صفحات الثقافة

ما الذي يثير الشغف بفكر فرانز فانون؟/ إدريس الخضراوي

تَندرجُ القراءةُ التي أنجزها محمد برادة بعنوان “فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة”[1] (1963)، بالاشتراك مع الكاتب الجزائري مولود معمري والمؤرخ المغربي محمد زنيبر، في سياق الاهتمام المكثف في مطلع الستينيات بالمسألة الثقافية من قبل أدباء مغاربة ومثقفين ومهتمين بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، كما أنها تكتسب قيمتها من كونها أنجزت في السنة نفسها التي ظهر فيها كتاب فرانز فانون “معذبو الأرض” في ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي إلى العربية سنة 1963. وبالتالي يكشف الاهتمام بعمل فانون عن رغبة أكيدة في الاستفادة من مكاسب الحداثة ومبادئها وقيمها، وتمثل مقترحات الفكر ما بعد الكولونيالي الذي يعدّ النصّان الفانوني والغرامشي من أبرز مصادره الإلهامية.

نعتقد أن هذه القراءة لفانون التي تجد الأرضية الأساس في ماركسية نقدية تنهل من الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، تكشف عن الاختلاف الذي ميز الفكر المغربي المعاصر إبّان الستينيات، وهي الفترة التي أبدى فيها المثقف المغربي اهتمامًا بمرجعيات فكرية وفلسفية مغايرة تُتيحُ له الاشتغال بمفاهيم جديدة، كما تساعده على تطوير أدواته النقدية وتعميق منظوراته الفكرية. وها نحن نرى من حولنا في تيارات الدراسات الأدبية الحديثة، خاصة الدراسات والأعمال التي تندرجُ في حقل ما بعد الكولونيالية الذي يعنى بمساءلة العلاقات المعقدة بين القوة والمعرفة، كيف أن علاقة النقد الأدبي المعاصر بفكر فانون تزداد تضافرًا وتتخذُ أبعادًا جديدةً بحيث لا تجد سندها فقط بكون فانون يصعب اختزاله أو تكثيفه في تصنيف محدد، بل تجده أيضا في علاقة الأدب بالزمن، وتعبيره عن أسئلة الإنسان ومغامراته وبحثه اللاهث عن الحقيقة، بالإضافة إلى متغيرات التاريخ ومستجدات الواقع العربي والتحولات التي طرأت على عمليات المثاقفة.

يقتضي تلمّس الجهد والحماس اللذين بذلهما المؤلفون في استقراء مؤلفات فانون وتحليلها وتأويلها بصورة موضوعية ونقدية، أن ننطلقَ من المنظور ما بعد الكولونيالي بشكل عامّ، خاصة في نقده النزعة الإنسانية الأوروبية، وفكرة الكونية سعيًا نحو التحرّر الإنساني، فالفكر ما بعد الكولونيالي يتجذّر في المستقبل، كما يكتب أشيل مبيمبي[2]، لأن هدفه الأساس هو فتح آفاق واعدة أمام البشرية من خلال الاعتراف بالآخر كإنسان. وهذا المعنى الذي يتأسسُ على التبادلية والمساواة هو الذي يتخللُ كتابات فرانز فانون، وليوبولد سيدار سنغور، وإدوارد سعيد، وبول إلروي… كما ينبغي بالإضافة إلى ذلك، أن نأخذ بتصور إدوارد سعيد للنقد بشكل خاص، ومفاده أن فعل القراءة، بما في ذلك قراءة الأرشيف الغربي، يتحقق بشكل مثمر وكثيف عندما نضعُ النص في السياق، وننظر إليه باعتباره جزءًا لا يتجزأ من شبكة كاملة من العلاقات يلعبُ محيطها ونفوذها دورًا إخباريًا في النص. إن هذا التشديد على البعد التاريخي للقراءة، وعلى كونها نسبية وغير مكتملة، هو السبيل للتفكير بطريقة نقدية، وبالتالي فهم المقاصد والمرامي الكامنة في صميم عملية إنتاج النصوص، وتقصّي العلاقات التي تقيمها مع نصوص تنتمي إلى ثقافات وسياقات أخرى.

نعتبر أن صدور كتاب “فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة” سنة 1963، أي بعد وفاة فانون بسنتين، ينطوي على دلالات قوية. إذ يمكنُ اعتباره، من جهة، تكريمًا لهذا المثقف الثوري المتطور الذي اهتمّ بتحرر الشعوب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، واعترافًا بالدور الطليعي الذي نهضَ به دفاعًا عن معذبي الأرض. ففانون من بين الكتاب والمثقفين الذين تنطوي أعمالهم على تمثيل هموم هذا العصر الذي اتخذت فيه الهيمنة أشكال مظاهر متعددة؛ فهي لا تستند فقط إلى القوة والغلبة العسكرية، وإنما أيضًا إلى المعرفة التي تتعين بكونها سلطة متعالية تمتلك الحقيقة. لنقل إن فكر فانون ورؤاه السياسية والاجتماعية لا تزالُ تحملُ في طياتها الأفكار المستنيرة والمتبصّرة التي تلهمُ المدافعين عن نزعة إنسانية جديدة. ومن جهة أخرى، فالكتابُ صدر في فترة مفصلية من تاريخ المغرب، أي فترة ما بعد الاستقلال التي اشتد فيها الصراعُ بين السّلطة والقوى الاجتماعية الواسعة التي كانت تطمحُ إلى التغيير الجذري الذي يفتحُ أبواب المستقبل أمام الجميع. ورغم أن هذه القراءة التي قام بها مؤلفو الكتاب محددة بسياق تاريخي خاص يضبطُ أسئلتها ومحتوياتها، فإن استعادتها اليوم في سياق مرحلة ما بعد الربيع العربي، تبيّنُ أن التوسّل بفانون، ذلك المثقف المارتينيكي الملتزم، والطبيب النفساني المبدع الذي احتك بالاستعمار وأدرك الشروخ العميقة التي يحدثها في جسم الأمة، فناصرَ القوى التحررية في “العالم الثالث” وانضم إلى الثورة الجزائرية، هو توسّلٌ بمثقفٍ ومفكرٍ ما فتئت أعماله تلهمُ المخيلة ما بعد الكولونيالية في سعيها للردّ ليس فقط على سرديات الاستعمار وافتراضاته المشوهة لتواريخ المهمشين والمستضعفين في الأرض، وإنما كذلك على الأنظمة القمعية التي أسّست شرعيتها على ترهيبِ الشعوبِ وتشتيتِ قواها. لذلك فمنجزه النظري الذي تَبلورَ خلال سنوات الخمسينيات، يظلَّ ينطوي على كثير من الأفكار والتصورات التي تلهمُ حركات التحرر ومناهضة التمييز العنصري في العالم. وقد تعرّف المثقفون والقراءُ المغاربة، كغيرهم من قرّاء العالم، على كتاباته التي أتاحت لهم مجالًا للاقتراب من مثقف ثوري شكلت افتراضاته مستقرًا تلتقي في رحابه أسئلة الراهن العربي، ومصدرًا للتحرّر الاجتماعي والاقتصادي والنفسي.

يعلق الباحث المغربي العربي الرّامي على هذه المرحلة فيقول: “لعلّ هذا هو الملمح الذي هيمن على الإنتاج الثقافي المغربي إلى حدود نهاية العقد السبعيني، ولا شيء يدعو إلى الاستغراب، والحال أن هذه الثقافة تخلّقت، ونمت في أحضان الحركة الوطنية متشبعة بالروح النضالية التي صنعت الاستقلال. الشيء الذي أجبر الثقافي على أن يستمرّ في خدمة السياسي والإيديولوجي بكلّ تفان وصدق”[3]. ولأن تحليل فانون يستمدّ جذوره من الراهن، فمن شأن طروحاته في سياق تتعاظم فيه التحديات أن تدعم حركة التحديث بوضع أسس ثقافة وطنية تنهضُ بدورها التنويري المضاد، سواء في نقد وتفكيك علاقة السلطة بالمعطّلات الثقافية والاقتصادية التي أبقتها التجربة الاستعمارية، أو في إسناد ودعم الفئات الاجتماعية المهمشة التي تكافحُ من أجل مستقبل أفضل يعوضها عن التضحيات الجسام التي قدمتها في سبيل الاستقلال. وبمقياس فانون فإن المجتمع الذي اجتثّ الاستعمار لا يمكنُ أن تكونَ وظيفته سوى خدمة الاحتياجات الإنسانية[4].

الظروف الخاصة

لا يعني هذا أن القراءة التي قدمها هؤلاء المثقفون لفانون كان المقصود بها أن تَعهدَ لهذا المفكرِ والمناضلِ أن يَرسُمَ طريقَ الخلاص بالنسبة للجماهير الشعبية المكافحة، وإنما هي قراءة، إذا استعرنا تعبير المفكّر مشير عون متحدثًا عن هايدغر[5]، تراهنُ عَبْرَ فانون وتجربته في البحث والنضال على اجتراح إمكانية للفكر المغربي في مجال معركته ضِدَّ التخلفِ في أبعاده المختلفة أن يسعى هو بنفسه إلى الوقوف على إمكانات محتملة يستلهمها لتمكنه من بلوغ الاختبار الخاص بالثقافة المغربية في عُمقِ مسعاها التاريخي الخصوصي. ويرى برادة أن هذا الاختبار واجهه فانون حينما قدم استقالته للسّلطات الفرنسية من المستشفى الذي كان يعملُ فيه، وعاد إلى حياة “المنفى” ليتضح له “أن إنسان الدول المقهورة يخدع نفسه عندما يظنّ إمكانية تطبيق المبادئ التي علمه إياها الغرب. إنه يتحتم عليه أن يرفضَ تلك المثل الجوفاء، وأن يبحثَ عن خلاصه في مسالك جديدة أوجدتها ظروفه الخاصة، فراح يهتفُ: يجب أن نصنع بشرة جديدة، وأن نخلقَ فكرًا جديدًا من أجل إيجاد إنسان جديد”[6]. كما واجهه في مرحلة متأخرة من تجربته حينما توجه بالنقد إلى مستضعفي الأرض، خاصة شعوب “العالم الثالث” فنبّههم إلى انحراف البرجوازية الوطنية ومهادنتها للاستعمار الجديد[7].

إذا كان برادة ينتمي من جهة الاشتغالِ المعرفي إلى النقد الأدبي الذي تمثلُ النصوص الأدبية مجاله الأساس الذي يُعنَى فيه بتحليلها والكشف عن شروط إنتاجها، واستقصاء المعرفةِ التي تكتنزها حول الفردِ والمجتمعِ، فإنه عندما يُحاورُ فانون وغيره من مثقفي الغرب الذين ناهضوا التجربة الاستعمارية، والتحموا بأحلام الشعوب المضطهدة في الحرية والعدالة والكرامة، يعطي أساسًا متينًا للممارسة الأدبية، خاصة من جهة النقد وعمليات تأصيله. إن تأصيل النقد “مشروط بامّحائه وزواله من جهة كونه سلطة متعالية تمتلك الحقيقة، لاسترداده من جهة كونه ضربًا من الكتابة لا تكتفي بشرح النصّ أو تقييمه بل تتعدى الشرح والتأويل إلى الإحاطة بأسئلة الأدب من جهة كونها مستقرًا في رحابه تلتقي أسئلة الراهن الثقافي العربي”[8]. ومن هذه الزاوية تنطبقُ على قراءة برادة لفانون، الملاحظة التي التقطها الباحث الجزائري بشير ربّوح في دراسته القيّمة لإدوارد سعيد والفلسفة، حيث بَرهنَ على أن تحرّك سعيد بعدّته المعرفية نحو الفلسفة لم يكن من أجل امتلاك ناصية التفلسف بالمعنى الأكاديمي الخالص، وإنما كان بِهدفِ البحثِ في الفلسفةِ عمّا يُعمّقُ رؤيته النقدية ومقاربته الاستكشافية، سواء للاستشراق أو للثقافة والإمبريالية أو للمقاومة الثقافية. هكذا أتاحَت الفلسفة لإدوارد سعيد أن يستمدَّ منها مفردات عديدة مثل الخيال والسرد والثقافة والإمبريالية والآخر والتابع والهوية والتحرر والشرقي الكسول والمترهل والأصلاني والنص والخطاب[9]. وبنفس القدر أتاحت الفلسفة لبرادة إمكانيات تعميقِ المنظور للنقد الأدبي، مما أهله لأن يأخذ النقد إلى ما هو أبعد من ثنائية الشكل والمضمون، الحقيقة والخيال، أي إلى الاهتمام بإنتاج معرفة جديدة حول الأدب لا يكونُ فيها أي تعارضٍ بين استقلاليته الذاتية، الفنية والجمالية، ووظيفته النقدية الاجتماعية والسياسية. وكما يقول بيير ماشري في تحديده لكل من النقد والأدب، فالناقدُ عندما يَجترحُ لغةً جديدةً لقراءة موضوعه (الأدب)، فإنه يَستطيعُ أن يَنزعَ الحجب عن الاختلاف الكامن فيه، وأن يكشفَ فيه عن صورة جديدة تختلفُ عن الصورة التي كانَ عليها عندما أنتجه المؤلفُ أول مرّة[10].

يميزُ محمد برادة بين ثلاث محطات يعتبرها أساسية في مسار هذا المثقف الثوري المفتون بالتجربة الإنسانية المعاشة، الذي اكتوى بلده المارتينيك بنار الاستعمار منذ سنة 1635 عندما بدأت فرنسا في عهد ريشيليو تضعُ الأسس الأولى لمستعمراتها. المحطة الأولى تبدأ من هجرته إلى فرنسا لمتابعة دراساته العليا، حيث ظل قريبًا من معاناة شعبه والشعوب الواقعة تحت الاستعمار. “فطيلة سنوات دراسته للتحليل النفساني، كان يشارك بفعالية في النشاط السياسي لطلبة الأقطار المستعمرة، فكان يتصلُ بالشخصيات والهيئات التقدمية ويدعو لقضية بلاده وضرورة تحريرها. ولم يكن يعتمدُ في كفاحه على عاطفة الوطنية الطبيعية، بل كان يعملُ بوحي من وعيه العميق وثقافته الواسعة. كان مخلصًا في التعبير عن ردّة الفعل التي استشعرها بعد أن عاش تجربة القهر والتعصّب والاضطهاد”[11]. والمحطة الثانية تبدأ حينما أتمّ دراسته العليا وعيّن طبيبًا نفسانيًا بـ البليدة بالجزائر. ويرى برادة أن هذه التجربة جعلت فانون “يعيش اللقاء المؤثر مع الحقيقة عارية من كل الأصباغ، لقد تبيّنَ أن تشويهات الاستعمار وتأثيراته السيئة واحدة رغم تعددها واختلافها الظاهر في كل من المارتينيك والجزائر”[12]. ومن خلال العدد الكبير للمرضى الذين كان يعالجهم، أدرك فانون أن الأزمات والعقد التي يعيشها الجزائريون ليس مصدرها طبيعة الشخصية الجزائرية، وإنما هي أعطاب خلقها الاستعمار الفرنسي وما صاحبه من استغلال واضطهاد ومسخ. ويرى برادة أن هذا الوضع هو الذي أَوْجَدَ لدى فانون الحماس للتعاطف مع الثورة الجزائرية حيث سَجّلَ ملاحظاته وخلاصة تجاربه في كتاب قيم هو “السنة الخامسة للثورة الجزائرية”[13]. أما المحطة الثالثة من مسيرته فتبدأ من 28 كانون الثاني/ يناير 1957 حينما قَدّمَ استقالته للسلطات الفرنسية وحاججَ في رسالة الاستقالة “أنه لم يعد قادرًا على العمل في ظل وضع يُشجّعُ بصورة منهجية نزع إنسانية الناس وتجريدهم من حريتهم”[14]. هكذا التحقَ فانون بالثورة الجزائرية ليضَعَ خبرته رَهنَ إشارة الثوار حيثُ كان يقومُ بعلاجهم ويوفرُ لهم الدعم النفسي والأفكار التي تساعدهم على ربح المعركة ضد الاحتلال. ويرى برادة أن إيمانَ فانون العميق بالثورة الجزائرية، وبأنّ انتصارها هو انتصار لأفريقيا، أتاح له أن يتبوأ موقعًا مميزًا “فأسندت له مهمات مختلفة ينطق فيها باسم الثورة الجزائرية ويدعو إلى مبادئها في القارة الأفريقية وخارجها”[15].

ما الذي يثيرُ الشغف بفكر فانون؟

لعلَّ السؤالَ الذي يبقى طرحه ضروريًا في ما يَخصُّ هذه القراءة لفانون هو: ما الذي يثيرُ هذا الشغف بفكره؟

رغم ضروب الاختزال التي تعرّض لها فكر فانون في المنطقة العربية، كما يُشيرُ إلى ذلك نايجل سي غبسون في المقدمة التي كتبها للترجمة العربية لكتابه: “فانون: المخيلة بعد الكولونيالية”، ما حالَ دون تأويل هذا الفكر تأويلًا منتجًا بضمّه إلى دينامية الفكر العربي واستدخاله في خانة الفضاء الثقافي العربي، فإن الجهود الرامية إلى فهم تراثه فهمًا موضوعيًا يأخذُ في الاعتبار الظروف والسياقات التي أُنتِجَ فيها لم تفتر ولم تتوقف. ويمكنُ القول إن القراءة التي دشنها برادة بمعية مولود معمري ومحمد زنيبر في بداية الستينيات هي جزء مهم من هذه الجهود، لأننا نَجِدهُ في هذه القراءة معنيًا بأن يُوفّـرَ للثقافة المغربية الجديدة في اتصالها بهذا الفكر الثوري فسحةً للتبدل والتحول، ليس فقط على صعيدِ فهمِ تعقيدات السيطرة الاستعمارية والأوهام التي تشيعها، وإنما كذلك على صعيدِ الالتصاق بهموم وتطلعات الفئات الاجتماعية الواسعة إلى التخلّصِ من الفقر والتهميشِ والاستغلالِ.

ومن هذا المنظور يَبرزُ اهتمامُ محمد برادة بالمسألة الثقافية كما تناولها فانون في أعماله الأساسية خاصة “المعذبون في الأرض” و”بشرة سوداء وجلد أسود” و”السنة الخامسة”. إن قراءة هذه الأعمال تتيحُ لمثقفي “العالم الثالث” تفكيك الماضي الإمبريالي للغرب، وفهم الاستراتيجيات التي بنت عليها الكولونيالية السيطرة على الشعوب المستضعفة.

يقول الباحث الفرنسي فريد بوشي: “في النصف الثاني من القرن العشرين، جنح الغربيون إلى القول بأنهم حملوا التقدّم والحداثة والنظام والاستقرار إلى الشعوب الأخرى، وأن بالنظر إلى الوضع، يتعيّن عليهم البقاء أوفياء إزاء مسؤولياتهم كحاملين للحضارة”[16]. وما يعرّيه فانون ويكشفه بقوة هو أن الغرب، في الواقع، لم يتح للشعوب التي أخضعها لسيطرته بطرق مختلفة زاوج فيها بين “القوة اللينة” أو “المتغلغلة” أسباب الأخذ بالحضارة الحديثة، وما يحققُ لها التوازن المادي والروحي. ويرى برادة أن ما قام به الاستعمار هو أنه “سخر أقلام مفكريه وفلاسفته للقيام بحملة تشكيك المستعمرين في عقولهم واستعداداتهم الفطرية وإضافاتهم الحضرية”[17]. ومن المعروف أن الهيمنة على شعوب “العالم الثالث” استندت إلى تواطؤ مكشوف بين الثقافة والغلبة العسكرية، وإلى بث مغرض للصور المضللة التي تسرّعُ خضوع الأفراد والجماعات لأشكال الهيمنة. وقد كشف إدوارد سعيد في تفكيكه العلاقة بين الثقافة والسيطرة الاستعمارية، مستعينًا بفانون، تجليات عديدة لهذا التواطؤ في كتابيه: “الاستشراق” (1978) و”الثقافة والإمبريالية”(1994). فهو يقولُ في تأويله سرد الروائي الفرنسي ألبير كامو: “تكمن المفارقة اللاذعة في أن كامو حيث يسرد قصّة في رواياته أو في مقطوعاته الوصفية، فإن الحضور الفرنسي في الجزائر يصاغ إما كسردية خارجية، جوهرًا لا يخضع للزمان والتأويل (كما هي جانين)، أو بوصفه التاريخ الوحيد الجدير بأن يُسردَ كتاريخ. إن عناد كامو المتمادي ليُفسِّرُ الفراغ والغياب في خلفية العربي الذي قتله مُرْسُو، ومن هنا أيضًا الإحساسُ بالدمار الذي يُرادُ له أن يعبِّر عن الموتى العرب بشكل رئيسي (وهم بعد كل حساب مكمن الأهمية من وجهة نظر سكانية) بل عن الوعي الفرنسي”[18].

إن قيمة فكر فانون تكمن في الموقع التي يَجترحُهُ لفهم معنى استحالة أن يتحولَ الاستعمارُ إلى برنامج نزيه لمساعدة الدول الفقيرة. ففانون يرسمُ للشعوب التي تعاني التخلف والفقر طريق الخلاص من خلال نشر الوعي وتعميقه لدى الجماهير الواسعة. ومن منظور فانون يلعبُ المثقفون دورًا أساسيًا في هذا التحول شريطة الالتزام بالعمل من أجل شعوبهم. فالمثقفون يضطلعونَ بعملية خطيرة هي “إتمام تصفية الاستعمار، وخلق مفاهيم جديدة، تواكب التطورات المستمدة من تحفز الجماهير مطامحها”[19]. ويرى برادة أن من بين المهام الأساسية التي ينبّه فانون المثقفين إلى ضرورة النهوض بها هي إثبات “وجود حضارة أهلية قبل الاستعمار”[20]. فأحد المظاهر التي يسعى الاستعمار لضربها هي وجود ثقافة قومية صلبة ومتماسكة. ولذلك فإن الرد من منظور فانون على النزوع الاستعماري إلى السيطرة والهيمنة لن يكون مجديًا إلا إذا توجه المستعمَرُ إلى إحياء العناصر والمقومات التي تؤكدُ عبقرية الشعب وعظمته. فبهذا الإحياء يتشكلُ الجدار السميك الذي يحمي الشعب من السموم والسرديات المضللة التي يبثها المُستعمِرُ في عقول سكان مستعمراته. من هنا “فالعودة إلى الماضي لاستكشاف حضارة قومية، من الأسس الهامة في الكفاح الثقافي، لأنها تُساعِدُ على إيجاد سد منيع يقي ثقافة الشعوب النامية من الاستمرار تحت سيطرة الثقافة الغربية ومعاييرها، ولأنه يُتيحُ للمثقفين أن يخرجوا من دائرة المصطلحات والمفاهيم التي تلقوها في جامعات الغرب ومعاهدها”[21]. لا يعني هذا أن فانون كان يُمجّدُ الماضي على حساب الحاضر والمستقبل. فهو عندما يُنبّهُ المثقفين إلى أهمية بناء ثقافة قومية ذات أصول وجذور في ماضي الأمة، فإنه يعي “أن الإنسان المستعمر الذي يكتب لشعبه، يجبُ أن يستعمل الماضي وسيلة لاستشراف المستقبل، والدعوة إلى العمل وإرساء أسس الأمل[22]”.

عندما نرى إلى هذه القراءة لفانون في السياق الحالي حيث يتوسع الاهتمام بدراسات ما بعد الكولونيالية، وتأثيرها في الدراسات الأدبية يزداد قوة، وحيث يعادُ التفكير في إشكاليات الهوية من منظورات جديدة تنفتحُ على عالم من العلائق المتداخلة والمتشابكة، “وفيها تبرز معالم التوجهات الكونية الإنسانية التي تنادي بالمواطنة العالمية، التي في الآن ذاته تسعى إلى الحفاظ على الخصوصية المحلية التي تغني ولا تقصي عالم الآخر المختلف متباينة معه ومعترفة به معا”[23]، يَجوزُ القولُ إن قيمتها (القراءة) تتمثلُ في جانبين: أولهما القدرة التي نلمسها لدى محمد برادة على تأويل فانون كي يستمدَّ منه الأدوات والمفاهيم التي يتسلحُ بها المثقفون المغاربة في المعركة ضد التخلف والتهميش والإخفاق في ولوج عصر الحداثة. ها هنا تكمن المهمة الأساس للمترجم كما يحددها فالتر بنيامين، أي أن يعثر على ذلك الأثر المنشود في اللغة المترجم إليها الذي يحدث فيها صدى الأصل[24]. أما الجانب الثاني فيتمثلُ في احتضان هذه القراءة الكلمات المفتاحية الأساسية التي سنجدها لاحقًا أي خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في دراسات ما بعد الكولونيالية وتحديدًا في عمل إدوارد سعيد، كأهمية بناء الثقافة القومية ودورها الأساس في إبقاء جذوة المقاومة الثقافية مشتعلة أو ما يسميه بيل أشكروفت “الرّد بالكتابة”، وكذلك “الهجنة” و”الترابط بين الثقافة والقوة”.. وغيرها من المفاهيم التي تَمكّنَ المؤلفون من التقاطها في هذه القراءة التي تَستحضٍرُ من خلال النصّ المقروء حاجة الذات إلى الأدوات النقدية الملائمة لنقد خطابات الطمأنة التي تكبّل الفكر وتزرع الجمود والاستسلام.

مراجع:

[1] محمد برادة، مولود معمري، محمد زنيبر، فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة، الرباط 1963.

[2] – Achille Mbembe et al., « Qu’est-ce que la pensée postcoloniale ? », Esprit 2006/12, (Décembre), p. 118.

[3] العربي الرامي، مستويات اشتغال العجائبي في الرواية المغربية، أطروحة دكتوراه تحت إشراف الأستاذ سعيد يقطين، كلية الآداب- الرباط 2003-2004، ص20.

[4] نايجل سي- غبسون: فانون: المخيلة بعد- الكولونيالية، ترجمة خالد عايد أبو هديب، سلسلة ترجمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2013، ص22.

[5] مشير عون: هايدغر والفكر العربي، 2015.

[6] محمد برادة: الشخصية والبيئة، في: فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة، الرباط 1963، ص14.

[7] المرجع نفسه، ص18.

[8] محمد لطفي اليوسفي: أسئلة الشعراء ونداء الهوامش، مجلة فصول، المجلد السادس عشر، العدد الأول، صيف 1997، ص28-29.

[9] بشير ربّوح: إدوارد سعيد والفلسفة، مجلة تبيّن، العدد 15، المجلد الرابع، شتاء 2016، ص65.

[10] Pierre Machery, Pour une théorie de la production littéraire, ENS Editions, Paris 2014, p18.

[11] فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة، م م، ص11.

[12] المرجع نفسه، ص12.

[13] المرجع نفسه، ص12.

[14] نايجل سي- غبسون: فانون: المخيلة بعد- الكولونيالية، ترجمة خالد عايد أبو هديب، سلسلة ترجمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت2013.، ص18.

[15] المرجع نفسه، ص15.

[16] فريد بوشي: إدوارد سعيد الأنسني الراديكالي في أصول الفكر ما بعد الكولونيالي، ترجمة محمد الجرطي، دار صفحات، دمشق 2018، ص247.

[17] محمد برادة: مفهوم الثقافة عند فرانز فانون، في: فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة، م م، ص119.

[18] إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية، دار الآداب، بيروت 1994، ص239.

[19] نفسه، ص121.

[20] نفسه، ص121-122.

[21] نفسه، ص122

[22] نفسه، ص123.

[23] ليلى المالح: لقاء الحضارات في الفن القصصي لدى أمين الريحاني، رحلة الأديب المهاجر بين الموروث والمكتسب، في: أمين الريحاني والتجدّد العربي تحديات التغيير في الأدب والفكر والمجتمع، تحرير نجمة حجّار، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012، ص321.

[24] فالتر بنيامين، مهمة المترجم، في: مهمة-المترجم https://www.aljumhuriya.net/ar/content

ضفة ثالثة

———————–

مهمة المترجم/ فالتر بنيامين

ترجمة: كرم نشار

إلى لينا عطاالله.

صدر هذا النص الشهير للمرة الأولى في عام 1923 كمقدمة لترجمة فالتر بنيامين لـ المشاهد الباريسية، القسم الثاني من ديوان شارل بودلير أزهار الشر. كان بنيامين في الواحدة والثلاثين من عمره وقتها، حديث المعرفة بثيودور أدورنو وجورج لوكاش، وشديد الاهتمام بالرومنطيقية الألمانية. أُعيد نشر النص في عام 1955 مع مجموعة من الأعمال لبنيامين أشرف على اختيارها وتحريرها أدورنو، ومن ثم ترجمه هاري زون إلى الإنكليزية عام 1968 كواحد من عشر نصوص تأسيسية لبنيامين حررتها حنة آرنت وقدمتها للعالم الأنكلفوني للمرة الأولى في ذلك العام. ومنذ ذلك الوقت، سطع نجم «مهمة المترجم» كواحد من أشهر وأصعب النصوص الفلسفية عن الترجمة في القرن العشرين. ولأن بقية أعمال بنيامين لم يتم جمعها وإعادة نشرها وترجمتها إلا بعد المجموعات الأولى التي اختارها أدورنو وآرنت بكثير، لا يزال السياق الفكري لـ «مهمة المترجم» موضع بحث ونقاش لدى دارسي بنيامين حتى هذه اللحظة.

يستند النص العربي أدناه إلى ترجمة زون الإنكليزية بشكل أساسي، ويفترق عنه في بعض الأماكن لصالح ترجمة مارتين برودا الفرنسية الصادرة عام 1991 وترجمة ستيفن راندال الإنكليزية الصادرة عام 1997. أما في أماكن أخرى، شديدة الحساسية، فقد قمت بالعودة إلى الأصل الألماني وترجمته كلمة كلمة مستعيناً بالقاموس، ومن ثم استشارة الأستاذ آنسون رابينباخ، الذي قمت بقراءة «مهمة المترجم» للمرة الأولى في حلقة بحثه عن الفكر الألماني الحديث في برنستون، والأستاذ أوفه شتاينر رئيس قسم الدراسات الألمانية في رايس وأحد أبرز دارسي بنيامين ومترجمي حياته. ومنذ بداية الترجمة وحتى نهايتها، قدمت لي الأستاذة نسرين الزهر تشجيعاً وإرشاداً لا يقدر بثمن. وبالطبع يبقى أي خطأ في الترجمة مسؤوليتي وحدي.

هذه هي المحاولة الرابعة لترجمة «مهمة المترجم» إلى العربية بعد محاولات حسين موزاني وأحمد حسان وفتحي إنقزّو. ما حاولته هنا هو تقديم نص عربي أكثر جزالة وسلاسة من المحاولات السابقة، يَسمحُ للقارئ بتتبع محاججة بنيامين الصعبة دون تبسيطها من جهة، أو حجبها وراء ستار إضافي من التقعير والتكلّف من جهة أخرى. قمتُ بترجمة معظم الكلمات المفتاحية في النص بشكل مختلف أيضاً، وعمدت إلى شرح هذا في الحواشي، وأضفت تعريفات سريعة للشخصيات الألمانية التي يذكرها بنيامين وقد تكون مجهولة للقارئ العربي. بوصفها محاولة، لا تدعي هذه الترجمة مكانة «نهائية» كالتي يتحدث عنها بنيامين أبداً، بل تتوقع إزاحتها من قبل ترجمات أخرى قريباً. لكنها تأمل أن تُحدِثَ حتى ذلك الحين، وإن بشكل خافت ومؤقت وجنيني، «صدىً» عربياً جميلاً ومفهوماً لأفكار بنيامين، ولما وراءها من «لغة نقية».

*****

في معرض تقييم عمل أو شكل فني ما، ليس من المفيد أبداً الالتفاتُ إلى المتلقي. فمن المضلل الإحالة إلى جمهور معين أو ممثلين عنه. كما أن مفهوم المتلقي «النموذجي» هو بحد ذاته ضار في أي تقييم نظري للفن، فكل ما على هذا التقييم افتراضه هو وجود الإنسان وطبيعته عموماً. كذلك، وبشكل مشابه، يفترض الفن نفسه وجود الإنسان المادي والروحي، لكنه لا يعنى في أي من أشكاله بالتفات متلقيه. لا تُوجد القصائد من أجل قارئها، ولا اللوحات من أجل الناظر إليها، ولا السيمفونيات من أجل الجمهور [I].

هل توجد الترجمة من أجل هؤلاء القراء غير القادرين على فهم الأصل؟ قد يكون هذا هو السبب وراء موقعها المختلف في عالم الفن. أليس هذا هو السبب الوحيد لنقول «الشيء نفسه» أكثر من مرة؟ ولكن ما الذي «يقوله» أي عمل أدبي؟ ما الذي يحاول إيصاله؟ لمن يفهمه في لغته الأصلية، لا «يخبر» العمل الأدبي بالكثير. وظيفته الأساسية ليست الإعلام أو نقل المعلومات. ولكن في أي ترجمة تُعرِّفُ نفسها بوصفها نقلاً، لا يمكن نقل إلا المعلومات. هذه هي سمة الترجمة الرديئة. ألا نعتبر جميعاً، بما في ذلك المترجمين الرديئين، أن جوهر العمل الأدبي هو ما يحتويه إلى جانب المعلومات، ذلك الشيء الغامض أو الشعري الذي لا يمكن للمترجم إعادة إنتاجه إلا إذا كان شاعراً؟ يُظهر لنا هذا سمة أخرى من سمات الترجمة الرديئة، والتي يمكن أن نُعرِّفها بناءً على ذلك بوصفها نقلاً غير دقيق للمحتوى غير الهام. هذه حال الترجمة التي تسعى إلى خدمة القارئ. لكن كيف نستطيع تطبيق هذا المبدأ بالعودة إلى الأصل؟ إذا كان الأصل لم يوجد من أجل القارئ، كيف باستطاعتنا فهم الترجمة على الأساس نفسه.

الترجمة هي وضعية [II]. لكي يفهمها المرء بصفتها وضعية عليه أن يعود إلى الأصل. فهناك يوجد القانون الحاكم للترجمة: القابلية. يحمل السؤال عن كون عمل ما قابلاً للترجمة أم لا معنيين: هل يمكننا العثور على مترجم مناسب من ضمن جموع القراء، أو، وهذا هو السؤال الأكثر محورية هنا، هل هو بطبيعته قابل للترجمة، فيستدعيها من حيث هي وضعية؟ في المبدأ لا يمكن الإجابة على السؤال الأول إلا ظرفياً، أما السؤال الثاني فلا يمكن إلا مقاربته مطلقاً. وحده التفكير السطحي يُنكر المعنى المستقل للسؤال الثاني، ويعلن تساوي السؤالين في الأهمية. علينا أن نلاحظ أن بعض المفاهيم المرتبطة ببعضها لا يمكن تبيان معناها، وفي بعض الأحيان أهميتها القصوى، إلا من خلال الإحالة إلى الإنسان في المطلق. فعلى سبيل المثال، يستطيع المرء الحديث عن حياة لا تُنسَى حتى ولو نسيها بالفعل جميع الناس. إذا كانت طبيعة الحياة أو اللحظة تقتضي أن تُحفَرَ في الذاكرة، فإن واقع النسيان لا ينفي هذه الطبيعة بقدر ما يشير إلى وعدٍ فشلَ الناسُ في تحقيقه، وربما أيضاً إلى عالم آخر تحققت فيه، حيث يتذكرها الله. بشكل مواز، يجب علينا النظر إلى قابلية المخلوقات اللغوية للترجمة بغض النظر عن قدرة الناس في لحظة ما على ترجمتها. علينا أن نطرح المسألة بالشكل التالي: إذا كانت الترجمة وضعية، فقابلية الترجمة هي إحدى الخصائص الجوهرية لبعض الأعمال.

أن نقول إن قابلية الترجمة هي إحدى السمات الجوهرية لبعض الأعمال، لا يعني أن ترجمة هذه الأعمال جوهرية، بل أن أهمية خاصة موجودة في الأصل تتبدى من خلال قابليته للترجمة. من الواضح أن الترجمة، مهما كانت جودتها، لا تستطيع أن تملك أهمية تُذكر بالنسبة للأصل. ولكنها ترتبط به بشكل وثيق بسبب قابليته للترجمة، وفي الواقع فإن هذا الارتباط يصبح وثيقاً أكثر كلما قلّت أهمية الترجمة بالنسبة للأصل. فلندعو هذا الارتباط طبيعياً أو حيوياً. فكما أن مظاهر الحياة ترتبط بشكل وثيق بظاهرة الحياة دون أن تكون ذات أهمية لها، كذلك تنبع الترجمة من الأصل، ولكن من حياته الآخرة أكثر من حياته نفسها[III]. فالترجمة تأتي بعد الأصل، وقلّما تجد الأعمالُ الأدبيةُ الهامة مترجمها الأمثل وقت صدورها، وترجمتها تعكس مرحلة من حياتها المستمرة بعد ذلك. فكرة الحياة وما بعد الحياة في الأعمال الفنية يجب أن تؤخذ على محمل الجد كشيء موضوعي بعيد عن أي رمزية. فحتى في أزمنة الفكر المنحاز الضيق، كان هناك ميل لاعتبار أن الحياة لم تكن محصورة في التجسد العضوي. لا يعني هذا الحديث عنها من خلال الشبح الضعيف للروح، كما حاول فيشنر1، أو على العكس، ربطها بعوامل حيوانية كالإحساس، والتي لا ترافق الحياة إلا في بعض المناسبات. لا يأخذ مفهوم الحياة حقه إلا عندما نعطي كل ما لديه تاريخ، لا كل ما هو فقط مسرحٌ للتاريخ، حصته المستحقة من الحياة. في نهاية المطاف، لا يتحدد نطاق الحياة إلا من خلال التاريخ وليس من خلال الطبيعة، وبالتأكيد ليس من خلال عوامل واهية كالإحساس والروح. تكمن مهمة الفيلسوف في فهم الحياة الطبيعية بمنظار الحياة بوصفها تاريخاً. وبالفعل، أليس من الأسهل التعرف على الحياة المستمرة للأعمال الفنية بالمقارنة مع الفصائل الحيوانية؟ يخبرنا تاريخ الأعمال الفنية عمّا سبقهم من أسلاف، عن كيفية إنجازهم في عصر الفنان، وعن حياتهم اللاحقة التي قد تكون خالدة عبر الأجيال. تلك الأخيرة هي ما نسميه بالشهرة. تظهر الترجمات، التي هي أكثر من مجرد نقل للموضوع، في تلك المرحلة من حياة العمل عندما يصل إلى عصر شهرته. لذلك، وعلى عكس ادعاءات المترجمين الرديئين، لا تخدم هذه الترجمات العمل الأصل بقدر ما تدين له بوجودها. ففيها يحقق الأصل ازدهاره المتجدد المعطاء.

وبوصفه نوعاً خاصاً وسامياً من الحياة، يكون هذا الازدهار محكوماً بنوع خاص وسامٍ من الصبو النهائي [IV]. العلاقة بين الحياة ومنتهاها، والتي تبدو بديهية ومستعصية على العقل التحليلي في آن واحد، لا تكشف عن نفسها إلا عندما يتموضع هدف كل سعي مفرد خارج نطاقه الخاص، في نطاق أعلى وأسمى. كل تمظهرات الحياة الصابية إلى منتهاها، بما في ذلك صبوها النهائي نفسه، لا تنحو نحو الحياة بحد ذاتها، بل نحو التعبير عن طبيعتها، نحو تجسيد قيمتها. بهذا المعنى، تصبو الترجمة نحو التعبير عن العلاقة التناظرية المركزية بين اللغات المختلفة. لا تستطيع بحد ذاتها أن تكشف عن هذه العلاقة أو أن تنتجها، لكنها تستطيع تمثيلها من خلال تحقيقها بشكل مكثف أو جنيني. قلّما يوجد شيء شبيه بهذا التمثيل خارج نطاق الحياة اللغوية. فالحياة خارج اللغة، برموزها وتناظراتها، تستند إلى طرق أخرى في اقتراح المعنى، طرق تختلف عن الإدراك المكثف القادر على الاستباق والتلميح. أما علاقة القرابة المحورية بين اللغات، فيطبعها التقاء خاص. اللغات ليست غريبة عن بعضها، بل هي مسبقاً وبغض النظر عن علاقاتها التاريخية، مترابطة في تعبيرها.

بعد هذا الشرح، سيبدو وكأن هذه الدراسة تعود لتلتقي مع النظرية التقليدية في الترجمة بعد بعض الالتفافات العقيمة. فإذا كانت الترجمات تجسيداً للقرابة بين اللغات، ألا يتحقق هذا فقط من خلال أدق نقل ممكن للشكل والمعنى؟ ولكن هذه النظرية لا تستطيع تعريف طبيعة الدقة، ولذلك لا تلقي أي ضوء على ما هو مهم في أي ترجمة. في الواقع، تتبدى القرابة بين اللغات في الترجمة بشكل أكثر عمقاً ووضوحاً من التشابه السطحي والغائم بين عملين أدبيين. لكي نستوعب العلاقة الحقيقية بين الأصل والترجمة، علينا أن نتوخى استقصاءً يشبه في مآلاته الأبستمولوجيا النقدية القائلة باستحالة «نظرية الانعكاس» في المعرفة[V]. فكما في الأبستمولوجيا النقدية تتمحور القضية حول إظهار استحالة المعرفة الموضوعية، أو حتى الحق في ادعائها، إن كانت هذه المعرفة عبارة عن تصوير للواقع. كذلك هنا تتعلق المسألة بإظهار أن الترجمة مستحيلة إن كان هدفها الجوهري هو التشابه قدر الإمكان مع الأصل. ففي حياته الآخرة – والتي لا يمكن تسميتها كذلك إن لم يطبعها تحول وتجدد شيء حي – يتغير الأصل. حتى الكلمات ذات المعنى الثابت تنضج مع الوقت. التوجه الواضح لأسلوب الكاتب الأدبي قد يخبو ويضمر مع الوقت، فيُفسح المجال لنزعات كامنة أخرى في المُنتَج الأدبي. ما كان وقعه طازجاً قد يصبح بائتاً فيما بعد، وما كان شائعاً قد يصبح غريباً. أن نُرجِعَ هذه التغيرات، وكذلك التغيرات المستمرة في المعنى، إلى نفسية الأجيال اللاحقة بدلاً من حياة اللغة نفسها وما تقوم به، حتى لو سمحنا بأكثر أشكال التحليل النفسي ابتذالاً، يعني أن نخلط بين جذر الشيء وجوهره. إنها تعني إنكار إحدى أكثر العمليات التاريخية قوة وإنتاجاً نتيجة عجز في التفكير. وحتى لو حاول المرء اعتبار أن ضربة قلم الكاتب الأخيرة هي بمثابة رصاصة الرحمة التي يطلقها على أعماله، لن ينقذ هذا نظرية الترجمة الميتة. فكما أن نبرة وأهمية الأعمال الأدبية العظيمة تمر بتحول كامل عبر القرون، كذلك تستمر لغة المترجم نفسها في التحول أيضاً. وفي حين تصمد كلمات الشاعر في لغته الأصلية، يُكتب للترجمة العظيمة أن تصبح جزءاً من نمو وتجدد لغتها. وحدها الترجمة من بين كل الأشكال الأدبية من تشهد على نضج لغة الأصل وصرخات ولادة لغتها الخاصة في الوقت نفسه، لذلك فهي أبعد ما تكون عن معادلة عقيمة بين لغتين ميتتين.

إذا كانت القرابة بين اللغات تظهر في الترجمة، فهذا لا يتحقق من خلال تشابه غامض بين الأصل والمأخوذ عنه. أليس صحيحاً أن القرابة لا تعني بالضرورة الشبه. مفهوم القرابة كما نستخدمه هنا يتوافق مع استخدامه الضيق المتعارف عليه: في كلا الحالتين، لا يمكن حصر القرابة بتطابق الأصل، ولا يمكن التخلي عن تطابق الأصل في الوقت عينه. أين يقبع الارتباط بين لغتين بالضبط إذا وضعنا الاعتبارات التاريخية جانباً؟ بالتأكيد ليس في تشابه الكلمات أو الأعمال الأدبية، بل في النية القابعة تحت كل لغة بمجملها: هذه النية لا تستطيع أي لغة بمفردها تحقيقها، وإنما فقط من خلال مجموع النوايا التي تزيدها اللغات على بعضها: تلك هي اللغة النقية. في حين تبقى العناصر الفردية في اللغات المختلفة غريبة عن بعضها، كالكلمات والجمل والبنية، تُكمّل هذه اللغات بعضها في مقاصدها. لا يمكننا فهم هذا القانون الأساسي في فلسفة اللغة دون التمييز بين الشيء المقصود وكيفية القصد. تقصد كلمتا (brot) و(pain) الشيء نفسه، الخبز، لكن كيفية القصد مختلفة. بسبب كيفية القصد هذه توحي كلمة بروت لألماني شيئاً مختلفاً عما توحيه كلمة بان لفرنسي، وبسبب كيفية القصد يبدو وكأننا لا نستطيع استعاضة هذه الكلمة بتلك، وكأن الكلمتان تستبعدان بعضهما. ولكن بالنسبة للشيء المقصود، تعني الكلمتان الشيء ذاته تماماً. في حين تتنافر كيفيات القصد في هاتين الكلمتين، يتكامل القصد والشيء المقصود في اللغتين. في لغة واحدة، لا نعثر على المعنى في الكلمات أو الجمل المفردة، بل في تتابعها، ولذلك يبقى المعنى في حالة متغيرة إلى أن يتوضح كلغة نقية من خلال تجانس مجموع المقاصد أو النوايا القابعة خلف تلك الكلمات والجمل. حتى تلك اللحظة يبقى المعنى مختبئاً داخل اللغة. ولكن، وفي حين تستمر اللغات بالنمو على هذا الشكل إلى يوم قيامتها، فإن الترجمة المشتعلة من نار الحياة الآخرة المستمرة للأعمال والتجدد الدائم للّغات، هي التي تستمر في امتحان هذا النمو المقدس للّغات: إلى أي مدى يبقى معناها المخبأ بعيداً عن التجلي، وكم نقترب منه عندما ندرك بعده؟

يعني هذا بلا شك أن كل ترجمة هي إلى حد ما طريقة مؤقتة للتصالح مع غربة اللغات عن بعضها. أما أن نجد حلاً دائماً ونهائياً لهذه الغربة، فهذا يبقى خارج قدرة الجنس البشري، وقد استعصى على كل محاولة مباشرة. ولكن، وبشكل غير مباشر، يساهم نمو الأديان في إنضاج البذرة المختبئة في اللغات نحو لغة أكثر سمواً. وهكذا، وعلى الرغم من أن الترجمة، على عكس الفن، لا تستطيع ادعاء الدوام لمنتجاتها، فإنها لا تنكر سعيها نحو مرحلة نهائية وحاسمة في التطور اللغوي. في الترجمة، يسمو الأصل إلى أثير لغوي أعلى وأكثر نقاء. لا يبقى هناك على الدوام، بلا شك، وهو لا يصل إلى هناك بكليته أصلاً. ولكن، وبشكل فريد ولافت، تشير الترجمة إلى تلك المنطقة الأثيرية المغلقة إلى ذلك الحين حيث تتصالح اللغات وتتكامل. لا يمكن للانتقال أن يكون تاماً، ولكن ما يصل إلى تلك المنطقة هو ذلك العنصر في الترجمة الذي يتجاوز مجرد نقل الموضوع قيد البحث. هذا العنصر أو النواة يمكن وصفها بأنها العنصر الذي لا يتيح نفسه للترجمة. حتى بعد أن تتم ترجمة المادة السطحية السهلة، يبقى هدف المترجم الحقيقي صعب المنال. فعلى عكس كلمات الأصل، لا يمكن ترجمة هذه النواة لأن العلاقة بين المضمون واللغة في الأصل تختلف عنها في الترجمة. ففي حين يشكل هذان العنصران نوعاً من الوحدة في الأصل، كالثمرة وقشرتها، تغلف لغة الترجمة المضمون كثوب ملكي مليء بالطيات والثنايا. فهي تحاول الدلالة على بلاغة لغوية أسمى من بلاغتها، فتبقى لذلك غير متناسبة مع مضمونها، غريبة ومُفرطة. يعيق هذا الافتراق الترجمة مرة جديدة ويجعلها زائدة في الوقت نفسه. فأي ترجمة تنبع من مرحلة معينة من التطور اللغوي التاريخي تمُثل وتنوب، في إحدى جوانبها المحددة، عن نظيراتها إلى كل اللغات. تزرع الترجمة أصلها إذاً، وهنا تكمن المفارقة، في مجال لغوي أكثر نهائيةً، لا ينزاح فيه الأصل مجدداً من خلال ترجمة للترجمة، بل يُرفع إليه من جديد في وقت آخر. ليس من الصدفة طبعاً أن تستدعي كلمة «مفارقة» في أذهاننا الأدباء الرومنطيقيين [VI]. فهؤلاء أكثر من غيرهم تمتعوا بموهبة النظر الثاقب إلى حياة الأعمال الأبدية التي تقدم الترجمةُ الشهادةَ الأسمى عنها. بالطبع لم يعترفوا للترجمة بهذه المكانة بشكل واع، بل صرفوا تركيزهم إلى النقد، وهو عامل آخر في الحياة المستمرة للأعمال الأدبية، وإن كان أقل شأناً. ولكن حتى وإن تجاهل الرومنطيقيون الترجمة في أعمالهم النظرية، تبقى الترجمات التي أنتجوها شاهدة على إحساسهم بقيمة وجوهر هذه الوضعية الأدبية. هناك الكثير من الأدلة أن هذا الإحساس قد لا يتوافر بالضرورة لدى الشاعر، على العكس قد لا يقبل به على الإطلاق. ولا يدعم التاريخ الأدبي المفهومَ التقليدي القائل أن الشعراء العظام كانوا مترجمين مبرزين، وأن الشعراء الأقل أهمية كانوا مترجمين باهتين. فمن بين المرموقين، كان لوثر2 وفوس3 وشليغل4 أكثر أهمية بما لا يقاس كمترجمين منهم كشعراء، وآخرون كهولدرلين5 وشتيفان جورج6، لا يمكن اختصارهم بوصفهم شعراء إذا نظرنا إلى مجمل أعمالهم، وبالتحديد إلى أعمالهم كمترجمين. فكما أن الترجمة هي وضعية مستقلة بحد ذاتها، كذلك يمكن اعتبار مهمة المترجم مستقلة ومختلفة بشكل واضح عن مهمة الشاعر.

تتجلى مهمة المترجم في العثور على ذلك الأثر المنشود في اللغة المُترجَم إليها، الذي يُحدث فيها صدىً للأصل. هذه هي سمة الترجمة التي تميزها عن عمل الشاعر، لأن جهد الثاني لا ينصب على اللغة بحد ذاتها، على كليتها، بل فقط وبشكل مباشر على جوانب لغوية سياقية محددة. على عكس عمل أدبي، لا تجد الترجمة نفسها في عمق غابة اللغة بل في الخارج المواجه للتلال المشجرة، تنادي عليها دون أن تدخلها، مستهدفة تلك البقعة الفريدة حيث يتمكن الصدى في لغته الجديدة من محاكاة ترددات العمل في لغته الأصلية. ولا تختلف الترجمة عن العمل الأدبي في هدفها فقط، من حيث أنها تستهدف اللغة بمجملها مبتدئة من عمل أدبي أجنبي مفرد، بل هي نوع من الجهد المختلف تماماً. فقصد الشاعر عفوي، أولي، وتصويري، أما المترجم فقصده اشتقاقي، نهائي، وتفكري. في الترجمة، نرى ذلك الحافز العظيم لكي تتكامل ألسنة متعددة في لغة واحدة حقيقية. في هذه اللغة الجديدة، لا تتوافق الجمل الفردية أبداً، كبنىً أدبية أو أحكام نقدية، فهي تبقى تحت رحمة الترجمة، ولكن اللغات نفسها، في تكاملها وتوفيقها بين طرق دلالاتها، تتناغم. فإن كان هناك لغة للحقيقة، ذلك المخزن الهادئ، بل والصامت، للحقيقة المطلقة التي يسعى إليه كل فكر، فإن لغة الحقيقة هذه هي اللغة الحقيقية. وهذه اللغة، التي يشكل استيحاؤها ووصفها نوعَ الكمال الوحيد الذي يمكن لأي فيلسوف أن يطمح  إليه، تقبع بشكل مركز في الترجمة. لا نتحدث عن الإلهام لا في الفلسفة ولا في الترجمة، ولكنهما وعلى عكس ادعاءات الفنانين العاطفيين، ليسا جامدين عديمي الروح. هناك عبقرية فلسفية في السعي نحو لغة الحقيقة تتمظهر في الترجمة. «محدودية اللغات تتمظهر في تعددها. اللغة العظمى مفقودة، حيث التفكير هو الكتابة بلا تجميل، بلا همس حتى، الكلمة الخالدة لا تزال صامتة، تعدد اللغات على الأرض يمنع الجميع من لفظ الكلمات التي، إن وجدت، جسدت الحقيقة بضربة واحدة»7. إن كان للفيلسوف فهم ما يستدعيه مالارميه8 هنا، فالترجمة وما تملكه من بذورِ للغة كهذه تقع في الوسط بين الشعر والمنهج. قد تكون منتجاتها أقل وضوحاً، لكن أثرها في التاريخ ليس أقل أهمية.

إذا نظرنا إلى مهمة المترجم من هذه الزاوية، ستبدو الطريق أمامه أكثر ظلاماً وتمنّعاً. فإنضاج بذرة اللغة النقية في ترجمة ما يبدو عصياً، لا يمكن إيجاده في أي حل. أفلا نَحكم على هذا التحدي بالفشل منذ البداية عندما نقول إن إعادة إنتاج المعنى ليست هي العامل الحاسم في الترجمة. من وجهة نظر سلبية، هذا هو بالفعل معنى ما تَقدَّم. المفاهيم التقليدية في أي نقاش عن الترجمة هي الأمانة والحرية، حرية إعادة الإنتاج المخلص للمعنى، وفي سبيلها، الأمانة للكلمة. لا تبدو هذه المفاهيم نافعة في نظرية تبحث عن أشياء غير إعادة إنتاج المعنى في الترجمة. في الواقع، عند الاستخدام التقليدي، تجد هذه الكلمات نفسها في نزاع مستمر لا يمكن فضّه. ما الذي تستطيع الأمانة فعله لعملية نقل المعنى؟ الأمانة في ترجمة كلمات مفردة تكاد لا تستطيع على الإطلاق إعادة إنتاج معناها في الأصل. فالمعنى في بعده الشعري لا ينحصر بمعنى الكلمات، بل ينساب من مغزى اختيار كلمة محددة للتعبير عنه. نقول عن الكلمات أنها تملك مغازٍ عاطفية. الترجمة الحرفية للجمل تدمر نظرية إعادة إنتاج المعنى كلياً، وتشكل خطراً مباشراً على قابلية الفهم. اعتبر القرن التاسع عشر ترجمات هولدرلين لسوفوكليس أمثلة شنيعة عن الحرفية هذه. وأخيراً، من الواضح أن الأمانة في إعادة إنتاج شكل النص الأصيل تعيق نقل معناه. لذلك، لا يمكن الدفاع عن الحرفية باسم الرغبة في الحفاظ على المعنى. باستطاعتنا خدمة المعنى بشكل أفضل، وخدمة الأدب واللغة بشكل أسوأ، من خلال الإجازة المنفلتة للمترجمين السيئين. علينا إذاً، وبالضرورة، أن نفهم الحاجة للحرفية، الواضحة في عدلها، والغامضة في جذورها، في سياق آخر أكثر منطقية. على قطع وعاء مكسور أن تتطابق مع بعضها في أدق النتوءات لكي يتم لصقها سوياً، دون أن تتشابه بالضرورة. بالطريقة نفسها، على الترجمة، بدلاً من مشابهة معنى الأصل، تجسيد كيفية الأصل في القصد أو الدلالة بحب وبكثير من التفصيل، فنتمكّن من تبيّن الأصل والترجمة بصفتهما قطعتين متآلفتين من لغة أكبر، كما قطع الوعاء تماماً. لهذا السبب تحديداً، على الترجمة أن تقاوم الرغبة في إيصال شيء ما، في نقل المعنى، وهنا يصبح الأصل مهماً للمترجم فقط من ناحية أنه يريح المترجم وترجمته من عبء خلق وتنظيم ما يجب العمل عليه. في عالم الترجمة أيضاً تصح الكلمات «في البدء كانت الكلمة». أما فيما يتعلق بالمعنى، فباستطاعة لغة المترجم، أو بالأحرى من الواجب عليها، أن تطلق لنفسها العنان، فتعطي صوتاً لمقصد الأصل لا من خلال إعادة الإنتاج بل من خلال التناغم، وكأنها مكملة للغة التي يعبر فيها الأصل عن ذاته، وكأنها تملك مقصدها الخاص. لذلك، ليس المديح الأسمى لترجمة ما، سيما إن ظهرت في عصر الأصل، القول إنها تبدو للقارئ وكأنها كُتِبَت في الأصل بلغة الترجمة. فأهمية الأمانة المستقاة من النقل الحرفي أنها تعكس في العمل ذلك التوق العظيم للتكامل اللغوي. الترجمة الحقيقية شفافة، لا تغطي الأصل، لا تحجب ضوءه، بل تسمح للّغة النقية، المستعينة هنا بلغتها الجديدة، أن تضيء على الأصل بشكل أكثر كمالاً. من الممكن تحقيق هذا من خلال نقل حرفي للجمل، تكون فيه الكلمات وليس الجُمل عنصر عمل المترجم الأساسي. فإذا كانت الجملة هي الجدار القابع أمام لغة الأصل، تكون الحرفية هي الممر.

لطالما تم اعتبار الأمانة والحرية في الترجمة نزعتين متناقضتين. أما التفسير المقدم هنا للأولى فيبدو وكأنه لا يصالحهما، بل ينكر أي تبرير للثانية. فما الذي نعنيه بالحرية سوى قول أن نقل المعنى لم يعد هو القضية الأهم؟ فقط عندما نساوي بين معنى منتج لغوي والمعلومات التي ينقلها يبقى هناك عنصر حاسم أخير مستعصٍ على كل إيصال، قريب وشديد البعد في الوقت عينه، متخف أو واضح، مبعثر أو قوي. في كل اللغات والمخلوقات اللغوية، هناك دوماً إلى جانب ما يمكن نقله، شيء لا يمكن إيصاله، وحسب السياق فقد يكون شيئاً رامزاً أو مرموزاً إليه. هو رامز فقط في المنتجات النهائية للغة، ومرموز إليه في سياق تطور اللغات نفسها. وذلك الشيء الساعي دوماً للتعبير عن نفسه، لإنتاج نفسه من خلال تطور اللغات، ليس إلا نواة اللغة النقية. قد يكون مجزءاً ومخبئاً، لكنه يبقى قوة فاعلة في الحياة كما الشيء المدلول عليه بحد ذاته، في حين يحيا في المخلوقات اللغوية بشكل رمزي. يرتبط هذا الجوهر المطلق، اللغة النقية، على اختلاف الألسنة، بالعناصر اللغوية البسيطة وتغيراتها، في حين أنه يختبئ في المخلوقات اللغوية المركبة داخل معان غريبة وغامضة. أن نريحها من هذا، أن نحول الرامز إلى المرموز إليه، أن نستعيد اللغة النقية كاملةً في خضم التغيير اللغوي، هو الدور الهائل والوحيد للترجمة. في تلك اللغة النقية ـ التي لا تعني ولا تعبر عن أي شيء ولكنها، كما هي الكلمة الخالقة بألم ولام التعريف، المقصودة في كل اللغات – في تلك اللغة، تلتقي كل المعلومات والمعاني والمقاصد في طبقة أثيرية عليا تنهي علّة وجودها. تقدم هذه الطبقة الأثيرية مبرراً جديدة وأكثر سمواً للترجمة الحرة: لا ينبع هذا المبرر من المعنى الذي يجب إيصاله، فالحَرفية تحررنا من هذا المعنى. لا. الترجمة الحرة، وفي سعيها إلى اللغة النقية، تضع الوزر على لغتها هي. إن مهمة المترجم هي أن ينفث في لغته اللغة النقية التي لمستها العصا السحرية لكاتب آخر، أن يحرر اللغة الحبيسة في عمل ما من خلال إعادة خلقه لهذا العمل. في سعيه نحو اللغة النقية، يكسر المترجم الحواجز المهترئة للغته. لقد وسّع لوثر، فوس، هولدرلين، وجورج مجالات اللغة الألمانية. أما عن المعنى وأهميته في العلاقة بين الأصل والترجمة، فربما يفيدنا تشبيه هنا: كما أن خط المماس يلمس الدائرة بخفة في نقطة واحدة فقط، ويتابع مساره إلى اللانهاية حسب قانون تحدده واقعة اللمس وليس نقطتها، كذلك تُلامِس الترجمةُ الأصلَ بخفة وفي نقطة واحدة متناهية الصغر هي المعنى، فتمضي بعد ذلك في مسارها الخاص حسب قانون الأمانة داخل حرية الدفق اللغوي. لقد وصف رودولف بانفيتز9 الأهمية الحقيقية لهذه الحرية دون أن يسميها أو يموضعها. ملاحظاته تلك موجودة في عمله أزمة الثقافة الأوروبية، وتقف إلى جانب ملاحظات غوته في ديوان غرب-شرق بوصفها أفضل تعليق منشور باللغة الألمانية على نظرية الترجمة:

    ترجماتنا، حتى تلك الممتازة منها، تبدأ من افتراض أساسي خاطئ. إنها تريد أن تحول الهندية، اليونانية، الإنكليزية إلى الألمانية بدلاً من تحويل الألمانية إلى الهندية، اليونانية، الإنكليزية. يملك مترجمونا احتراماً أكبر لاستعمالنا للغتنا الخاصة من احترامهم لروح الأعمال الأجنبية. خطأ المترجم الأساسي أنه يحافظ على الحالة التي يصادف أن تكون عليها لغته بدلاً من السماح لتلك اللغة أن تتأثر بقوة باللسان الأجنبي. عندما يترجم خصوصاً من لغة بعيدة جداً عن لغته، على المترجم أن يعود إلى العناصر الأولية لهذه اللغة ويسبرها إلى الحد الذي يتلاقى فيه ويتناغم العمل والصورة والنبرة. عليه أن يوسّع ويُعمق لغته هو بواسطة اللغة الأجنبية. لا ندرك عموماً إلى أي حد نستطيع فعل ذلك، إلى أي حد يمكن للغات أن تتحول، كيف تختلف اللغات عن بعضها كما تختلف اللهجات عن بعضها، لكن هذا يصح عندما نأخذ اللغة على محمل الجد، وليس عندما نتناولها بخفة.

ما يقرر قدرة أي ترجمة على الالتزام بطبيعتها كوضعية خاصة هو قابلية الأصل للترجمة. فكلما تدنت نوعية وفرادة لغته، فزادت نسبة المعلومات فيه، كلما كان حقلاً أقل خصوبة للترجمة. حتى إذا غلب عليه المحتوى، والذي لا يصلح أبداً أن يكون رافعة لترجمة متميزة، فتصبح ترجمته مستحيلة. كلما سما مستوى عمل ما، كلما بقي قابلاً للترجمة، حتى لو تمت ملامسة معناه بشكل عابر فقط. هذا طبعاً يصح على النصوص الأصيلة فقط. أما ترجمة الترجمات فهي مستحيلة، لا لصعوبة ملازمة لها بل بسبب مدى رخاوة المعنى فيها. يمكننا التأكد من هذا ومن كل جانب مهم آخر من خلال ترجمات هولدرلين، ولا سيما ترجماته لتراجيديتي سوفوكليس. ففيهما يبلغ عمق تناغم اللغة حداً يبدو معه وكأن اللغة تلامس المعنى كما تلامس الريح أوتار القيثارة الهوائية. ترجمات هولدرلين هي نماذج لبنات جنسها، هي بالنسبة لأفضل ترجمات هذه النصوص كما المثال النموذجي بالنسبة لأي مجسم. نستطيع تَبيُّنَ هذا من خلال مقارنة ترجمات هولدرلين ورودولف بورشارت10 للقصيدة الغنائية الفيثية الثالثة لبيندار. ولهذا السبب تحديداً، تواجه ترجمات هولدرلين أكثر من غيرها خطراً داهماً يواجه الترجمات كلها: أن تغلق بوابات اللغة بعد أن اتسعت وتغيرت بهذا الشكل، فتحبس المترجم داخل الصمت. ترجمات هولدرلين لسوفوكليس كانت عمله الأخير، وفيهما يهوي المعنى من هاوية لهاوية حتى يصبح مهدداً بالضياع في عمق لغوي لا قاع له. ولكن هناك حداً لهذا. لم يضمنه من النصوص إلا الكتاب المقدس، حيث لم يعد المعنى خطاً فاصلاً لانسياب اللغة والوحي. هناك، حيث يتطابق النص مع الحقيقة والعقيدة، حيث يجسد «اللغة الحقيقية» بكل حرفيتها ودون وساطة المعنى، ذلك هو النص القابل للترجمة ببساطة ونقاء. في حالة كهذه، لا تستوجب الترجمة إلا بسبب تعدد اللغات، وكما في الأصل تتطابق اللغة مع الوحي دون أي توتّر، كذلك تتطابق الترجمة مع الأصل في نسخة الكتاب المقدس بين-السطرية، حيث تتحد الحَرفية مع الحرية11. فإلى حد ما، تحتوي كل النصوص العظيمة على ترجمتها المحتملة بين سطورها، وهذا يصح إلى أقصى حد في الكتابات المقدسة. النسخة بين-السطرية للكتاب المقدس هي مثالُ ونموذجُ كل الترجمة.

    ملاحظات المترجم:

    [I] استخدم بنيامين في هذه الجملة الفعل الألماني (gelten)، والذي قد يعني حسب السياق أن يكون الشيء صالحاً أو متحققاً، فإن كان صالحاً أو متحققاً من خلال شيء آخر، يمكن إعطاؤه كما فعل راندال والموزاني وحسان وإنقزّو معنى التوجه إلى هذا الشيء أو القصد أو المخاطبة أو الاستهداف. على عكسهم، لجأت مارتين برودا إلى الفعل الفرنسي (valoir) لتعطي ترجمتها معنى أن العمل الفني لا يستحق قيمته أو لا يستمد قيمته من خلال الجمهور، بما أعتقد أنه أقرب إلى المعنى وإن كان يخاطر في تحديده تماماً بهذا الشكل. أما زون فيستخدم الصيغة الإنكليزية (meant for) التي قد تحيلنا مجدداً إلى معنى التوجه أو الاستهداف، إلا إن فهمناها بالمعنى الوجودي الأوسع. هذا المعنى الوجودي الواسع مرتبط بالفهم الرومنطيقي للفن والأدب، ومن ورائهما اللغة، بصفتها كائناً حياً ذا تاريخ وكيان مستقل، وليس مجرد رسالة مقصودة متوجهة من شخص لآخر في زمان ومكان معينين. هذا يعني إعلاءً للعمل على حساب خالق العمل ومتلقيه على حد سواء، وقد لا يكون من الصدفة أن بنيامين في هذا المقطع الشهير في وقعه الصادم لا يذكر الفنان الفاعل قط، بل الفن والمُنتَجَ الفني فقط. لذلك كله لجأتُ إلى الصيغة «لا يوجد من أجل» بشكل يتقاطع مع معاني التوجه واستمداد القيمة دون أن ينحصر فيهما، ويمهد لفكرة الترجمة الرديئة كترجمة «توجد من أجل» القارئ.  كل الشكر للأساتذة رابينباخ، شتاينر، والزهر على الإرشاد والمساعدة في فهم هذه الجملة.

    [II] الكلمة الألمانية التي يستخدمها بنيامين هي (form)، فقام حسين موزاني بترجمتها إلى «شكل». ولكن هذه الكلمة في العربية توحي بمعنىً يتعارض تماماً مع العمق الفلسفي الذي يريد بنيامين موضعته في الترجمة، بصفتها سعياً نحو اللغة الكونية النقية. ترجم هازي زون وستيفن راندال الكلمة إلى (mode) على الرغم من وجود المقابل الإنكليزي المباشر (form) لهذا السبب، ولكن أحمد حسان قام بترجمة (mode) إلى «صيغة» ذات المعنى اللغوي الضيق أولاً، والتي تحيلنا إلى الترجمة كمُنتَج وليس إلى الترجمة كفعل ثانياً. يبتعد فتحي أنقزو محقاً عن المعنى اللغوي الضيق عندما يترجم الكلمة نفسها إلى «هيئة»، ولكن هيئة تحيلنا إلى شيء ظاهري بشكل أساسي، لا تصح تماماً كوصف لفعل الترجمة الذي قد يكون أو لا يكون حسب القابلية. لذلك لجأت بدلاً من ذلك إلى كلمة «وضعية»، بمعنى أن فعل الترجمة هو وضعية يمكن أخذها إذا كان النص قابلاً للترجمة، حسب بنيامين.

    [III] الكلمة الألمانية التي يستخدمها بنيامين هي (überleben) والتي تعني فعل البقاء أو الاستمرار على قيد الحياة، أما كاسمٍ فالكلمة تعني الحياة ما بعد الحياة، أو ما قام زون بترجمته إلى (afterlife). هناك مقالات أكاديمية بحالها عن الفرق بين المعنيين، وأيهما أفضل في هذا السياق. بالنظر إلى أهمية مفهوم حياة العمل الأدبي أو الفني لدى بنيامين في هذه المقالة، والحضور اللافت لمفاهيم التجلي الديني في فلسفته عموماً وفي إحالته في نهاية المقال إلى الكتاب المقدس، يبدو لي أن الكلمة الأكثر مناسبة هنا هي «الحياة الآخرة». هذا يختلف عن اختيار موزاني لترجمة الكلمة كـ «بقاء» أو أحمد حسان «الحياة الأخرى أو ما بعد الحياة» ويقترب قليلاً من خيار أنقزو الذي يقول فقط «آخرته».

    [IV] يستخدم بنيامين كلمة (Zweckmäßigkeit)، ويقوم حسين موزاني بترجمتها كـ «صلاحية» بشكل يدمر المعنى المقصود تماماً. يجترح أحمد حسان كلمة «قصدية» بالاستناد إلى كلمة (purposiveness) الإنكليزية، في حين يلجأ فتحي أنقزو إلى كلمة «غائية»، وفي كلا الحالتين تتم مقاربة المعنى بشكل أفضل بكثير من موزاني. مع ذلك، تحيلنا كلمتا قصدية وغائية إلى مفهوم ساكن ومُقعّر، في حين يكشف تركيب «الصبو النهائي» من خلال اسم الفعل عن الحركة الكامنة في الفكرة وبالاستناد إلى فعل عربي مطروق وواضح. أما لِفهم فكرة الصبو الهادف الكامن في كل شيء حسب المنطق الأرسطي واستعادته لدى الرومنطيقيين الألمان ومن بعدهم هيغل، فأنصح بالعودة إلى مقدمة كتاب شارلز تايلور الشهير عن هيغل (Charles Taylor, Hegel, Cambridge: 2006, p. 3-50).

    [V] ما يقصده بنيامين هنا هي النظرية الأمبيريقية في المعرفة التي طورها جون لوك في بريطانيا، والقائلة أن المعرفة تولد بشكل أساسي من خلال الملاحظة الحسية، وأن المعرفة هي «انعكاس» للواقع. أما الأبستمولوجيا النقدية فهي التي تنهل من كانط بشكل أساسي. يترجم حسين موزاني الكلمة كنظرية التطابق، مع إيراد الأصل الألماني abbiltheorie، في حين يخطئ حسان خطأ هاري زون في ترجمته المصطلح حرفياً بصفته نظرية الصورة. أما أنقزو فيلجأ إلى النظرية الانعكاسية لكن يترجم الابستمولوجيا النقدية كـ «نقد المعرفة». لجأت إلى نظرية الانعكاس هنا بالاستناد إلى المصطلح الأكثر شيوعاً عن الأبستمولوجيا الأمبيريقية بوصفها (reflection theory)، ناحياً في ذلك منحى ستيفن راندال.

    [VI] تفتقر اللغة العربية حتى الآن لترجمة لكلمة (irony/ironie) لا تختزلها في مفهوم السخرية أو التهكم الضيق، بل تحيل أيضاً وباقتدار وسلاسة إلى المعنى الأوسع الدال على التضاد أو الافتراق أو التفارق. يلجأ حسين موزاني إلى كلمة تهكمي بشكل يشوه المعنى، في حين يلجأ أحمد حسان إلى «مفارقة»، وقد نحوت نحوه هنا. أما أنقزو فيلجأ إلى «ومن سخرية الأقدار» كاملة التي تبدو مُقحمة وخارج السياق، وإن كانت أكثر دقة من تهمكيّ بلا شك. أما قول بنيامين أن ذكر كلمة (ironisch) يستدعي الرومنطيقيين، فذلك لأنهم عبروا عن نوع من الوعي الذاتي في أعمالهم من خلال خرق سردياتهم الأدبية وعوالمها بإحالات إلى أنفسهم أو إلى الأعمال بصفتها أعمالاً وليس عوالم حقيقية بشكل لعوب وقد يكون ساخراً. في الإنكليزية تعتبر قصيدة دون خوان لبايرون المثال النموذجي عن تقنية المفارقة الرومنطيقية هذه.

هوامش

———————–

1. غوستاف فيشنر (1801-1887) (Fechner) فيلسوف وعالم نفس تجريبي ألماني يُعتبر رائداً في مجال علم النفس الفيزيائي. بنيامين هنا يحيل إلى قناعة فشنر الراسخة بتجلي الروح في كل شيء، حتى في الأشياء الجامدة حسب تصنيف المادية الميكانيكية. ابحث أكثر تحت animism. (المترجم).

2. مارتن لوثر (Martin Luther) (1483-1546): المصلح البروتستانتي الشهير الذي أنهى ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية في عام 1534. (المترجم)

3. يوهان هنريش فوس (Johann Heinrich Voss) (1751- 1826): الشاعر والكلاسيكي الألماني الذي ترجم ملحمتي هوميروس الأوديسة والإلياذة إلى الألمانية عامي 1781 و1793 تباعاً. (المترجم)

4. أوغست فيلهلم شليغل (August Wilhelm Schlegel ) (1767-1845): الأخ الأكبر للشاعر فريدريش شليغل، وأحد أبرز وجوه الحركة الرومنطيقية الألمانية، ترجم أعمال شكسبير إلى الألمانية على مدى أكثر من أربعين عاماً، وتُعتبر ترجمته هذه من أعظم الترجمات الأدبية في تاريخ اللغة الألمانية. (المترجم)

5. يوهان كريستيان فريدريش هولدرلين (Johann Christian Freidrich Hölderlin) (1770-1843) من كبار أدباء الحركة الرومنطيقية الألمانية. ترجم أعمال سوفوكليس وبيندار من الإغريقية القديمة إلى الألمانية. (المترجم)

6. شتيفان جورج (1868-1933) شاعر رمزي ألماني، ترجم أعمال دانتي وشكسبير وشارل بودلير إلى الألمانية. (المترجم)

7. يورد بنيامين الأصل الفرنسي دون ترجمة: Les langues imparfaites en cela que plusieurs, manque le suprême : penser étant écrire sans accessoires, ni chuchotement mais tacite encore l’immortelle parole, la diversité, sur terre, des idiomes empêche personne de proférer les mots qui, sinon se trouveraient, par une frappe unique, elle-même matériellement la vérité.

8. ستيفان مالارميه (Stéphane Mallarmé) (1842-1898) شاعر وناقد فرنسي، وأحد أبرز وجوه المدرسة الرمزية. الاقتباس أعلاه من مجموعته النثرية المعنونة Divagations (شَردات) والصادرة عام 1897. (المترجم)

9. رودولف بانفيتز (Rudolf Pannwitz) (1969 -1881) شاعر وكاتب وفيلسوف ألماني عُرف عنه التأثر بنتشه وشتيفان جورج، والدفاع عن فكرة الوحدة الأوروبية. ظهر كتابه أزمة الثقافة الأوروبية عام 1917. (المترجم)

10. رودولف بورشارت (1877-1945) كاتب وشاعر ومؤرخ ألماني، عُرِفَ عنه تطبعه الشديد بالثقافة الألمانية على حساب أي أثر لخلفيته اليهودية. كان أقرب للتيار الثقافي المحافظ ورموزه بعد الحرب العالمية الأولى من أمثال هيوغو فون هوفمانسثال ورودلف شرودر. أما القصيدة الغنائية الفيثية الثالثة للشاعر الإغريقي بيندار فهي ما يُعرف بالإنكليزية بـ (The Third Pythian Ode). (المترجم)

11. نُسَخُ الكتاب المقدس التي يظهر فيها بثلاث لغات مختلفة في كل صفحة، تتناوب فيها السطور بين العبرية، اليونانية، ولغة أخرى كالإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية. أنظر Interlinear Bible

موقع الجمهورية

—————————

فرانز فانون… عربياً/ يحيى بن الوليد

ارتقى فرانز فانون (Frantz Fanon) (1925 ــ 1961)، الطبيب النفساني والمثقف الجذري و”المفكر الماريتنكي المولد ــ الجزائري الهوى” (كما قيل في توصيفه)، إلى مصاف المرجع الأساس والمتجدّد، ضمن ما أخذ يصطلح عليه منذ السبعينيات النازلة من القرن المنصرم بـ”نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي” (Poscolonialism) التي كشفت عن إمكانات هائلة على صعيد التنظير الأكاديمي والنقد الثقافي لمشكلات الثقافة والتاريخ. وهذا مع أن فرانز فانون خلّف أعمالا محدّدة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وقد استهلّها بكتابه “بشرة سوداء أقنعة بيضاء”، الذي نشره وهو في السابعة والعشرين من عمره (1952) كـ”رد كتابي” على تلك المرأة الفرنسية البيضاء التي نعتت ــ وباعتبارها مجلى لنسق ثقافي استشراقي عملي وتنميطي تبخيسي ــ باتريس لومومبا “الإفريقي” ــ وبعد أن اصطدم بها سهوا في زحام أحد شوارع ليوبولد فيل ــ بـ”الأسود والوسخ”. وبعد ذلك كتابه الموسوم بـ”العام الخامس للثورة الجزائرية” (1959)، ثم “المعذبون في الأرض” (1961)، تبعا لعنوان كتابه الثالث والأخير والأشهر والراديكالي الذي طبع في تاريخ كان صاحبه يحتضر فيه وبعد أن كان على علم بأنه مصاب بمرض عضال. إضافة إلى العديد من المقالات والمداخلات التي ضمّها كتابه الذي ظهر بعد وفاته بعنوان “من أجل الثورة الإفريقية” (1964)، وأخيرا كتابه “كتابات حول الاستلاب والحرية” (2015) الذي ضم مسرحيتين (كتبهما فانون لما كان يدرس الطب في مدينة ليون الفرنسية) ومقالات منشورة في جريدة “المجاهد” (الناطقة بلسان جبهة التحرير الجزائرية) بعد 1958، ولم يضمها كتاب “من أجل الثورة الإفريقية”. ومن دون أن نتغافل عن أعماله الكاملة (بالفرنسية) التي صدرت عام 2011، لمناسبة مرور نصف قرن على وفاته، وضمن منشورات (La Découverte) (الفرنسية) وفي مؤلف واحد قدّم له المؤرّخ الكاميروني وأحد أبرز المهتمين بفانون، آشيل مبامبي (Achille Mbembe)، بمقدمة موسومة بـ”كونية فرانز فانون”.

وتمحورت أعمال فرانز فانون حول الاستعمار وركائزه وآثاره النفسية، ومقاومة الاستعمار وفك الاستعمار (Décolonisation)، وحركات التحرّر، ثم موضوع الثقافة الوطنية وتشكّل المثقف (الراديكالي) والكاتب المحلي الوطني ومهامهما في بلدان أفريقيا المستعمَرة والمتطلعة إلى الاستقلال والتحرّر.

عربيّا، وفي سياق التطلّع لإحداث تغيير (تجاوزي) في مجرى التاريخ، عاد النص الفانوني ليفرض ذاته مع تفجّر الحراك العربي، أواخر عام 2010، ومن خلال جملة من الأفكار في مقدّمتها الطابع الفجائي للحراك نفسه. هذا بالإضافة إلى تركيز فانون على “جماهير الشعب” في الثورات بدلا من النخب السياسية المسايرة للأنظمة المتغوّلة على نحو ما حصل في العالم العربي. وهذا ما يفسّر إقدام مركز “مدارات للأبحاث والنشر” (بالقاهرة)، عام 2014، على إعادة نشر الترجمة العربية لكتاب فانون الأشهر “معذبو الأرض” التي كان قد قام بها ــ وقبل عقود ــ كل من المترجم العربي الشهير سامي الدروبي وجمال الأتاسي. واللافت للنظر، في النسخة الجديدة، العنوان الفرعي الذي تلا العنوان العريض “معذّبو الأرض”، وهو كالتالي: “ويليه ملحق: غياب البعد الإسلامي في نصوص فانون؛ الإسلام المسكوت عنه في كتاب معذبو الأرض”. وعنوان في هذا الحجم غير مألوف عادة، غير أنه في حال فانون فالأمر مغاير بالنظر لالتباس أشكال من التعامل مع النص الفانوني ككل ومن تعريف وقراءة وترجمة ونشر وإعادة نشر… بمشكلات الاستعمال والتوظيف والتلفيق… نتيجة السياقات المتجدّدة خاصة من ناحية الأحداث التاريخية المفصلية كما هو الشأن بالنسبة لحدث الحراك وبما كشف عنه من تحوّل في التيار الأساس في الفكر العربي، وفي أداء المثقف في العالم العربي حين أفسح للتأكّد من بروز تيار الإسلام السياسي (وعودة الفلكلور) بدلا من النخب الوطنية الليبرالية التي كانت في الخط الأمامي من المواجهة في فترة الاستعمار. وهذا مع أن الشعوب هي التي نزلت للميادين، وهي التي أجّجت الحراك، وبدءًا من المواطن التونسي (البسيط والعالمي فيما بعد) محمد البوعزيزي الذي أحرق جسمه (النحيف) من دون أن يدري أنه سيشعل العالم العربي ككل، بل سيغيّر ــ ومن وجهة نظر تاريخية ومهما كان الخلاف على مستوى المقاربة ــ هذا العالم.

ففرانز فانون من الصنف الذي يسمح ببعثه في أيّ لحظة، بل يبدو كأنه وجد لمخاطبة مرحلته والمراحل التي تليه. وكما أن كتبه ترقى إلى مستوى “النصوص المتحرّكة”، وكما أنه يسعف، بأكثر من معنى، على أن نفهم محيطنا وأنفسنا والظروف التي نمرّ منها… شريطة ألا نعسف تأويله. وفي هذا الإطار علّل المركز نشر الكتاب بـ”الأوضاع الاستعمارية لم تتغيّر”، وأوضح ذلك أكثر بـ”استعمار محلي، أقل كلفة […] ترتبط مصالحه الثقافية والسياسية والاقتصادية بها داخل إطار من ديباجات النعرات القومية والقبلية القطرية الضيقة المصنوعة ــ أساسا ــ بواسطة جهاز الاستشراق”(11). ومن ثم “العنف” الذي تذكّر به الكلمة بدورها.

إجمالا، يمكن التشديد على محدودية تداول فانون في العالم العربي، وعلى نوع من الحضور الشاحب لفانون في الفكر العربي، مقارنة مع الغرب الذي وجد فيه متخصّصون من المكرّسين في منجزه وشخصه معا. وحصل ذلك بدءا من الجزائر التي أقام فيها فانون طبيبا وصحافيا ومناصرا للثورة الجزائرية، بل كان “أحد أحد الأسباب التي ساهمت في أن تصبح البلاد مرادفا لثورات العالم الثالث” كما قيل عنه.

غير أن ما سلف لا يحول دون التذكير بعناوين مثل “فرانز فانون: رؤيته لدور الكاتب والأدب الإفريقي باللغة الفرنسية” لسعاد شيخاني (2004)، و”فرانز فانون رجل القطيعة” للكاتب عبد القادر بن عراب (بالفرنسية 2010)، وقبلهما رفيق نضال فانون (وفيما بعد المفكر والدبلوماسي الجزائري كما قيل في توصيفه) محمد الميلي، في كتابه الموسوم بـ”فرانز فانون والثورة الجزائرية” (1980). وكان الكتاب قد أثار تساؤلات كثيرة تراوحت بين رافض له بحجة أنّه “محاولة نيل من مكانة فانون والتشكيك في أصالة تفكيره” بل “هو نوع من الشوفينية المتعلقة التي ترفض فكرا كل ما هو ليس بجزائرى عرقا”، وهذا في مقابل من رأى في الكتاب “مجرد محاولة بسيطة ومقتضبة لتصحيح تصوّر خاطئ غطى شيوعه والتسليم به على مواطن النقد فيه”. ومفاد هذا النقد ما يمكن نعته بـ”أفضال الجزائر” على فانون. ومن المحمود أن ينأى الكتاب عن الوصف أو الرصد أو التأريخ، وأن يرتكز على نوع من “التحيّز” (ودون تنقيص من المفردة) للجزائر، باعتبارها “ثقافة” أيضا. ولا يمكن نفي تأثير الجزائر على فانون، خاصة من ناحية ما انتهى إليه فانون بسببها، غير أن ذلك لا يحول دون التأكيد على أن الرجل كان ثائرا قبل وصوله للجزائر عام 1953 لمزاولة مهنة طبيب نفسي في مستشفى البليدة الأشهر للأمراض النفسية والعصبية. وحصل ذلك بعد عام واحد من نشره لكتابه “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” الذي عرّى فيه أقنعة العنصرية (العرقية) الكامنة ــ وبتعبيره ــ في بنية فرنسا ككل (الأصل الفرنسي، ص122) ومن خلال شبكة من التنميطات والكليشيهات والتمثّلات والتصوّرات… التي تطاول “الملوَّن” وخاصة الأسود.

فالرهان في التعاطي مع النص الفانوني على التصوّرات التي تصله بالحاضر، خاصة أن فانون تحرّر من “التنظير البارد” مثلما ارتقى إلى مستوى المثقف الذي يقاتل بـ”عضلاته” أيضا؛ ما يستلزم قراءات منتجة تفيد من الدراسات التأويلية والتوجهات الفلسفية المعاصرة وتيارات الفكر المعاصر ونظريات الثقافة؛ وذلك كلّه من وجهات نظر تخدم نصوص فانون وترقى بها ــ في الوقت نفسه ــ إلى مستوى “الفكر المتحرّك” الذي بإمكانه التشابك الموجب مع “حال العرب المأزوم”.

وعلى هذا المستوى الأخير، ومن منظور تقييمي، وإن في الحال الجزائرية التي هي بأكثر من معنى حال عربية عامة، يوضّح لنا الباحث الجزائري الزواوي بغورة في دراسة له (“الهوية والعنف نحو قراءة جديدة لموقف فرانز فانون”) الفكرة قائلا: “ويزداد الأمر إلحاحاً إذا نظرنا إلى مكانته في الدراسات الاجتماعية والسياسية والتاريخية والفلسفية في الجزائر التي لم تقدّم إسهاماً نظرياً يسمح بالحديث عن مقاربة عربية أو جزائرية خاصة بفكر فرانز فانون، رغم الاحتفال الدوري بمآثره والإشادة بمواقفه، وتسمية العديد من المؤسسات والشوارع باسمه من قبل الجهات الرسمية الجزائرية، ولكنها لم تسهم في نشر أعماله ولا في ترجمتها، ولا في دراستها في الجامعات الجزائرية. وما تزال معظم الدراسات المكتوبة باللغة العربية حول هذا المفكر تتّصف بالمحدودية، وتُستخدم إمّا كشهادة تاريخية على الثورة الجزائرية، أو تبرز علاقة فانون بها، أو تخضعه للقراءة التي قدّمها جان بول سارتر في مقدمّة كتاب: معذبو الأرض”.

ومن حسن حظ فرانز فانون أن كتبه وجدت ترجمة لها في الفكر العربي، خاصة كتابه “معذبو الأرض” الذي أكّد من أوّل تلقف له في العالم العربي، ومن خلال الترجمة التي أنجزها كل من سامي الدروبي وجمال الأتاسي، لا على رواج الكتاب وانتشاره فقط، بل “مستقبليته” في هذا العالم الذي كان حتى تلك الفترة لم يستقر فيه ــ تقريبا ــ شيء، وسواء تحت تأثير جروح الاستعمار أو تربّص الديكتاتوريات المتخشّبة به. وقد حظي الكتاب الأخير، ومشروع فرانز فانون ككل، بهذه المكانة، سواء بين المثقفين أو فئات عريضة من شعوب العالم الثالث. وكما قيل “إن العالم الثالث اكتشف ذاته وخاطب نفسه بصوت فرانز فانون”. وفي هذا الصدد، من المفيد أن نشير إلى كتاب (مغاربي) مبكّر بعنوان “فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة” (1962؟) الذي نشره رائد النقد والنقاد في المغرب الأستاذ محمد برادة برادة بالاشتراك مع المؤرّخ المغربي محمد زنيبر والكاتب الجزائري مولود معمري. وكان الهدف من الكتاب، في تلك الفترة الساخنة، تقريب “وعي فرانز فانون” من حيث هو “وعي أفقي متَّسع” “أعطى صوتا قويا للعالم الثالث”. وتجدر الملاحظة إلى أن الكتاب مكتوب بنبرة شبابية حماسية ملحوظة؛ ولذلك لا يبدو غريبا أن يتوجّه، وقتذاك، إلى الشباب.

ففكر فانون مفيد في السياق الذي ولّده مباشرة في الخمسينيات ومطلع الستينيات، وهو سياق التطلّع المحموم نحو التحرّر من الاستعمار المباشر، مثلما هو مفيد في السياقات التي تلته في العديد من البلدان الأفريقية وأميركا اللاتينية أو “كامل أميركا اللاتينية” ــ كما قيل ــ وفي بلدان أوروبية وبلدان لا تخطر على البال، كما في حال إيران من خلال المفكر الإسلامي الشيعي وملهم ثورتها علي شريعاتي (1933 ــ 1977). إضافة إلى انتشاره في أوساط حركات تحرّرية، مثل حركة السود في الولايات المتحدة في الستينيات والسبعينيات الصاعدة، وفي حركات نسائية تطلعت للتحرّر من الاستعمار الذكوري. وكذلك “توظيفه” في فلسطين في علاقتها بالصهيونية باعتبارها ظاهرة كولونيالية، وفي العراق مع عودة الكولونيالية البيضاء. وكما أنه مفيد في سياق حاضر بلدان وشعوب العالم العربي التي ما تزال غارقة في أشكال من التناقضات والهيمنة والتسلط والاستبداد والذكورية المفترسة.

وعلاوة على أن فكر فانون مفتوح، ومستقبلي في الوقت ذاته، فإن الظروف نفسها التي عاشها هذا الأخير ما تزال سائدة اليوم وبأكثر من شكل من الأشكال… خاصة من ناحية مركزية الثقافة من أجل فهم العصر ككل. فالعنف ــ الذي برع فرانز فانون في التنظير له ــ يمرّ عبر الثقافة وبالقدر ذاته يؤسِّس لنفسه ثقافة تقدّم أنساقها في وضوح ووضوح تام وفي أحيان وأحيان كثيرة. فصاحب “بشرة سوداء أقنعة بيضاء”، وسواء فيما يخصّ موضوع العنف أو غيره من المواضيع المحدّدة التي تعاطى معها، مفيد على مستوى فهم “الحال العربي المأزوم” بالرغم من أنه هو الآخر، ومثل إدوارد سعيد، نتاج أدوات الغرب المعرفية في مجال تخصصّه المتمثّل في التحليل النفسي القائم على التشخيص الاجتماعي والسياسي أو في مجال الفكر الفلسفي بصفة عامة، الذي أفاد منه في مناهضة الاستعمار، وفي الدفاع عن المسحوقين. لكنه أدرك كيف ينقلب على الغرب وبأدوات هذا الأخير… بالمفاهيم الثورية الأوروبية نفسها، كما ختم دافيد كوت (David Caute) كتابه “فانون”. وذلك كلّه حتى لا نجعل من فانون مفكرا “يقطع” مع أوروبا بالكلية. وقيمة النص الفانوني من تجدّد القيمة نفسها؛ وذلك كلّه يظل وقفا على نوع من الاستجابة النقدية الرصينة وليس الاستعادة الآنية والزائلة.

——————————-

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى