نصوص

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسدّ إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟/ مارتن ر. دين

يعدّ مارتن ر. دين (1955 – ) واحدًا من الأصوات البارزة في المشهد الأدبيّ السويسريّ المعاصرِ بوجهٍ خاصٍّ والناطق بالألمانيَّة بصورةٍ عامّة. تتميّزُ كتابات مارتن باستنادِها إلى خلفيّة ثقافيّة واسعة ما يتيحُ قراءاتٍ متعدّدة وتأويلاتٍ متباينة، كما أنها تساهمُ، بفرادةٍ لا نجدُها في كثير من الروايات المعاصرة، في إثراءِ القارئ معرفيًّا وإضاءة جانب ما لديه كان معتمًا قبل شروعه في القراءة. هكذا يصفه النقاد. إنَّ أعماله لا تسعى فقط إلى تسلية المتلقّي، بل تدفعه دفعًا إلى إعمال العقل وإعادة التفكُّر في جوانب من شخصيّته أو محيطه الاجتماعي. كما تُعَدّ روايته “لماذا نحن معًا” الصادرة عام 2019 مثالًا بليغًا لنتاجه، إذ لا يمكن حصرها ضمن إطار أحادي ضيّقٍ، فهي، في الوقت عينه، روايةٌ فلسفيّة واجتماعيةٌ وغراميةٌ، تقومُ، في جوهرها، على تكثيفِ العلائق الاجتماعيّة المعاصرة وتقدّمُ صورةً مكبّرةً حاذقةً لتفاصيلها المعقّدة الشائكة.

في هذه المقالة يُبيّن مارتن ر. دين كيف قام بتهيئة نفسه لعملٍ روائي يكون فيها طبيبٌ إحدى الشخصيتين الرئيسيتين، ما دفع بالروائي الشغوفِ بالتجربة والتواق إلى المعرفةِ عن كثب إلى حضور عملٍ جراحيٍّ معقّد في أحد المستشفيات، ليتمكّن بذلك من فهم شخصيّة الطبيب ويومياته بصورة أعمق وبالتالي تدوينها بصدقٍ نابعٍ عن إلمام ومتابعة حيَّة. لكنه لا يتوقف عند الإشارة إلى الأجواء السائدة داخل غرفة العمليات وطقوسها القاسيّة، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد، تحديدًا إلى علاقة الطب باللغة والأدب وقبل كل شيء بالإنسان العاديّ غير الملمّ بهذا التخصّص العلمي العصي عليه.

(ترجمة وتقديم: سوار ملا)

*****

أحيانًا يدخلُ المرءُ في محنةٍ بسبب شخصيّة روائيّة. طبيب، إحدى الشخصيتين الرئيسيتين، أثبت لي حقّه على الورقِ وكان لزامًا أن تتمَّ صياغته.

لكنّي بذلكَ غدوتُ، دفعةً واحدةً، إزاء التساؤل التالي: كيف عساهُ يعيشُ طبيبٌ، بمَ يفكّر ويشعرُ، مثلًا، حين يُجري عمليّة جراحيّة؟ ماذا يعتملُ في داخلِهِ أثناء هذه العمليّة المُتخطّية للحدود التي من خلالها يلجُ باطنَ إنسانٍ؟

لذا التمستُ المشاركة في عمليّة جراحيّة؛ وفي وقتٍ مُبكّر من صباحٍ أحد الأيام، حين لم يكن ثمّة بعدُ أيّ حديث عن كورونا، وجدتُ نفسي وجهًا لوجه مع فريقٍ من الأطباء والممرضين يتهيّأ لإجراء عمليّة جراحيّة في العمود الفقريّ لامرأةٍ مُسنّة.

كانت المريضة قد تلقّت في الأثناء مُخدّرًا عامًّا في غرفة الإدخال، فاكتسيتُ بدوري الرداءَ الواقيّ المعقّم، ورحتُ مُتسائلًا: أتراهُ يكفي هذا التنكّر لتهدئة مشاعري المُتضاربة وسلب رهبتي مما سأرى وكذا تخليصي من وخز الضمير جرّاء شهوة التلصّصِ (Voyeurism) الخاصّة بي؟ أسيُعينني تغييري لثيابي على اجتياز هذه التدخُّل الجراحيّ القاسي بالمحافظة على مسافةٍ طبيَّةٍ منه؟

لكن ما أن وضع الجرّاح المشرط على الموضع المُعَلَّم من ظهر المريضة وراح يمزّقُ بيدٍ واثقةٍ لحمَها حتى تدفقت الدّماءُ وارتعدتُ خوفًا كما لو كان ظهري الذي شُقَّ على طولِ عموده الفقريّ؛ لقد آلمني ذلك بكلّ ما في الكلمة من معنى رغم معرفتي بأنّ السيّدة واقعةٌ تحت تأثيرِ البروبوفول، ولن تشعر بشيءٍ لبضع ساعات، بل ربما تقضي وقتًا لطيفًا في عوالم الهلوسة التنويميّة.

مع الوقتِ كان الجرّاحُ يغورُ أعمقَ في ظهرها، كما لو كان يحفرُ نفقًا، بينما طبيبُ التخدير كان يرصدُ عبر شاشاتِ العرض الوظائف الحيويّة للمريضة. وبين الفينة والأخرى كان يُسمَح لي بإلقاء نظرةٍ على الجرحِ، فكنتُ أُبصرُ بياضَ النخاع الشوكيّ يطفو وسط “حساء” دموي. كان الجرح المفتوح يحدّد المدخلَ إلى باطن الجسد، ويشكّلُ – بصورة حرفيّة- خطّ التماسِ بين الداخل والخارج؛ في الجرحِ يتلاقى داخلُ الإنسان وخارجه. وفي تلك الأثناءِ حضرت إلى ذهني قصّةُ كافكا “طبيبٌ ريفي”، التي تخترقُ فيها نظرةُ الطبيبِ جرحَ شّابٍ: “ورديٌّ بتدرّجاتٍ عديدة، قاتمٌ في الوسط، ويبهتُ عند الجوانب”؛ لكن كلما توغلت نظرتُه استعصى عليه الكلامُ، وفي النّهايةُ يتفكّرُ الطبيبُ: “من بوسعه النّظر إلى هذا من دون أن يُصفّرَ بخفوت؟”.

إصلاحُ الجسد

Vulnerando sanamus “نُشفي إذ نجرحُ”، هكذا يقول النّقشُ المحفورُ على واجهة المستشفى الجراحيّ القديم في مدينة “غيسن”. أمّا وعيي الشخصي فتوجّب عليه أن يتحقّقَ ثانيةً من هذا المبدأ الحضاريّ الذي يُخوّلُ الطبَّ بجرحِ الجسدِ لأجل مصلحته (مصلحة الجسد). إنّ مشهد الجرح الغائر عميقًا في داخل الإنسان خلَّصني من الاعتقاد الطفوليّ بأنّ الجراحَ تُلحقُ الأذيةَ بالإنسان. وفي ذهول رحتُ أتتبعُ تحوُّلَ الإنسانِ إلى حزمةٍ مجهولةٍ من اللحمِ مُختزلةٍ إلى وظائفها الفيزيولوجيّة فحسب؛ إذ يمنحُ اللحمُ النازفُ، الممزّقُ حديثًا، انطباعًا لا يُمحى عن ماديّته.

إنّ غرف العمليّات ليست إلا عتباتٍ بين الحياة والموت. ومثلما هي الحال وقت مراسم العبادة تجري الاستعدادات هنا أيضًا وفقًا لنوع العمل الجراحيّ وتخضعُ المناولات اليدويّة لصياغةٍ دراماتورجيّة دقيقة. لكن ثمة شبهٌ أيضًا بين غرفة العمليات وورشة تصليح مليئة بالمعدّات والشاشات والأنابيب والكابلات وكامل العدّة التي يُفتَح بواسطتها الجسد ويخضعُ للفحص. لا سيما أن طبّنا الغربيّ يعهدُ بشفاء الجسد، بشكلٍ كلّي، إلى التقنيّة، تحديدًا إلى تضافر جهود العلم والتكنولوجيا والفن؛ ولا تني الجراحةُ تُعيد في كلّ مرةٍ تشكيل جسد الإنسان بصورةٍ أكثر دقّةً وتعقيدًا من أيّ وقتٍ مضى، وتُخضعه على الدوام لأجهزة أشدُّ ذكاءً.

أمّا اللغة في تقرير العملية فكانت أشبه بصدى رصينٍ لعمليّة تقويمِ الجسد:

“بعد إجراء شقِّ الجلد في الخطّ الناصف فوق النواتئ الشوكيّة حُفَّت طبقة تحت السمحاق الخاصّة بالنواتئ المُستعرضة. بعدها تمّ تمرير مسامير بأقطار تبلغُ 7 مم داخل سويقات الفقرة القطنيّة الرابعة والفقرة العجزيّة الخامسة، وإدخال قضيبين متوائمين مع قَعَسِ الظهر ليُثبّتان بإحكامٍ تام مع رؤوس البراغي. إغلاق الجرح: تحضير الطبقة فوق اللفافيّة في العرف الحرقفي الخلفي الأيسر. فتح العظم القشريّ الخارجي وإزالة الرقاقة القشريّة مع كمية وفيرة من العظم الإسفنجيّ. إرقاء الدّم بواسطة شمع العظم والسبونجوستان المُنقَّع في البوبيفاكيين (Bupivacaine). إغلاق الجرح على طبقات عبر خياطة الصفاق بُقطَب منفردة”.

فكّرتُ في كافكا: “من بوسعه النّظر إلى هذا من دون أن يصفّر بخفوت؟”.

حقيقة اللغة

إنّ لغة الطبّ، حتى يومنا هذا، ليست إلا عجرفةً؛ ليس فقط لأنها تهمّشُ ذاك الذي لا يفهمُها؛ فكلّ اللغات التخصّصية تفعل ذلك، لكن لأنّ حساسيّتنا تجاه الرطانة الطبيّة أشدّ جوهريّة منها تجاه الكلام المُبهَم لمُتعصبي الرقمنة؛ أو تجاه رطانة علماء الفيروسات التي رحنا نتقبّلُها في زمن كورونا العصيب، لأننا نأملُ من مصطلحاتهم أن ترشدنا إلى كيفيّة التعامل معه.

ومما لا شكّ فيه أن للغة الطبِّ حقيقتها الخاصّة، وربّما حتّى جماليّتها أيضًا. لكن في مصطلحاتِها، هكذا تبدى لي، تسري رعشةٌ خفيفةٌ نظرًا لعلاقتها بالجسد الحيّ؛ إذ ماذا عساها تكونُ الأقطابُ المُنفردةُ، ما هو القَعَس؟ ما الذي تعنيه مفردةُ “ألم”، إن كان مختلفًا من شخصٍ لآخر؟ المصطلحات الطبيّة تنفي المرض وتحزمُ الأعراض. حين أعرفُ ما أعانيه تتحسّن حالتي إلى حد ما.

“إنّ غرف العمليّات ليست إلا عتباتٍ بين الحياة والموت. ومثلما هي الحال وقت مراسم العبادة تجري الاستعدادات هنا أيضًا وفقًا لنوع العمل الجراحيّ وتخضعُ المناولات اليدويّة لصياغةٍ دراماتورجيّة دقيقة”

الأعراض التي لا أسماء لها لا يمكن معالجتها؛ وبذا فإن لغة الطّب تشكيلٌ خلَّاقٌ على الدوام. “كلمةٌ، جملةٌ – تنبثقُ من شفراتٍ/ حياةٌ متجليّة، معنىً فجائي” (من قصيدة “كلمة” لغوتفريد بن). ليس من قبيل المصادفة أن الشّاعر والطبيب غوتفريد بِن، الذي يرى الكلمةَ فصلًا من عمليّة تشكيل إبداعي، من أوائل الذين استعملوا المصطلحات الطبيّة التخصّصية كأدواتٍ فنيّة أدبيّة.

المصطلحاتُ الطبيّة تؤمّن للطبيب هيمنته المعرفيّة كما تضمنُ له رتبته الاجتماعيّة. لكنّنا في الوقت عينه نرتضي بحصريّة اللغة التخصّصية لأنّها تبدو ضامنةً للتفوّق المعرفي للمختصِّ في مقابل جهلِنا. أجل، هذا يعزّز من ثقتنا بالممارسة التي نأتمنها على ألمنا وعلاجنا، والتي لا نريد لها أن تبدو كــ “خرخرة لغويّة” (أدورنو)؛ إذ “في كلّ مفردة غريبة”، كما كتبَ أدورنو “تكمنُ مادةُ التنوير المُتفجّرة”.

“إنّ لغة الطبّ ليست إلا عجرفةً؛ ليس فقط لأنها تهمّشُ الذي لا يفهمُها؛ لكن لأنّ حساسيّتنا تجاه رطانة علماء الفيروسات التي رحنا نتقبّلُها في زمن كورونا، أشد جوهرية كوننا نأملُ من مصطلحاتهم أن ترشدنا إلى كيفيّة التعامل معه”

حدود ما يُمكن أن يُقال

يمكن التعرُّف على الرطانة الطبيّة، بدرجةٍ خاصّةٍ، بوصفِها ترصيفًا مُصطنعًا يفصلُ بين العارفِ وغير المُلِمّ. بطبيعةِ الحالّ سينتابُنا غضبٌ حين ننتهي من محادثةٍ تشخيصيّة في مكتب الطبيب من دون أن نفهم الكثير، بل وأحيانًا من دون أن نفهم شيئًا. لكن، ومن جهةٍ أخرى، ثمّة فالتر بنيامين، أحدُ أصدقاء المفردات الغريبة، الذي يطلقُ على المفردة الغريبة توصيفَ “ضلع من الفضة” داخل جسد اللغة. وكان بنيامين نفسه من قام بتقريب العمل الجراحيّ من الكتابة من خلال شذرة مأثورة بديعةٍ تُدعى “عيادة شاملة”:

“يضعُ الكاتبُ الفكرة على الطاولة الرخاميّة في المقهى. (…) ومن ثمّ يُخرجُ عدَّتَه: قلم حبر، قلم رصاص وغليون. (…) القهوة، المملوءةُ باحترازٍ والمُبتلَعةُ بذاتِ الطريقة، تضعُ الفكرةَ تحت تأثيرِ الكلوروفورم. يقطّعُ الجرّاحُ القسمات المحاذرة لمخطوطه، ينقلُ الأشياءَ الجوهريّة إلى الداخل، ويتخلّصُ حرقًا من أورام المفردات مُدرِجًا إثرها المفردة الغريبة كضلع من الفضة. وفي النهاية يقطِّبُ المجموعَ بعلامات التّرقيم بواسطة غرزٍ دقيقةٍ، ومن ثمّ يدفعُ للنّادل، مُساعدَه، أجره نقدًا”.

غادرتُ غرفة العمليات بعد ثلاث ساعات ونصف الساعة حاملًا معي سرًّا دنيويًّا مألوفًا لكنّه في الوقت عينه غير قابل للفكّ. كنتُ قد نظرتُ في باطنِ الإنسان وبلغتُ عبر الجرحِ الحدود القصوى لما يُمكن أن يُقالَ. لاحقًا سمعتُ بأن المريضة قد اجتازت العمليّة بصورةٍ جيّدةٍ. لكن هل تمكنتُ بدوري من الحصول على العدّة اللازمة لتدوين هذه الشخصيّة الرئيسيّة؟ لم أستطع، بحال، الاستسلامَ لخطر تزويد شخصيّة الطبيب بالكثيرِ من الرطانة التخصّصية؛ وربّما توجّب على طبيبي أن يكون في النهاية أحد أولئك الذين، برغم كلّ الرصانة الروتينيّة للتدخّلات الجراحيّة، يظلّون غير مُحصّنين أمام سرِّ الجسد المفتوح.

المترجم: سوار ملا

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى