتمع الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. مستبدلة الذاكرة التلقائية للذات بصيغة الغائب من الذاكرة الجماعية، وهو ما يشير إلى هيمنة روح العصر على حياتها بأكملها. ربما لم تلتفت إرنو في مشروعها الكتابي إلى القضايا الكبرى، أو الأوضاع السياسية المتردية، ولكنها لم تغفل عنها في ذروة انشغالها بالتنقيب في حياتها الخاصة كطفلة وشابة وكل ما يتعلق بها من أحداث حتى موت والدها ووالدتها، كما لم تخجل من تناول أدق خصوصيتها كعلاقتها برجل من أوروبا الشرقية في روايتها “العاطفة البسيطة”، أو سنوات مراهقتها وتجاربها الجنسية الأولى في “إما ما يقولونه، أو لا شيء” وكذلك عملية الإجهاض التي أجرتها في فرنسا في الستينيات في “الحدث”، وفترة زواجها في “المرأة المتجمدة”، ومرض الزهايمر في “لم أخرج من ليلي”، وسرطان الثدي في “استخدام الصورة”، وهو ما جعل البعض يقارنها بمارسيل بروست في بحثه عن الزمن المفقود بالرغم من افتقارها إلى ذاكرة عاطفية بالمعنى البروستي تسمح لها بالحكي عن نفسها مباشرة في سنواتها الأولى.

على جانب آخر، قورنت أيضًا بسيمون دي بوفوار، مع تباين الخلفية الاجتماعية للمرأتين وحقيقة أن إرنو تنحدر من طبقة عاملة لولا أن نجح أبواها في انتشال الأسرة من الحياة البروليتارية إلى الحياة البرجوازية عن طريق حيازة محل بقالة ومقهى.

في كتابها “مكان الرجل” قدمت إرنو صورة نزيهة لوالدها والبيئة الاجتماعية التي شكلته، الأمر الذي راحت تستكمله في “العار” بإضفاء المزيد من الرتوش على ملامح والدها في محاولتها لتفسير ثورته على والدتها في لحظة معينة في الماضي، وهو ما تستهله بهذا السطر المثير: “حاول أبي قتل أمي ذات يوم أحد في شهر يونيو، في وقت مبكر من بعد الظهر”. بعد بضع سنوات، رسمت إرنو بورتريه مؤثر لوالدتها في “قصة امرأة” تنقلت فيه بين الخيال وعلم الاجتماع والتاريخ، ومع الإيجاز الشديد، اعتبر هذا الكتاب بمثابة تكريم رائع لامرأة قوية تمكنت أكثر من الأب من الحفاظ على كرامتها في ظروف صعبة.

لست روائية رغم كل شيء

ترى إرنو، على الرغم من أسلوبها الكلاسيكي المميز، أنها “عالمة إثنولوجيا على طريقتها الخاصة” وليست كاتبة روائية، وتشهد كتابتها بالفعل على تأثرها الشديد بعالم الاجتماع بيار بورديو، ومع ذلك، هناك أيضًا بُعد سياسي مهم في لغتها. ودائمًا ما يكتنف كتاباتها شعور بالخيانة تجاه الطبقة الاجتماعية التي انفلتت منها. تقول إن الكتابة فعل سياسي يفتح أعيننا على عدم المساواة الاجتماعية. ولهذا الغرض تستخدم اللغة “كسكين”، كما تسميها، لتمزيق حجاب الخيال، وفي هذا الطموح العنيف للكشف عن الحقيقة، تعتبر إرنو، حسب توصيف أولسون، وريثة جان جاك روسو.

حلاوة الفوز

وصفت إرنو فوزها بالجائزة بأنه “شرف عظيم” و”مسؤولية كبيرة” وأضافت: “إنه بمثابة شهادة عن شكل من أشكال الإنصاف والعدالة فيما يتعلق بالعالم”. وتبلغ قيمة الجائزة 10 ملايين كرونة سويدية (840 ألف جنيه إسترليني)، تمنح إلى “الشخص الذي أنتج في مجال الأدب عملًا متميزًا في الاتجاه المثالي”، وإن ذهبت في بعض الأعوام إلى كُتّاب خارج النطاق المألوف للأدب، مثل هنري بيرغسون عام 1927، وونستون تشرشل عام 1953، وكاتب الأغاني بوب ديلان 2016، لأنه “خلق تعبيرات شعرية جديدة ضمن تقليد الأغنية الأميركية العظيمة”. وكان من بين المرشحين لها هذا العام أيضًا الروائي الفرنسي ميشال ويلبيك، والكاتب الكيني نجوجي وا ثيونجو الذي يتم ترشيحه للجائزة منذ عام 1998، والشاعرة الكندية آن كارسون، والكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي حيث ذهبت التكهنات بقوة إلى احتمال فوزه بسبب الحادث الإرهابي الذي تعرض له مؤخرًا.

جدير بالذكر أن مؤسسة نوبل قررت دعوة الفائزين هذا العام إلى أسبوع نوبل في ستوكهولم في كانون الأول/ ديسمبر مع الفائزين بها في عامي 2020 و2021، ومن المقرر إقامة حفل توزيع الجوائز في 10 ديسمبر المقبل، ذكرى وفاة نوبل.

*****

جمعت بين الكتابة الأدبية والتحليل الاجتماعي وأيّدت القضية الفلسطينية

 بوعلام رمضاني

لم ينلها كما توقعت الدوائر المتخصصة سلمان رشدي، الهندي الأميركي الذي اشتهر عالميًا منذ أن صدرت فتوى اغتياله، وأكثر منذ أن طعن في رقبته مؤخرًا، ولا ميشال ويلبيك الفرنسي الذي اشتهر بروايات التمزق الحضاري الغربي، والحكايات الجنسية، والتخويف من قرب بروز حكم إسلامي في وطن موليير وبودلير، ونالتها أني إرنو (82 عامًا) التي أدرج اسمها في مرتبة ثالثة مع أسماء روائية أخرى غير فرنسية.

والفرنسيون الذين يعيشون في خريف متسامح على إيقاع أخبار إجراءات الحد من استهلاك الكهرباء نتيجة الحرب التي ما زال يشنها بوتين، واعتقال فرنسيين في إيران، انتظروا حتى الساعة الواحدة ظهر أمس، لكي يتغير مجرى الأخبار السياسية القاتمة الطاغية، وينعمون بضجيج مستحق عن سفيرتهم الأدبية الجديدة التي أصبحت الفرنسية الأولى الحاصلة على أشهر الجوائز العالمية في مجال الرواية. منذ ظهر أمس، وحتى هذه اللحظة، تغير مجرى الأخبار التلفزيونية بتخصيص حيز معتبر للكاتبة المسنة الشقراء التي ظفرت بإعجاب أعضاء الأكاديمية السودية “بأسلوبها الكلينيكي الدقيق الذي عكس روحًا سردية جافة وبسيطة نابعة من أعماق حياة شعبية وذاكرة حقيقية ورفضًا ثوريًا وراديكاليًا لمحافظة اجتماعية مضادة للمرأة وللحرية بوجه عام”. أني إرنو التي نالت إعجاب أعضاء الأكاديمية الملكية السويدية، أثارت خلافات في استديوهات الإذاعات والقنوات التلفزيونية بسبب ما وُصف بأنه أسلوبها البسيط وغير “النبيل” نقديًا، إذا استندنا إلى أدبيات الروايات الشهيرة، وتفسير بعض المعلقين المتخصصين سبب نيلها الجائزة العالمية بنزعتها الفكرية وتعمق مسار تحرر نسوي غير مسبوق من وطأة الكتمان والتردد في فضح الرجال المسيطرين. ورغم اتهامه بالتغطية على رفيق درب سياسي صفع زوجته، كان زعيم اليسار جاك ميلنشون أول من ابتهج بفوز إرنو التي كانت وما زالت من أنصار ومناضلي توجه حركته “فرنسا غير الخاضعة”. يجدر التذكير أن الإعلان عن فوز إرنو بجائزة نوبل يصادف الذكرى الخامسة لتأسيس حركة Me too النسوية.

وريثة سيمون دي بوفوار

أني إرنو ـ التي أضحت كاتبة نسوية وثورية راديكالية معروفة أكثر منذ أمس تؤمن بالصراع الطبقي خلافًا لنسويات مخمليات أخريات ـ خرجت من العباءة الأيديولوجية لسيمون دي بوفوار رفيقة درب جان بول سارتر، كما أنها من المدافعات عن حق المرأة في الإجهاض وعن مقولة “لا تولد المرأة امرأة، بل تصبح كذلك”.

لم يكن جاك ميلنشون وحده من الأوائل الذين نوهوا بفوز إرنو بالجائزة السويدية الشهيرة، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كتب هو الآخر تغريدة تعكس سعادته بفوز مبدعة فرنسية قبل كل شيء. الأمر نفسه ينطبق على روزلين باشلو، وزيرة الثفاقة اليمينية السابقة، التي جاهرت بخلافها الأيديولوجي مع الروائية الراديكالية الفائزة والمنتجة الجديدة لفخر فرنسي يجمع الإخوة الأعداء باعتبارها منفعة عليا تتجاوز كل أشكال التوجهات الأيديولوجية في وطن الأنوار. أما الإعلام الفرنسي فلم يتوقف عند تأييد إرنو للقضية الفلسطينية ولحركة “الإنديجان” التي تترأسها الجزائرية الأصل حورية بوثلجة، المتهمة بمعاداة السامية، ككل من يتجرأ على وصف الكيان الصهيوني بالمغتصب لأراضي شعب أعزل. ناقد ثقافي واحد يعمل في مجلة les incorruptibles اليسارية أشار إلى ذلك بسرعة خاطفة بقوله “تميزت أيضًا بموقفها النقدي حيال إسرائيل”.

بين الأدب والتحليل الاجتماعي

صحيفة “لوموند” التي تبقى وفيّة لرصانتها برغم تراجعها النسبي توقفت، بقلم الصحافية رفائيل ليريس، المحررة في قسم الكتب، عند خصوصيتها الإبداعية المتفردة والجامعة بين الكتابة الأدبية والتحليل الاجتماعي، الأمر الذي يفسر تأثرها وإعجابها بالمفكر الاجتماعي الراحل الكبير بيار بورديو. هذه الخصوصية ليست نتاج تخيل ذاتي، بل هي ثمرة تجارب حياتية عاشتها إرنو طفلة في بيت والدين مالكين لدكان مقهى في الوقت نفسه، وهو الدكان الذي يقصده العام والخاص لشراء المواد الغذائية الضرورية وقضاء ساعات تعكس حياة يومية شعبية. عاشت الكاتبة لاحقًا مراهقة في مجتمع رفضت قمعه لحرية نساء من حقهن أن يعشن حياتهن العاطفية كما يردن، ولطبقية معادية للعدالة وداعية إلى خطاب فكري وأدبي يميز ضد ويهين الفئات الاجتماعية الضعيفة. إرنو التي عكست كل ذلك في رواياتها، هي الروائية التي يعترف معظم القراء والنقاد في الوقت نفسه بقدرتها على نقل واقع المعاناة الاجتماعية بكل أشكالها. أعطت الصحافية الفرنسية مثالًا على التزامها الاجتماعي الذي يؤكد تموقعها في مفترق طرق بين التحليل السوسيولوجي والأدب بقولها: “ما زالت مدينة لأستاذتها في مادة الفلسفة، والتي راحت تولي في الخمسينيات كل العناية اللازمة لتدريس 25 تلميذة جزائرية كن يعشن في حي قصديري بمدينة روان”. ومضت الصحافية الفرنسية تقول كاشفة عن هوية ومواقف الظافرة بجائزة نوبل للأدب ظهر أمس: “دليل مناهضتها للأدب المخملي أو ما يسمى بالنبيل القائم على محاور الزمن والذاكرة والنسيان، رفضها المرتقب لدخول سلسلة “لابلياد” الشهيرة التي تكافئ الكتاب الكبار، وكتحصيل حاصل رفضها الوارد أيضًا لدخول الأكاديمية الفرنسية. ما كان يهمها، هو الكتابة أدبيًا عن حياة العمال الكادحين في المحلات التجارية الشعبية وفي المقاهي، وعن الأغاني الشعبية وعن المضطهدين من الرجال والمضطهدات من النساء في الوقت نفسه”.

عن أني إرنو الكاتبة التي توظف صيغتي الكتابة بالضمير المتكلم والمخاطب لتبرير خياراتها السردية الملتزمة اجتماعيًا، قال المخرج الألماني توما أوستايمر لصحيفة “ليبراسيون” بعد التعبير عن سروره بحصولها على جائزة نوبل للأدب: “كل كتبها تجسد مناهضة موصوفة للتفرقة الجنسية والطبقية، وهي بذلك لا تنتمي للتقليد الكلاسيكي الذي ينص على مكافأة روائيين بعيدين عن عالمها الفكري، وعليه هي أبعد ما تكون عن البرجوازية”. في نظر المخرج الألماني المذكور “حصولها على أشهر الجوائز يدل على تغير في عالم الثقافة، وإرنو ليست امرأة فقط، هي تنتمي للطبقة العاملة، وبذلك هي تمدنا بإمكانية مكافحة العنصرية الاجتماعية والطبقية والجنسية”. وتابع: “ما تكتبه إنساني النزعة، ولم يكتب أحد قبلها قصة شابة تعيش حياتها العاطفية والجنسية كما كتبتها في رواية “الأعوام” ضمن منظور العارف بالحياة الشعبية اليومية، والمندمج في أعماق المجتمع”.

برنار هنري ليفي، صاحب القميص الأبيض والثروة الكبيرة الذي يدافع عن إسرائيل في كل استديوهات الدنيا تلفزيونية كانت أم إذاعية، وحده انفرد باستياء لافت. برنار حزين لأنه كان يفضل فوز سلمان رشدي من باب تكريس كاتب أقرب إلى الآنية السياسية الملتهبة والملحة، وهو أجدر في تقديره بجائزة نوبل هذه السنة من إرنو التي لا تدافع عن إسرائيل في كل الحالات مثله.

ضفة ثالثة

———————————-

سنوات آني إرنو.. جمال وحكمة وحساسية/ محمد صبحي

ديفيد إرنو-بريوت، الابن الأصغر لآني إرنو، استعاد قبل بضع سنوات أفلاماً منزلية قديمة صوّرها والده فيليب إرنو بين عامي 1972 و1981. ثم اقترح على والدته كتابة نصّ يكون بمثابة تعليق على أرشيف العائلة وتقوم هي نفسها بتحريره. والنتيجة قطعة فنية صغيرة طولاً (60 دقيقة)، تتضح فيها ثيمات أعمال إرنو على مدار الستين عاماً الماضية، إذ تبدأ فيها، كما في كتبها، من حياتها الخاصة وتجربتها الحميمة، لاستعادة ذاكرتها الشخصية، وفي الوقت ذاته للعثور على نقاط الاتصال التي تربط هذا المجال دائماً بالسياسة.

تعدّ آني إرنو (1940، ليلبون – فرنسا)، الفائزة بنوبل للآداب لهذا العام، من أشهر الكتاب الفرنسيين في جيلها. اقتبست السينما عدداً من أعمالها، آخرها “عشق بسيط” للبنانية دانيال عربيد، و”الحدث” لأودري ديوان، الفائز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا العام الماضي. في عملها الأدبي كتبت بصراحة شديدة عن حياتها وتجاربها الشخصية. هذا العام، بعدما جاوزت الثمانين بعامين، جرّبت يدها في السينما أيضاً، فأنجزت بالمشاركة مع ابنها ديفيد أول أفلامها، بعنوان “سنوات السوبر 8 مم”، عُرض في مهرجان كانّ السينمائي هذا العام ضمن قسم “نصف شهر المخرجين”.

بدأ كل شيء في أحد أيام العام 1972، في الوقت الذي وصل فيه التلفزيون الملون إلى فرنسا وعندما كان جورج بومبيدو في رئاسة الحكومة. اشترى فيليب إرنو كاميرا سوبر 8 مم لتوثيق جوانب من رحلات أسرته. في تلك السنوات، لم تكن آني إرنو قد نشرت كتابها الأول بعد، وانتقلت الأسرة إلى آنسي، وهي بلدة هادئة في الشتاء وسياحية للغاية في الصيف. إرنو واحدة من الكتّاب(الكاتبات) العظماء الذين تناولوا ثقل ذاكرة العائلة، وعملها بمثابة سيرة ذاتية رائعة للحظات ولحظات تعكس الزمن، وأسلوب الحياة، والأحزان الصغيرة للطبقة الوسطى الفرنسية.

“سنوات السوبر 8 مم” فيلم بسيط للغاية ولكنه جميل ومؤثر. تقدّم إرنو صوتاً إلى صور زوجها الذي انفصلت عنه في النهاية. وينتهي الأمر بتأريخ تلك الإزاحات الزمنية أن يكون تأريخاً لحسرة انفصال وبهجة انفتاح طريق جديد. يحلّل الصوت الشاعري للكاتبة رحلاتها عبر أجزاء مختلفة من العالم من سانتياغو تشيلي، في عهد بينوشيه، إلى الاتحاد السوفيتي في عهد بريجنيف، مروراً ببامبلونا الإسبانية. ثقل الصور التي هي أيضاً جزء من الذاكرة، يرشح عبر رحلاتها، حيث تراقب نفسها من موقع الآخر، من مسافة حدّدها مرور الوقت. رحلة دامت أكثر من عشر سنوات أشبعت فيها كاميرا سوبر 8 شاشة من الذكريات وقدّمت الكاتبة للسينما فصلاً آخر من عملها الأدبي الهائل.

Video Player

يتكون الفيلم من أفلام مصورة على شرائط 8 مم صوّرها زوج إرنو للعائلة في السبعينيات وأوائل الثمانينيات. معظمها عبارة عن أرشيف لعطلات العائلة يُظهرها هي وأطفالها في رحلاتهم إلى مدن أجنبية. هناك أيضاً لقطات لمنزل العائلة في آنسي ولاحتفالات كريسماس عائلية فخمة. في تلك الأيام، كان يُنظر إلى آني إرنو كزوجة وأمّ نموذجية من الطبقة الوسطى أكثر من كونها عملاقة أدبية في طور الإعداد (عملت حينها كمعلّمة للأدب في مدرسة ثانوية). يرافق اللقطات الفيلمية المنزلية تعليقٌ صوتي من كتابة وقراءة إرنو نفسها، ومن خلاله تقدّم شرحاً تفصيلياً حول متى ولماذا صُوّرت كل هذه اللقطات.

 يستحضر العنوان الفرنسي الأصلي لهذا الفيلم، رواية “السنوات” (لم تترجم بعد إلى العربية)، التي يُحتمل أن تكون أكثر روايات المؤلفة نيلاً للإعجاب والتقدير. تجمع أعمال إرنو بين سيرتها الذاتية ونظرة اجتماعية إلى الأحداث المعاصرة. في باكورتها الإخراجية تفعل الشيء نفسه. فالفيلم عائلي بامتياز، يتألف من لقطات حميمة مُرتَّبة زمنياً، تعكس أحداث الحياة التي وقعت خلال تلك الفترة، بما في ذلك نشر روايتيها “الخزائن الفارغة” (1974) و”المرأة المجمَّدة” (1981). تصف الأخيرة زواجها من فيليب إرنو، الذي صوّر معظم اللقطات المدرجة في الفيلم، وانفصلت عنه في أوائل الثمانينيات.

عندما انفصلا، أخذ زوجها الكاميرا فيما ترك إرنو كـ”وصية” على الأفلام العائلية الصامتة المصوّرة، الشاهدة على حياتهما معاً. عاودت إرنو زيارتها مؤخراً، وهذا الشعور بالنظر إلى الوراء بعد مرور فترة طويلة من الزمن يتخلّل الفيلم، مع صوتها/ تعليقها الذي يبدو بعيداً، وحزينًا، ورتيباً تقريباً طوال الوقت. كما لو أن كل المشاعر المرتبطة بهذه الصور قد اختفت منذ فترة طويلة. الصور نفسها في الغالب عامة. فهي عائلية، وهناك هدايا الكريسماس وزيارات للأقارب ورحلات إلى الخارج. فيليب ليس مصوّراً موهوباً بالفطرة. حتى تلك البلدان المثيرة للاهتمام لعيون القرن الحادي والعشرين (تشيلي، ألبانيا، روسيا) تقدّم القليل من الإثارة. في المغرب، يبقون عن طيب خاطر داخل حدود المنطقة السياحية؛ في ألبانيا، أُمروا بالقيام بذلك. في كل حالة، يمكن التنبؤ بالصور على حد سواء.

لا تذكر آني إرنو الأحداث التاريخية، والرؤساء الفرنسيين المتعاقبين، وما إلى ذلك، ولكنها تزوّد تعليقها بقليل من السياق أو التقييم. فهي تشعر بشيء من الانفصال عن الصور، وتعاملها معها، بل وحتى تبدو متحذلقة في بعض الأحيان، كما هو الحال عندما تلاحظ في وقت لاحق أن ألمانيا الغربية بدت هادئة بشكل ملحوظ بالنسبة لها، بعد عام من سجن قادة جماعة الجيش الأحمر Baader-Meinhof، ما يضفي ثقلاً سياسياً قسرياً على رحلة شخصية بسيطة عبر الحدود.

في أوقات أخرى، تدخل في تاريخها الشخصي، أين كانت في ذلك الوقت، وكيف شعرت، وعملها على كتابها الأول في الخفاء (لم تجرؤ على إخبار زوجها)، والشعور بأن والدتها تحكم عليها وما إلى ذلك. لكن هذه التعليقات موجزة، وتقريباً – وإن لم تكن تماماً – منفصلة عن مقاطع الفيديو المنزلية العادية في عمومها. هناك بعض المحاولات لزيادة تأثيرها العاطفي من خلال التلاعب بالصور، مثل تثبيت كادر ما، ولكنها قليلة ومتباعدة جداً بحيث يكون لها تأثير شامل. قد يكون لهذا الإحساس بالانفصال علاقة أيضاً بالجودة الأدبية للتعليق الصوتي. يميل أسلوب إرنو، كما هو الحال في كتاباتها، إلى الحيادية والموضوعية بعيداً من إصدار الأحكام. بالحديث عن نفسها بصيغة الغائب، كما فعلت في رواية “السنوات”، تعمد الى إبعاد ذاتها الحالية عن ماضيها.

تُظهر بعض المواد المصوّرة إرنو وعائلتها يقضون وقتاً ممتعاً ذات صيف في لندن، بالتنزه في الحدائق أو بالقيام برحلة في نهر التايمز على متن قارب. بشكلٍ عابر تقول إرنو إن زيارتها السابقة للمدينة لم تكن شاعرية إلى هذا الحد. في العام 1960، حين كانت لا تزال شابّة في العشرين، عملت الكاتبة كمساعدة منزلية في فينشلي (Finchley)، مقابل الطعام والإقامة ومصروف الجيب. كانت فترة بائسة من حياتها بدأت فيها معاناتها مع الشَرَه المَرَضي، وحتى إنها انغمست في سرقات صغيرة من المتاجر.

لكنها تتوقّف عند هذا الحدّ في كلامها. لماذا لم تخض في مزيد من التفاصيل حول ما اختبرته ذات يوم في لندن، ففي الأخير كانت هذه هي الفترة التي بدأت فيها كتابة روايتها الأولى، ومثل هذه المراحل الحياتية مهمة في حياة أي كاتب أو فنّان. ردّها على هذا السؤال أوضحته في المؤتمر الصحافي الذي أعقب عرض الفيلم في مهرجان كانّ السينمائي في مايو/أيار الماضي، بقولها “كتبت كتاباً عنها. لهذا السبب، في الفيلم، لم أستغرق المزيد من الوقت للحديث عنها”.

وبالفعل، فقد تناولت إرنو هذه الفترة من حياتها في إحدى رواياتها التالية بعنوان “مذكرة فتاة” نُشرت في العام 2016. في هذه الرواية، كما في أغلب أعمالها، تجترح إرنو كتابة شخصية وجريئة بالغوص في ذاكرة أرادت نسيانها، بالعودة إلى صيف 1958، ومرّتها الأولى مع رجل، تلك التجربة التي ستنتشر موجاتها وارتداداتها بعنف في جسدها وعلى وجودها لمدة عامين لاحقين.

أما عن فترتها الكابوسية في لندن فتقول عنها: “كانت الأشهر الستة التي أمضيتها في إنكلترا حلقة سلبية في حياتي… في الواقع، الفتاة التي كانت معي، عندما سرقت من المتجر، قُبض عليها. حتى إنني قدّمت إفادة كاذبة في المحكمة للدفاع عنها… في الوقت ذاته، كان ذلك عندما بدأت في الكتابة… “في إحدى حدائق فينشلي، بدأت الكاتبة الشهيرة العمل على رواية، وأنهتها أيضاً. كانت لحظة أساسية في حياتها الإبداعية.

 من خلال العمل على إنجاز التعليق على الفيلم التسجيلي، ابتكرت إرنو أسلوبها الخاص. تقول: “كتبت النصّ وفقاً للأفكار التي اقترحها ابني ديفيد. ما فعلته هو أنني حاولت مشاهدة كل تلك اللقطات [سوبر 8] مرة أخرى. ما فعلته هو أنني قمت بتدوين الملاحظات. فتحتْ هذه الملاحظات مسارات مختلفة لانعكاسات وذكريات مختلفة”. كانت الخطوة التالية هي إيجاد نظام للمادة، عبر الحرص على جعل النصّ “حرّا وطليقاً” من دون فجوات سردية أو إهمال للحظات المهمّة في سبيل الحفاظ على تدفقه السلس حتى النهاية.

ينجح الفيلم إلى حدّ بعيد في هذه المعادلة. ما هو في حد ذاته سجلٌ ساحر نموذجي للأفلام المنزلية الجيدة يصبح يوميات حزينة وحميمة ومؤلمة للغاية بفضل قلم وصوت آني إرنو، التي جعلت كتابات سيرتها الذاتية عن عائلتها وحياتها أحد المحاور الرئيسية لجودة وشهرة أعمالها. لإرنو، اليسارية، النسوية، الأمّ، المثقفة والكاتبة المعبودة في بلدها؛ تستعيد هنا حياتها بين الثلاثينيات والأربعينيات بمنظور يبعد مسافة نصف قرن يسمح لها بالتأمّل مع إيماءة لخيبة أملها في الأشياء التي آمنت بها (أيار 68، أليندي، ميتران، مؤسسة الأسرة) وفي حالات عديدة انتهت بالفشل. يوميات فيلمية تختزن جمالاً وحساسية وحكمة.

——————————-

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى