صفحات الثقافة

روسوفوبيا وإسلاموفوبيا: هل «الغرب» قادرٌ فعلاً على تجاوز رُهابه؟/  محمد سامي الكيال

تثير الأنباء عن تصاعد ما يسمى بـ«الروسوفوبيا» بعد الحرب الأوكرانية، كثيراً من الجدل. وتشكّل، إلى جانب ادعاءات القيادة الروسية عن حربها ضد النازية العائدة، جانباً مهماً من مبررات المواجهة التي تخوضها موسكو ضد «الغرب» عموماً. الخوف المرضي من كل ما هو روسي، حسب هذا المنظور، ليس طارئاً في الدول الغربية، بل يمكن رده إلى حقب مغرقة في القدم، ربما منذ انقسام المسيحية إلى كنيستين شرقية وغربية. ومن ثم الحملة الصليبية الرابعة بين عامي 1202 و1204، التي اجتاحت الدولة البيزنطية الأرثوذكسية. وبعدها بروز الإمبراطورية الروسية بوصفها وريثة بيزنطة، عقب سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين. ويضاف إلى هذه «الروسوفوبيا» ما يمكن تسميته «السوفيتوفوبيا» أي عداء كل ما يُذّكر بإرث الاتحاد السوفييتي، المٌصنّف غربياً، في أواخر الحرب الباردة، بوصفه «إمبراطورية الشر».

الحديث عن مثل هذا الرُهاب يجعل المشكلة بين روسيا والغرب نوعاً من تصفية الحسابات التاريخية والحضارية والدينية، أكثر من كونها مجرد صراع جيوستراتيجي بين دول كبرى. ويبدو شبيهاً بما يتم تداوله عن «الإسلاموفوبيا» بوصفها تكثيفاً لمشكلة غربية مع الحضارة الإسلامية عموماً. ما يدفع البعض للتساؤل عن قدرة الغرب على قبول الاختلاف الفعلي، ومدى ميله لإقصاء واستبعاد، وأحياناً تدمير وإبادة «الآخر».

إلا أن التركيز على الروسوفوبيا يبدو مبالغاً فيه لدرجة كبيرة، فباستثناء بعض الحوادث المحدودة، التي تبدو أنسب لإثارة اللغط على وسائل التواصل الاجتماعي، ما زالت الثقافة الروسية تحتل موقعها في الجامعات والمؤسسات الثقافية الغربية، لدرجة أن السفير الأوكراني في ألمانيا قاطع حفلة تضامن موسيقية رسمية مع بلاده، تمت برعاية الرئيس الألماني ذاته، لكثرة العازفين الروس فيها.

لا ينفي هذا وجود استقطاب كبير في الدول الغربية ضد روسيا، لكنّ هذا الاستقطاب لا يتخذ شكل هيستيريا هوياتية تجاه كل ما هو روسي، بقدر ما يبدو نوعاً من التعبئة العامة ضد خصم سياسي وعسكري فعلي، يمكن لـ»الغرب» أن يضحي بجانب من رفاهه لضرورات المواجهة معه. وهو ما لم يكن وارداً حتى في عز الحديث عن الإسلاموفوبيا، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. فلماذا يبدو الرهاب الغربي من الروس مختلفاً عن رهاب الإسلام الشهير؟ ولماذا يلعب الجانب الرمزي، أكثر من الجانب السياسي والاستراتيجي المباشر، الدور الأكبر في المواجهة المفترضة بين الغرب والإسلام؟ هل لأن روسيا بالنسبة للدول الغربية أقلّ «آخرية» من العالم الإسلامي، أم لأنها، على العكس، تشكّل نقيض «الغرب» الفعلي؟

لا جدوى الاندماج

برز كثير من الدراسات، خاصة بعد أحداث الحادي عشر سبتمبر، في سياق إعادة تأويل المشكلة بين الإسلام والغرب. وبالاعتماد على تراث مدرستي نقد الاستشراق وما بعد الكولونيالية، توصّل أصحاب تلك الدراسات إلى النتيجة التالية: قامت الذات الغربية أساساً على تعيين «الآخرية» عن طريق وسم مناطق ومجموعات بأكملها بالاختلاف الجوهري عن «الغرب» وإلصاق مجموعة من الخصائص والسمات الدونية بها، ومن ثم إقصائها أو اضطهادها على أساس تلك السمات. بهذا المعنى المشكلة ليست في اختلاف غير الغربيين، وعدم قدرتهم على التأقلم والاندماج بالثقافة والقوانين والمؤسسات الغربية، بل في «الغرب» نفسه، ومنظوماته في بناء «الاختلاف» ومن ثم التفاخر بـ»التسامح» معه. لن تؤدي محاولات غير الغربيين للاندماج في المنظومة الغربية إلى نتيجة جدية، مهما تم قبولهم و»تمكينهم» مؤسساتياً، لأنهم سيبقون دوماً الآخر، ضروريَ الوجود للحفاظ على الذات الغربية. الأجدى تفكيك مفهوم «الغرب» نفسه، لكي يقبل اختلافاً لا يقوم على ثنائيات جوهرية بين ذات وأخرى. وعندما تنتهي العنصرية المؤسساتية فلن يبقى «الغرب» الذي نعرفه موجوداً.

الإسلاموفوبيا إذن في عمق تعريف «الغرب» لذاته، ولن تزول إلا بزواله، أما الروسوفوبيا فشأنها مختلف، فعلى الرغم من كل المعارك التي خاضتها الدول الغربية ضد روسيا في القرون الماضية، إلا أن الهوية والثقافة الروسية لم تكونا نقيضاً جذرياً للغرب، ولم تساهمها في تعريفه لذاته بشكل جوهري. إذ لا يمكن الحديث عن أدب أو موسيقى أو سينما، أو حتى علوم غربية، مع تجاهل الإسهامات الروسية في كل هذه الميادين. اندرج الروس، رغم كل تحفظاتهم وهواجسهم المحلية، في مشروع الحداثة الغربية، فلم يشكّلوا «نقيضاً» بقدر ما كانوا «منافساً» ربما لا يتمتع بكثير من الكفاءة. إنهم الخصم الذي يمكن دائماً إرجاعه إلى حجمه الطبيعي، بخلاف الإسلام، الذي يشكل تهديداً وجودياً.

إلا أن هذا المنظور يعاني من مشكلات كثيرة، أولها وأهمها أن محاولات تفكيك «الغرب» لمصلحة إبراز صوت غير مُستلب للإسلام، لا تلقى معارضة كبيرة في المؤسسات الغربية، التي من المفروض أنها أشد المتضررين من مواجهة «العنصرية الهيكلية الغربية». على العكس من ذلك، نرى أن دراسات تفكيك «الغرب» مدللة جداً في تلك المؤسسات، وأمسى الأساتذة، الذين يشنون هجومهم على «الغرب» في قلب التيار الثقافي الرئيسي، متمتعين باحترام وحيثية كبيرة. فيما يحتاج المرء لشجاعة استثنائية كي يبدي موقفاً مخالفاً لما يقرره التيار الرئيسي بخصوص الصراع مع روسيا.

يمكننا اليوم أن نرى جموع المصلين المسلمين تؤدي صلاة التراويح في «تايمز سكوير» في قلب نيويورك، فيما يبدو تخيّل متظاهرين من الجنسية الروسية يرفعون صور بوتين في الميدان نفسه أمراً شديد الصعوبة. ربما كان «الغرب» يحتفي بقدرته على قبول الاختلاف، كي يُبقي على «آخرية» من اعتبرهم مختلفين، لكنه يعاني بشدة في قبول من لا ينشد الاختلاف «الحقيقي» بقدر ما يريد المنافسة في ميادين التماثل والنديّة، أي الميادين التي يعتبرها الغربيون في صلب «خطيئتهم» التاريخية تجاه الآخر: التحديث؛ آلة الحرب الضاربة؛ المنافسة في الطاقة النووية وغزو الفضاء ومحركات الصواريخ، وغيرها من الأمور التي تجعل غزو روسيا ليس بسهولة غزو دول إسلامية مثل أفغانستان والعراق.

فلسفة الاحتقار

ربما لا يكون من التجنّي بهذا المعنى القول إن نقد الحداثة، ضمن المؤسسات الثقافية والأكاديمية الغربية، ليس أكثر من احتقار للذات: يمكن لأساتذة من مختلف الأصول العرقية والثقافية أن يوغلوا في انتقاد «الغرب» ثقافياً، وتفكيكه رمزياً، دون أن يشكّل هذا أي خطر فعلي على المنظومة القائمة في دوله. الأمر أشبه بالتسامح مع أحاديث الأطفال والعجزة. فالمرء يحتاج لفظاظة استثنائية كي يشغل باله بما يقوله أشخاص لا يعتبرهم أنداداً له، خاصة إذا كان قولهم يساهم في توسيع نفوذه، وزيادة رأسماله الرمزي. الحرية في «الغرب» تؤهلك أن تكون أستاذاً جامعياً معادياً لـ»الهيمنة» بمرتب محترم، لكن ماذا سيحدث إن اتخذت موقفاً قد يُفهم منه أنك مؤيد، أو حتى متسامح، مع من لا يمكن احتقارهم ببساطة: المهندسون والجنرالات الذين يملكون قرار تشغيل القاعدة الصناعية والترسانة النووية الروسية مثلاً؟

لهذا فقد يكون بإمكان «الهيمنة الغربية» قبول الآخرية الفعلية، أي أن تكون مختلفاً فعلاً عن العناصر التي تشكّل أساس تعريف «الغرب» لذاته، لكن من الصعب عليها قبول من ينافسها في هويتها نفسها. بمعنى أن «العنصرية الغربية» لا تبدي خشية كبيرة من تفكيكها ثقافياً، لكن التهديد الحقيقي قد يكون مادياً، بالمعنى الأبسط والأكثر ابتذالاً لمفهوم «المادة»: الإمكانات التي قد تجعل خصمي يطردني من بقعة جغرافية ما؛ يضغط عليّ في عائداتي وأرباحي؛ يقلّل قدراتي بوصفي مرجعية مالية في الاقتصاد العالمي.

جموع المصلين في «تايمز سكوير» رغم إيمانها الكبير، لا يمكنها فعل هذا. أما الروس فيشكلون تهديداً، حتى لو كان ضئيلاً. ولذلك قد تكون «الروسوفوبيا» رغم عدم تناقضها الجذري مع الحداثة الغربية، هي الهاجس الفعلي لـ»الغرب».

المنافس الضعيف

لا يعني هذا أن روسيا تشكّل تهديداً فائقاً للهيمنة الغربية، فأداء موسكو يبدو متعثراً في معظم الملفات، وربما كانت الهزيمة الروسية، سياسياً وأيديولوجياً واقتصادياً، وحتى عسكرياً، شبه حتمية، ولذلك فقد يكون رهان المتفائلين بسياسات القيادة الروسية خاسراً بالضرورة. قد يكون الأجدى عدم التعويل على هذا المنافس الضعيف والخاسر، بل إدراك الحداثة «الغربية» بوصفها واقعة كونية، ليس الخلاص منها إلا دعوات على هامش الحداثة نفسها. فيما مضى كان المنافس الجدي للعنصرية والتهميش ليس مجرد قيادة قمعية، تمتلك آلة حرب حديثة، لكنها غارقة في الأوهام الجيوستراتيجية، بل قوى وأيديولوجيات تحتفي بكونها الأكثر أمانة لقيم الحداثة، وربما «الغرب» نفسه: تنظيمات عمالية، تطلّب دمجها في النظام القائم كثيراً من التنازلات من قبل المنظومة الرأسمالية؛ ثورات تحرر وطني، غيّرت الخريطة العالمية، ودمرت الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى؛ حركات حقوق مدنية، لم تقم إلا بتوسيع إلا ما اعتبره «الرجال البيض» حقاً أصيلاً لهم، وجعلته ينطبق على كل البشر، على اختلاف أعراقهم وأجناسهم.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى