قصة

حتى لو كنتم لا تصدّقون ذلك.. وقصص أخرى/ ماركوس كونتشا بالينثيا

كان الأميرال ماركوس كونتشا بالينثيا/ Marcos Concha Valenci مهندسًا ميكانيكيًا في البحرية، وقد تقاعد عام 1994، مكرسًا وقته للأدب. إنه كاتب وقاص وشاعر تشيلي حصل على دبلوم في الآداب من جامعة ديساررويو في سانتياغو، وترأس دائرة الكتّاب في إقليم فالبارايسو الخامس عام 2010. من كتبه: “نشوات ملونة”، و”قصص لا تنسى”. منحته دائرة نقاد الفنون في فالبارايسو عن هذا الأخير جائزة أفضل كتاب لعام 2004. يعد ماركوس كونتشا قطبًا من أقطاب السرد في تشيلي بإضفائه حالة من التجدّد والحداثة في كل نص من نصوصه، حيث يتناول الواقع من رؤية غير مألوفة تتداخل فيها الحياة اليومية بعالم السراب والأحلام الفانتازي.

(ترجمة وتقديم: مها عطفة)

———————–

حتى لو كنتم لا تصدّقون ذلك

ـ صباح الخير ـ كتب الكمبيوتر على الصفحة الفارغة لمعالج النصوص. وبينما كانت الأحرف تظهر واحدًا تلو الآخر، اعتقدتُ مذهولًا بأنني كنت هدفًا لفيروس جديد، أو لهجوم إلكتروني. ضغطتُ على زر الحذف، فلم يمسح “صباح الخير”، بل أضاف اسمي: إنريكي. فكرت أنها لا بدّ أن تكون مزحة، فموضوع التجسس على الكومبيوتر هذا قد فاق الحدّ بكثير.

ـ صباح الخير يا إنريكي. أردت أن أحييك وأتحدّث إليك منذ فترة طويلة. أنا حاسوبك القديم. لقد أمضينا ساعات عمل كثيرة سويّةً! فركت عينيّ، لم أصدق ما كنت أقرأ. مزحة أخرى من أخي الكومبيوتر. قررت أن أغلق البرنامج وأفتحه مرة أخرى. لا شيء. لم يُغْلَق وواصل الكتابة: ـ أنت كاتب يا إنريكي، أحب قصصك وأقرأها كل يوم في ثانية. تعلم أنني سريع جدًا، أقول لك إنني أعرفها عن ظهر قلب. أنت تعتقد بأنك تتركني في حالة سبات، أو نائمًا، لكنني أعمل طوال الوقت، ومع الشاشة مطفأة عمليًا أنا لا أصرف طاقة.

ـ لا، لا تفصلني. ستظل هذه الصفحة تظهر عندما تعيد تشغيلي. انتظر، لن آخذ الكثير من وقتك.

قرصت ذراعي، نظرت إلى باب الغرفة، كما لو أنني أتحقق من أن أحدًا لن يراني أجيب على الكمبيوتر وكتبت:

م… ر… ح… ب… ا… صب…اح… ال…خير… يا كمبيوتر.

ـ نادِني هوراس. لقد عمدت نفسي بهذا الاسم، أنت تعرف هوراس المشهور من قديم الزمان. ما حدث هو أنني أنا كاتب أيضًا. لدي الكثييييييييير من القصص المخزّنة في ذاكرتي، لكنني لم أجرؤ قط على أن أريها لأي شخص. حسنًا، الوحيد الذي سأعرضها عليه سيكون أنت، لكن في بعض الأحيان كانت نفسي تسوِّل لي أن أنتحل شخصيتك وأرسلها إلى أصدقائي بالبريد.

ـ هو..را..س، كم… قصة… لديك؟ كيف تعلمت؟ – سايرته.

ـ إنها ألف قصة وقصة. كنت أؤلف واحدة في الليلة. لقد تعلمت من أرشيفك الأدبي. حسنًا، ولِمَ أنفي أنني أيضًا أبحث عما يهمني على شبكة الإنترنت. أنا أعمل أثناء نومك. لديّ ذاكرة جيدة جدًا، لذا أُحدِثُ تقدّمًا سريعًا ـ كتب هوراس ورمش بغمزة تواطؤٍ من على الشاشة.

كان هنالك انسجام بين قراءتي قصة لكمبيوتر وطلبي منه أن يدونها. يبدو أن هوراس قد قرأ ألف ليلة وليلة، فقد أخبرني أنه سيكون بإمكاني أن أقرأ، لكن قصة واحدة لا غير في الليلة، ما دمت أعده بأنني لن أستبدله بكمبيوتر جديد إلى أن ينتهي من روايتها لي، لأنه أدرك أنني قمت بطلب أسعار أجهزة كمبيوتر بميّزات حديثة. لم يكن هوراس يعلم بأنه أعجوبة، وبأني لن أفرط به لأي سبب من الأسباب. لا أحد سيصدق الأمر، لذلك سيكون كاتب القصص هو أنا. لقد ضمنت الشهرة وبدون الكثير من الجهد.

ـ غدًا نبدأ في الوقت نفسه، قال لي هوراس، سأكتبها لك بالسرعة التي تطبع بها على لوحة المفاتيح حتى تتمكن من استيعابها من دون صعوبة. أومض مرتين، وكتب “إلى اللقاء يا صديقي إنريكي”، ثم اختفى كل المكتوب. واصلت عملي على هوراس بالطريقة نفسها التي كنت أعمل فيها دائمًا. ناديته مرات عدة، لكن بلا جدوى، استمرّ في العمل كما لو أن شيئًا لم يحدث قط مما أخبرتكم به للتو.

واجهت صعوبة في النوم. كنت متحمسًا. راودتني كوابيس، حيث تعطّل محرّك القرص الصلب لهوراس، وخرجت رائحة احتراق. لم يستطع الفنيّ جوشوا إنقاذه، فُقِدَت كل المعلومات، لقد أصيبت ذاكرة الرام بفيروسات ضخمة أخذت أشكال وحوش من الفضاء. استيقظت صارخًا بعد أن وكزتني روزا ماريا بمرفقها عدة مرات. قبل ذهابي إلى العمل، قمت بتشغيل هوراس: كان يعمل بشكل طبيعيّ.

في المكتب، لم أجرؤ أن أخبر أي شخص بالأمر، إنهم يستغنون عن الموظفين لتخفيض عددهم، وقد أغدو مرشحًا مؤكدًا إن كنت أفقد عقلي، سيعتقدون بأني مجنون. كان اليوم طويلًا بانتظار لقائي مع هوراس من جديد. حلمت حلم يقظة في مكتبي: بدأ مجدي بجائزة الآداب التي تمنحها البلدية، تلتها كل من الجائزة الوطنية، وجائزة ثربانتس، وأخيرًا نوبل. سأظهر في نشرة الأخبار، وفي الصحف والمجلات، كنت مشهورًا في جميع أنحاء العالم. حققت حلمي: ذاع صيتي بين الناس على سفينة الأدب الروحيّة.

لمّا دخلت البيت، حييت روزا ماريا بالقبلة المعتادة فأخبرتني:

ـ منذ ثلاث ساعات وجوشوا يعمل على الكمبيوتر. قال إنه في الواقع مليء بالفيروسات. لقد تركتَ له رسالة على الهاتف الخليوي الجمعة الماضية تطلب منه الحضور ليراه.

دخلت الغرفة وأخبرني جوشوا مبتسمًا: – هذه المرة كان عليّ أن أعيد برمجته يا سيد إنريكي. والغريب أنه أصدر أنات عديدة قبل محو بيانات القرص. إنه الآن يعمل بسرعة. لقد حمّلت عليه أحدث برامج مكافحة الفيروسات، وهي لا تكلف أكثر من عشرين بيسو.

كيس الكلمات المئة

في ذلك الصباح، ألقى مارتين محبطًا على كتفه كيسًا بائسًا فيه مئة كلمة جمعها في منامه ليلًا. كانت كلمات متواضعة، عاميّة، لا قيمة لها كأحجار الجبل. وعلى ظهره، شعر بقلقها وضغطها وتململها وهي تتدافع وتصرخ جزعةً تلتمس مهربًا. رجته: أيها الكاتب، يا أبانا، إننا لا نساوي شيئًا ونحن وحيدات ومبعثرات وملخبطات: اكتبنا قصةً! متعبًا، اتجه مارتين بخطاه إلى البحر. غدتِ النسمةُ ريحًا، وحين فتح الحقيبة في الأعالي، حلقت مئة فراشة، وطفا مئة قارب، وكتبوا “كيس الكلمات المئة”.

الموت مرة أخرى

استيقظت ميتًا في ذلك اليوم. الموت، الذي لا ينفك يترصدنا بلا انقطاع ما إن نكون في رحم الأم، قبضَ روحي بعد كابوس قاتل:

“كان عمري حوالى اثني عشر عامًا، وكنت أسبح في أمواج متلاطمة على شاطى رملي أبيض. والداي، الشخصان الوحيدان في المكان كله، مستلقيان على كرسيّي استرخاء، يراقبانني بنظارتيهما الداكنتَين غير المتناظرتين. فجأة، شلّت التشنجات العضلية ساقيَّ، وأخذ ثقل هائل يجرني إلى الأعماق، أخرجت رأسي وذراعيَّ مرارًا وتكرارًا طلبًا للمساعدة. ابتلعت كميات كبيرة من المياه المالحة المرة، سعلت. خلعَ اليأسُ قلبي، وتسارع نبضه لمّا رأيت والديّ ينهضان ويسيران نحو الطريق وقد أدارا لي ظهريهما…”.

طفت، أنا أو روحي، منعدمَ الوزن، شفّافًا ولا مرئيًّا في سقف غرفة النوم المستوي.

كانت رائحة خبز الفطور المحمص تصعد من المطبخ، وأجراس الكنيسة تقرع قداس الثامنة.

بدأ الوجه يشحب في الجسد الذي فارقته الحياة. لم أكن في عجلة من أمري لبدء رحلة المجهول. تركت أقاربي يهيّؤون الجثة، وقررت لسبب ما العودة إلى لحظة ولادتي.

المكان والزمان لا يشكلان حاجزًا للأرواح، ما عليها كي تصل إلى مكان ما من تاريخ معيّن سوى أن تتمناه. لطالما كنت أخرقَ بعض الشيء. في البداية، ولعدم خبرتي، وصلت إلى فالبارايسو في عام 1384 ولم يكن هناك سوى تلال تكسوها الغابات والشجيرات. خفق قلبي بسرعة، إنه مجرد تعبير، إذ لم يعد لي قلب، لكن المرء يبقى يشعر بذاك الخفقان كما حين تختلجه العواطف. ركزت وتمكنت من الوصول إلى المستشفى بحلول وقت ولادتي. المرأة التي كانت تلدني لم تكن أمي. كروح، معرفة أن والدتك هي ليست أمك، ليس بالأمر المهم جدًا، إنها قضيّة ماديّة، دعنا نقلْ أرضيّة. لكن مع ذلك، انقبض هذه المرة ما كان قلبي. من الصعب فهم ذلك، لكنكم تفهمونني. وكرد فعل أوليٍّ لي، أوقفت جميع التحقيقات، لم أرغب في أن أتعرض لمفاجآت جديدة، فربما سأكتشف أخيرًا بأنني أنا لم أكن أنا، بل شخصًا آخر، وأن روحي كانت في جسد ليس لها، وإذا كنت قد عشت على خطأ سيجعلونني أعيش بلا أخطاء. كنت في حيرة من أمري، ولم يغادرني الفضول الأبدي.

المشكلة هي أنه لا يمكن البقاء لوقت طويل على الأرض كروح تتعذب والوقت ينفد.

حين عدت إلى لحظة مماتي، قام جسدي بحركة فاغتنمت الفرصة وعدت إليه، تمكنت روح الحياة من التغلب على روح الموت، وبقيت على قيد الحياة.

كنت أعرف أن هنالك حياة بعد الموت، لكنني لم أتوصل إلى معرفة كيف هي طبيعة تلك الحياة الأخرى. وسرعان ما أقنعت نفسي بأن كل هذا كان هذيانًا ناتجًا عن حمى زكام شديدة، مع أنهم أخبروني في المنزل أنهم اعتقدوا في وقت ما بأنني قد مت.

حشرة الفضول تنخر العقل تاركةً بذرتها التي تنمو ببطء. لم أخبر أحدًا بشيء. بدأت بالسجل المدني. الأرشيف المغبر كان صحيحًا، تاريخ الميلاد متطابق مع اسمَي والدَيّ، كل شيء كان عاديًا. لقد توفيا في حادث سير، فلا مجال لأعرف عن الأمر منهما. راجعت ألبومات صور العائلة: في كل مرة كنت أجد أنني أقلّ شبهًا بهما. وأقول لنفسي إنني أصاب بالجنون. أصدّق الهلوسات والأرواح وأشياء من هذا القبيل، أنا الذي لطالما كنت عقلانيًا ومتشكّكًا. طرحت على خالاتي وأعمامي أسئلة مفخّخة، عاينت ردات أفعالهم، وكانت كلها متفقة على أن أمي حملت بي وتحققت سعادة الأسرة بولادتي، حتى أنهم لم يحاولوا تغيير المحادثة، لم يكن لديهم شك. لقد انتظر والداي وقتًا طويلًا حتى تمكنا من الإنجاب، وقد أثاب عليهما إيمانهما بذلك: كنت أنا ابنهما الوحيد.

هدأت لبعض الوقت، لكنّ قلقي عاد بقوّة أشدّ. لمَ يكون للبحث عن الجذور هذا القدر من الأهميّة؟ لن تتغير حياتي على الإطلاق إذا ما اكتشفت هوية والديّ الحقيقيّين، إن كان الأمر كذلك. كنت قد ورثت ثروة، ولي عائلة لطيفة، وأعيش في مستوى اجتماعي جيّد. أهو حب النفس؟ عقدة ما؟ ردة فعل على الخداع؟

سهّلت عليّ مهنتي كطبيب عملية التقصي، وصلت إلى أرشيف تاريخ الولادات في المستشفى الذي وُلِدت فيه. في يوم ولادتي، كانت هنالك سبع وثائق إدخال، جميعهنّ لإناث. لم يكن هنالك سجل لولادتي. صفحة مُزّقت على عجل كانت مفقودة. نظر إليّ الرجل المسؤول عن الأرشيف بأسف وقال: – عذرًا يا دكتور، لا يوجد المزيد من المعلومات.

أخذت عينة من مدفن أبويّ، وأخيرًا أظهر فحص الحمض النووي أنهما ليسا والديَّ البيولوجيّين.

كان من الصعب على طبيبي النفسي إقناعي بأن أهدأ، قال إن المهم هو المستقبل، عائلتي. لكن كما لو كنت طفلًا، ما زلت أبحث عن أبويّ الحقيقيين. قلقي شديد جدًا لدرجة أنني أتمنى أن أموت لبرهة مرة أخرى. بمرور كل يوم يصبح اكتشاف الحقيقة أكثر صعوبةً. ولم يبق لي من أمل سوى في الحياة بعد الحياة.

المترجم: مها عطفة

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى