أبحاث

السؤال الوطني الملحّ في الذكرى العاشرة للثورة السورية/ عبد الباسط سيدا

من أسوأ مساوئ حكم حزب البعث في سورية، خاصة في حقبته الأسدية السوداوية المستمرة منذ نحو نصف قرن، أنه قضى على الحياة السياسية الفاعلة في البلاد، وهي الحياة التي كان من المفروض أن تجسّد وجهات نظر مختلف القوى والشرائح المجتمعية ضمن أحزاب التزامها الأوسع مصالح الشعب والوطن؛ فأساء بذلك إلى بنية المجتمع السوري، وأحدث فيه تشوهات وتغييرات قيصرية قسرية، ما زالت جروحها ملتهبة، ومضاعفاتها مستمرة.

سعى الحزب المذكور، الذي تأثر كثيرٌ من رواده ومؤسسيه بالأفكار والممارسات الفاشية والنازية في بداية الأمر، للمزاوجة بين التوجهين القومي والاشتراكي، بأكثر صيغهما تطرفًا وفوقية واستهتارًا بطبيعة الظواهر المجتمعية والواقع المجتمعي السوري المشخص، والجهل بهما. ثم كان التأثر بالنموذج الستاليني في الحكم الذي فرض على الاتحاد السوفيتي نمطًا مخابراتيًا شموليًا في الحكم، استخدمه في قمع معارضيه على جميع المستويات، بل مارس صيغة من الهندسة المجتمعية التي تمثلت في اقتلاع مجموعات سكانية كبيرة، لاعتبارات قومية أو غيرها، من مناطق سكناها الأصلية، وتهجيرها إلى مناطق أخرى بعيدة، بهدف خلخلة البنية المجتمعية، وإشغال الناس، وذلك للحيلولة بينهم وبين المطالبة بالحرية والديمقراطية.

وكما هو معروف، تمكّن ستالين من التغطية على دكتاتوريته وجرائمه من خلال التغني بالمآثر الاقتصادية، كما كان يفعل نظام حافظ الأسد، التي أنجزها في خططه الخمسية المعروفة بعرق الناس ودمائهم، وهي الخطط التي أدت في نهاية المطاف -بفعل الفساد والقمع- إلى الانهيار الاقتصادي الكارثي، بالرغم من الموارد الطبيعية والبشرية الهائلة التي امتلكتها روسيا والدول التي كانت تشكل جزءًا من الاتحاد السوفيتي، أو تلك التي كانت تخضع لهيمنته.

ما ألحقه حزب البعث من أضرار بسورية يتمرّد على الحصر؛ فقد دمّر المجتمعَ الأهلي الذي كان قد تشكل في مختلف المناطق السورية، في المدن والأرياف على مدى قرون، وكان يقوم بوظيفة الحفاظ على التوازن المجتمعي، ويسهم في إيجاد المخارج الكفيلة بحل المشكلات بكل أنواعها وعلى جميع المستويات، هذا بالرغم من وجود سلبيات كان يمكن التخلص منها، معالجتها، عبر إجراءات قانونية متوازنة.

والأمر الذي كان يميّز هذا المجتمع الأهلي هو أن زعاماته وشخصياته الفاعلة كانت قد تمكّنت من فرض نفسها من خلال كفاءاتها ومزاياها الشخصية التي تؤهلها للقيام بأدوارها القيادية؛ إذ كانت قد حصلت على قبول أوساطها المجتمعية بها، واقتناعها بقدرتها على خدمة المصلحة العامة. ويُشار هنا إلى الزعامات المجتمعية والدينية وإلى الشخصيات المتميزة من التجار والزراعيين والصناعيين وأصحاب “الكار”، كما يُشار إلى الأكاديميين والمثقفين والمبدعين الذين كانوا يسهمون في عملية التغيير التدريجي لواقع المجتمع، وبما يتناسب مع قدراته وإمكاناته.

وكانت اللقاءات بين هذه الفعاليات تتم بكل حرية وأريحية، في أماكن كانت قد غدت جزءًا فاعلًا من الفضاء العام. كانت تتم في الجوامع والمضافات وفي مجالس العزاء، وفي الأفراح ومناسبات الأعياد، كما كانت تتم في النوادي والجمعيات والجامعة، إضافة إلى الأمسيات الثقافية والفنية، وفي دور السينما والمقاهي… إلخ.

ولكن الذي حصل هو أن حكم البعث الذي تسلطت عليه مجموعة متصارعة لديها شراهة سلطوية غير اعتيادية، متأثرة بصورة سطحية بدائية بأفكار فاشية ونازية وستالينية، تفتقر إلى اطلاع معرفي مقبول على التراث العربي والإسلامي عمومًا، وتجهل تاريخ المنطقة وطبيعة وأبعاد ومآلات الصراع المحتدم عليها.

قضى حزب البعث على فاعلية المجتمع الأهلي السوري، عبر إجراءات التأميم المتهورة، وإجراءات “الإصلاح الزراعي” التي مثّلت الحقّ الذي أرادت به باطلًا، وذلك بهدف إبعاد الخصوم المحتملين أو المتخيلين، وعبر تحويل الدولة إلى دولة أمنية تتحكّم في مفاصل المجتمع ومصاير الأفراد. وغالبًا ما كانت الشعارات المستخدمة في هذا السياق تركز على معاداة “الرجعيين والخونة”.

وفي الوقت ذاته، لم يسمح حكم البعث بظهور مجتمع مدني، كان من شأنه أن يسدّ الفراغ الذي أحدثه تغييب المجتمع الأهلي، ويؤدي دورًا أكثر فاعلية وعصرية على صعيد بناء الجسور بين مختلف المكونات المجتمعية السورية، وتعزيز العلاقات بينها على أساس الثقة المتبادلة واحترام الآخر المختلف، وكل ذلك ضمن إطار الوحدة الوطنية التي تُطمئن الجميع، وتضمن حقوق الجميع من دون أي استثناء.

وكان من شأن هذا المجتمع، في حال وجوده، أن يكون صلة الوصل بين المجتمع والسلطة، وأن يحول دون حصول صدام مباشر، وذلك عبر الضغط على مراكز القرار والمسؤولين، وبيان ضرورة مراعاة حاجات الناس ومطالبهم في أثناء اتخاذ القرارات، وشرح أبعاد الصعوبات والضغوط التي تعانيها السلطة للمواطنين، وذلك من أجل العمل المشترك على تجاوزها، والبحث عن المخارج الأقلّ ضررًا وخسارة، بل الأكثر فائدة.

ولكن الذي حصل كان هو العكس تمامًا؛ فقد تحولت الجمعيات والنقابات وكلّ منظمات المجتمع المدني إلى وجه من أوجه النظام؛ تحكّمت فيها الأجهزة الأمنية بالتعاون مع حزب البعث الذي بات هو الآخر مع الوقت محكومًا من قبل الأجهزة المعنية، ولم يعد دوره سوى واجهة لإضفاء المشروعية على نظام الحزب الواحد، ومن ثم القائد، ليصل في نهاية المطاف إلى الزعيم القائد، والمعلم الأول في كل شيء.

ولاستكمال لعبة السيطرة الأمنية على الدولة والمجتمع بكل مفاصلهما، أوجد حافظ الأسد بدعة “الجبهة الوطنية التقدمية” بقيادة حزب البعث، وعضوية الأحزاب الشيوعية والناصرية والاشتراكية العربية التي تحولت مع الوقت إلى مجرد واجهات شكلية للتعمية مقابل امتيازات شخصية، وفتات سلطوي وهمي، كان يستخدم في غالب الأحيان لتضليل بسطاء الناس، والتضييق على المثقفين والناشطين، ممن كانوا سابقًا من مؤيدي تلك الأحزاب، ومصدرًا لقوتها ضمن الأوساط الشعبية.

والاصطدام العنيف بين السلطة والسوريين الذين خرجوا، بكلّ مكوناتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم، في سائر المناطق السورية، للمطالبة بالإصلاح والتغيير، كان مردّه في جانب كبير منه عدم وجود أيّ دور فاعل لمؤسسات المجتمع الأهلي أو منظمات المجتمع المدني؛ كان من شأن ذلك الدور التخفيف من هذا التصادم، والدفع نحو تدوير الزوايا، وإيجاد المخارج.

ولم تتمكن النخب السورية الوطنية الحريصة على شعبها وبلدها من التواصل كما ينبغي، بل ظلت تعيش مناخات انعدام الثقة، والخشية من ردات أفعال الأجهزة القمعية، وتعاني وطأة الشعارات الثوروية التي سرعان ما أخذت بعدًا طائفيًا مقيتًا، خاصة في مرحلة العسكرة. إذ بات الصراع بين الميليشيات المذهبية التي أدخلها النظام بالتنسيق مع راعيه الإيراني وبين الجماعات الإسلاموية المتطرفة التي أسهمت في إجهاض ثورة السوريين، هو الوجه الطاغي. الأمر الذي أفقد الثورة السورية زخمها الوطني الذي كان يعبّر عن تنوع المجتمع السوري وتطلعاته. كما شوه صورة الثورة السورية أمام الراي العام العالمي، وهو الأمر الذي استفادت منه الحكومات التي لم تكن أصلًا حاسمة منذ بداية الأمر في موقفها من نظام بشار، وكان كل ما تطالب به النظام هو أن يحسن سلوكه، وفقًا لحساباتها ومطالباتها، هذا بالرغم من وجودها ضمن المجموعة الدولية الكبيرة التي أعلنت نفسها بوصفها مجموعة أصدقاء الشعب السوري.

وعلى الرغم من تشكل أعداد يصعب حصرها بدقة من منظمات المجتمع المدني، في مرحلة الثورة في الداخل والخارج، فإن غالبيتها لم تكن وليدة تطورات طبيعية ضمن المجتمع السوري أو ضمن تجمعات السوريين في الخارج، ولم تكن حصيلة تبلور وتنامي وعي وطني سوري يعقد الآمال على أهمية تلك المنظمات، ويعمل على تعميق دورها، وتطويرها لتكون من أدوات ترميم وتمتين النسيج المجتمعي الوطني السوري. وهذا ما ينبغي العمل عليه والوصول إليه.

والمشكلة المركزية التي يواجهها السوريون اليوم تتمثل في التالي: الأكثرية المؤكدة من السوريين ترى استحالة القبول بإعادة تأهيل وتسويق نظام بشار، هذا النظام الذي بدأت شعبيته تتآكل حتى ضمن وسط ما يسمى بالموالين. فقد توصل هؤلاء، وهم إخوة وأخوات من ضحايا هذا النظام، إلى قناعة تامة بعجز هذا النظام المستبد الفاسد عن حل المشكلات المعيشية الملحّة التي يعانيها السوريون في جميع أنحاء البلاد، وأنه لن يتمكن مطلقًا من توحيد السوريين من جديد ضمن وطن واحد، ما دام هو الحاكم، لأن الثقة بينه وبين الغالبية العظمى من السوريين باتت صفرية.

ولكن في المقابل، لا توجد الأحزاب الوطنية والمنظمات والمؤسسات المجتمعية التي في مقدورها تشكيل حال وطنية جامعة، تقنع السوريين قبل غيرهم، وتقنع العالم، ببديل يعتدّ به، يستطيع إنجاز مهمة تجاوز الوضع الكارثي الذي يعانيه السوريون منذ عشرة أعوام، وهو وضع يعدّ حصيلة تراكمات الاستبداد والفساد والإفساد على مدى أكثر من نصف قرن. كيف يمكن لنا أن نتجاوز ما حصل بعيدًا عن عقلية الثأر والانتقام، وعن عقلية الامتيازات والنزعات العابرة للحدود التي لا تقيم وزنًا لأهمية وضرورة طمأنة شركاء الوطن والمصير؟

هذا هو السؤال الأساسي، بل الوجودي، الذي على السوريين أن يعملوا معًا للوصول إلى جوابه.

 مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى