صفحات الثقافة

فيتش التمييز أو في أهمية التطهير الثقافي للماضي/ محمد سامي الكيال

يمكن اعتبار أطروحة كارل ماركس عن «فيتشية السلعة» واحدة من المفاهيم الأكثر تأثيراً في الثقافة المعاصرة، فقد انبنت عليها عشرات النظريات والمقاربات، ليس في المجال الاقتصادي فحسب، بل أيضاً، وربما بشكل أكبر، في مجال التحليل الاجتماعي والنقد الثقافي. الفيتشية السلعية، بالمعنى الأبسط، هي إعطاء خصائص للمواد المُصنّعة، المعدّة للتداول السلعي في الأسواق، يجعل قيمتها تنبع من سمات ذاتية مفترضة فيها، وليس من العمل الاجتماعي الذي أنتجها. وبهذا تصبح السلع أشبه بأوثان تتمتع بقدرات سحرية، تغطي على قوى وعلاقات الإنتاج الموجودة في مجتمع معيّن. ما يساهم في مزيد من اغتراب المنتجين عن منتجاتهم، وجعلها مسيطرة عليهم، بدلاً من أن يكونوا هم المتحكمين بما يصنعونه جماعياً.

عملت مدارس فكرية عدة لاحقاً على التنويع على الفكرة وتطويرها، خاصة في مجال التحليل الأيديولوجي، فالبشر لا ينتجون فقط سلعهم المادية، بل لغاتهم وثقافاتهم وأنماط تواصلهم، ليس عبر عملية متعلقة بالروح/العقل على النمط الهيغلي، بل بعملية إنتاج اجتماعي، لا تختلف جوهرياً عن صناعة السلع المادية، وترتبط بها، من خلال تهيئتها لسيرورة إعادة الإنتاج Reproduction، أي الشروط الأساسية لتجديد القوى العاملة، والظروف التي يعي فيها البشر رغباتهم وميولهم وأنماط استهلاكهم، وهذه العملية بدورها مجال للفيتشية، إذ تُنتزع الرموز الثقافية والعواطف والمفاهيم العامة من سياقها الاجتماعي، وتصبح أوثاناً، ذات خصائص سحرية، تهيمن على «الحس السليم» للبشر، وتخفي العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي صاغتها، ما يمكن اعتباره المهمة الأساسية للأيديولوجيا المهيمنة، التي تدّعي وجود كلمات ورموز وعلامات معينة، مقدّسة أو مدنّسة، قادرة بذاتها على التأثير في حياة الناس، وتحويلها من حال معيّن إلى وضع أفضل أو أسوأ، وبالتالي يمكن للعمل السياسي والثقافي الاكتفاء بالتركيز على هذه العلامات، وتصحيح اللغة وأنظمة الترميز السائدة، لتحسين أوضاع الفئات المهمشة، أو حتى لقلب هرم السلطة القائم.

لا نتحدث هنا بالتأكيد عن أيديولوجيا قروسطية ما، تسبغ السحر على العالم عن طريق العلامات اللغوية التي تصفه، بل عن الأيديولوجيا المعاصرة، وبالتحديد ما يسمى «الصواب السياسي» و»ثقافة الإلغاء» التي تم انتقادها كثيراً في السنوات الماضية، من منظورات متعددة، بوصفها تنصرف إلى تنقية أساليب الخطاب، بدلاً من تغيير الشروط المادية للعنصرية والتمييز. إلا أن هذا النقد يبقى قاصراً ما دام يعتبر مشكلة الصوابية مقتصرة على التركيز على اللغويات، بدلاً من الماديات، دون توضيح العملية الأيديولوجية المعقدة التي تنبني عليها، أي كيف تحوّل الأيديولوجيا المعاصرة علاقات اجتماعية معينة إلى فيتشات؟ ولماذا تنجح بهذا في شرط تاريخي حديث، من المفترض أنه لم يعد قابلاً للصيغ السحرية في النظر إلى العالم؟

سحر التمييز

باتت أيديولوجيا مكافحة التمييز خطاباً رسمياً للمؤسسات الأساسية في الدول الغربية، بما فيها المؤسسات التي يمكن اعتبارها «النظام» بكل ما في الكلمة من معنى، مثل البيت الأبيض أو وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. ومن غير المنطقي اعتبار أن تبنّي النظام القائم لمكافحة التمييز مجرد ركوب للموجة أو استغلال لمطالب الفئات المهمشة، فخطاب قابل لـ«الركوب» لهذه الدرجة يحتوي بالتأكيد على عناصر متسقة بنيوياً مع آليات اشتغال مؤسسات السلطة.

عندما تكون مكافحة التمييز شاغلاً للمؤسسة السائدة نفسها، التي من المفترض بديهياً أن تكون الجهة المسؤولة بنيوياً عن التمييز، يصبح الأمر أقرب لمفهوم «جهاد النفس» الإسلامي، أو حتى مبدأ الاعتراف الكنسي: توجد وساوس شريرة في ذات النظام، تدفعه، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، إلى ممارسة التمييز، ولذلك عليه دائماً أن يجاهد نفسه، ويعترف بخطاياه بشكل دوري، لينال الغفران، الذي سيظل البحث عنه مستمراً في الحياة الدنيا، التي لن تخلو من التمييز يوماً. مبدأ «العدوان المصغّر» يوفّر أساساً ممتازاً لهذا المنظور، فالتحيزات غير الواعية، والعبارات والسلوكيات والممارسات الجزئية والصغيرة، التي تتضمن إهانةً وتحقيراً واعتداءً معنوياً على أفراد الجماعات الضعيفة أو المهمشة، لن تنقطع أبداً في التواصل اليومي الاعتيادي بين البشر. ولشدة «صغر» ذلك العدوان فكشفه وتحديده متعلّق بالإحساس الذاتي للضحايا، ويرتبط بتجارب اضطهادهم الذاتية، صعبة الترجمة إلى لغة ومنطق عموميين.

ورغم أن أنصار أيديولوجيا مكافحة التمييز المعاصرة يتحدثون عن «عنصرية هيكلية» و«ماضٍ استعماري» يفسّران الوجود الشيطاني الدائم للتمييز في كل قول وسلوك ممكن، إلا أنه من الصعب تحديدهما بشكل ملموس. فما العلاقات الاجتماعية القائمة، أو البنى الإنتاجية، أو المؤسسات السياسية التي تؤدي لكل هذه المظالم والاضطهاد؟ لا إجابات واضحة. وهو أمر متوقع، فكيف بالإمكان الحديث عن بنى صلبة تنتج التمييز، إذا كانت مؤسسات وهياكل النظام القائم نفسها من يموّل ويدعم مكافحة التمييز؟ ربما لهذا يبدو الحديث عن «أحاسيس» و»تحيزات غير واعية» أكثر مناسبة.

بعض التيارات، التي تُحسب على «اليسار» تتحدث عن دور الرأسمالية في إنشاء وترسيخ بنى التمييز، إلا أن «الرأسمالية» نفسها هنا تصبح أشبه بكيان شيطاني، تُعلّق عليه كل خطايا الكون، وهو منظور مخالف لأي تحديد جدي لمصطلح «الرأسمالية» بوصفه تجريداً نظرياً حول منظومة من العلاقات الإنتاجية، يفيد بفهم تشكيلات اقتصادية – اجتماعية متنوّعة ومختلفة، وتحديد تناقضاتها، وليس دالاً على مؤسسة شريرة، أو مؤامرة لإنتاج الذكورية والعنصرية ورهاب المثلية.

التمييز، الذي يدعي ناشطون كثر معاناتهم منه اليوم، لم يعد أكثر من فيتش ذي خصائص سحرية، لا يشير فعلياً إلى أي وقائع اجتماعية، بل أشبه بتميمة تعطي من يرتدونها سمات الضحية الطاهرة، ومدخلاً للحصول على فتات الدعم والامتيازات المتاحة.

تطهير الماضي

سعى الإنتاج الثقافي دوماً في الشرط الحداثي إلى الإحالة لمعنى ما، أو حتى إلى اللامعنى، في سبيل إعطاء رؤيا معينة عن الواقع أو الوجود، أو الأسئلة الاجتماعية والأخلاقية الكبرى، أي أنه اهتم دوماً بالكشف أو التوضيح أو إعادة البناء والتركيب، إلا أنه في شرط أصبحت فيه الرموز والمفاهيم أشبه بعلامات سحرية، تعلّق عليها أحكام الصواب الأخلاقي، صارت الثقافة ميداناً للتصحيح الدائم، أي كيفية جعل التعبيرات اللغوية والبصرية بريئة من كل دنس.

وفقاً لهذا المنطق، يقدم التراث الثقافي منجماً خصباً للتطهير الأخلاقوي: لدينا موروث هائل من الأعمال، التي أُنتجت في ظروف «جاهلية» بمعنى الكلمة، أي قبل أن تصبح مكافحة التمييز الأيديولوجيا الرسمية للعالم المعاصر، وبالتالي يمكن العمل عليها بلا نهاية، وجعل مهمة «الناقد» إظهار مدى الأذى والعدوان، الذي يشعر به نتيجة التعرّض لها.

من جديد يمكننا أن نلاحظ أن التراث الإنساني لم يعد معبّراً عن علاقات اجتماعية، أعطت المعنى للجماليات، وأساليب التعبير، وأنظمة المعنى السائدة في عصر ما، بل شروعاً بالاعتداء على ضحايا اليوم، وهو اعتداء يتمتع بكثير من السمات السحرية، فهو عابر للتاريخ، وكذلك للشروط الاجتماعية للحاضر، وقادر بحد ذاته على إلحاق الأذى وخلق التحيزات وأنماط العدوان المصغّر. ولهذا ليس من المستغرب أن ينبني جانب من التلقي المعاصر لظاهرة فنية – سياسية، مثل أعمال الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، على معايير أيديولوجية شديدة التبسيط، أي مدى تعبيرهما عن «ثقافة الاغتصاب»؛ وأن يصبح النقد والتحليل مقتصرين على النجاح بضبطهما متلبسين بتهمة الذكورية، حسب بعض التعليقات الصادرة مؤخراً، على وسائل التواصل الاجتماعي، من بعض الأوساط العربية المتأثرة بالصوابية الغربية.

الأيديولوجيا المكشوفة

قدم المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك تحديداً لمّاحاً لطبيعة الأيديولوجيا المعاصرة: يتمتع البشر في أيامنا بوعي كافٍ، يجعلهم يدركون الاستغلال الأيديولوجي للقيم الأخلاقية، بما فيها قيم مكافحة التمييز والحفاظ على البيئة ومناهضة الذكورية، واتخاذ مسافة منها، إلا أن هذه «المسافة» بالذات هي ما يضمن التزام الجميع بالأيديولوجيا السائدة، دون أن يحمّلوا أنفسهم عبئاً أخلاقياً بتبنيها، ويجعل لسان حال كثيرين هو التالي: «نعلم أنه يتم استغلال هذه القيم، لكن…».

إلا أن المشكلة ليست فقط في استغلال قيم أخلاقية نظيفة من قبل مؤسسات النظام السائد، بل في الطابع الأيديولوجي المخاتل لهذه القيم، الذي يقوم، حسب جيجيك، على منح نوع من الراحة الأخلاقية للذوات الفردية، التي تسلك كما هو مُفترض منها سلطوياً، دون أن تُثقل ضميرها بأي فعل تمييزي وشرير، أو بمسؤولية إعادة إنتاج المنظومة القائمة.

بهذا المعنى فإن جموع المتظلمين من التمييز والتراث الثقافي المليء بالذكورية والعنصرية، يظهرون بوصفهم ضحايا عالمنا المليء بالشرور، في حين أن معظمهم من الفئات الأكثر امتيازاً، خاصةً من يُمنحون المنابر للتعبير، وغيرها من ميزات «التمكين» وهم غالباً «النظام» نفسه، الذي يتباكى دوماً من كونه ضحية النظام، وهذا هو «السحر» الأكثر إبهاراً للأيديولوجيا المعاصرة، الذي يحتاج نزعه إلى كثير من الجهد الفكري والاجتماعي.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى