حوادث دمشق اليومية 1908 ـ 1909… لصوص ولباس إفرنجي/ محمد تركي الربيعو
في 24 يوليو/تموز 1908، أجبر السلطان عبد الحميد الثاني على إعادة العمل بالدستور والبرلمان العثماني. وقد انعكس هذا الأمر على إسطنبول وباقي المدن العربية، خاصة أنّ شرائح واسعة من النخب رحبت بما جرى، ونظرت إليه بوصفه مرحلة من إصلاح المؤسسات. وفي موازاة هذا الحدث، كان العلامة الدمشقي محمد كرد علي يتجه إلى تأسيس صحيفة «المقتبس» في دمشق، ليصدر أول عدد لها بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول، ويعمل بها إلى جانب أخيه أحمد كرد علي وشكري العسلي وعدد من نخب تلك الفترة.
ولأنّ الفترة التي ظهرت فيها الصحيفة كانت فترة تحولات على صعيد الحياة السياسية العثمانية في المركز، كان لا بد من أن ينعكس هذا الأمر على صفحات «المقتبس» فقد أخذت ترصد تبعات الفترة الجديدة على مستوى التغيرات الإدارية، من خلال تعيين حسين ناظم باشا واليا جديدا على سوريا، ولذلك شكّلت أعداد الجريدة لاحقا أحد مصادر فهم تلك المرحلة والأجواء التي كانت تعيشها دمشق، ليس على الصعيد الإداري حسب، بل أيضا على مستوى الحياة اليومية، ولعل ذلك ما دفع بالباحث السوري محمد مطيع الحافظ، الذي عمل لفترة من الزمن في مجمع اللغة العربية في دمشق وألف كتابا مهماً حول تراجم علماء دمشق في القرون الأخيرة، إلى جمع كم كبير من التفاصيل التي غطّتها الصحيفة، حول واقع الحياة في المدينة خلال فترة التحول الدستوري العثماني. ولأن دمشق وأهلها بقوا مولعين، إلى يومنا هذا، بحوادث دمشق اليومية التي دوّنها البدير الحلاق في القرن الثامن عشر، اختار الحافظ أن يسمى كتابه بالعنوان ذاته. ويبدو الحافظ متنبها للفروقات بين مريد الشيخ النابلسي (البدير) وصحيفة «المقتبس» وصاحبها محمد كرد علي. ولعل ما يجمع بينهما أنهما عاشا في فترة تحولات كبيرة. فالأول شهد حكم آل العظم في المدينة وولادة نخب وسطى في دمشق، وهذا تحول شبيه بالذي عرفته فترة كرد علي على صعيد ظهور نخب المشروطية الثانية، ودخول الدولة العثمانية عقد التحولات الأخيرة قبل هزيمتها وزوالها. كما سيلاحظ القارئ، من خلال كتاب الحافظ، أنّ ما يجمع الحالتين الاهتمام برصد اليومي، أو لنقل ما حاول الحافظ رصده من خلال التركيز على الأخبار التي نشرتها صحيفة «المقتبس» عن مدينة دمشق.
الطريف أنّ هذا الجمع بين الشخصيتين سيكون محل اهتمام المؤرخة دانا السجدي صاحبة مؤلف «حلاق دمشق» التي لاحظت أنّ ظهور حلاق دمشق قد يكون بداية الإرهاصات الأولى لظهور الصحافة الدمشقية في نهاية القرن التاسع عشر، إذ ترى أنّ تاريخ اليوميات الذي ظهر في القرن الثامن عشر في دمشق، ترافق مع دخول مواضيع جديدة في نصوصه، مثل المغامرات الجنسية وقائمة الطعام ورصد الفوضى، بالتالي كانت فحوى هذا التاريخ أشبه بالصحيفة المحلية، وعلى ذلك ترى أن كتابات القرن الثامن عشر ربما كانت رافدا لعصر الصحافة في القرن التاسع عشر.
دمشق التحولات
هناك مشهد رومانسي يطبع عادة الحياة في مدينة دمشق خلال هذه الفترة، وربما ما فاقم هذا المشهد ما فعلته مسلسلات الدراما الدمشقية، وبعض كتب السيرة الذاتية التي دوّنها عدد من الدمشقيين في النصف الثاني من القرن العشرين. ظهرت دمشق في هذه السير مدينة جميلة، تشهد تحولات حضرية كبيرة، أهمها ظهور الترامواي في شوارعها عام 1907، الذي جاء كتعبير عن الإصلاحات العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. مع ذلك، سيلاحظ القارئ وهو يتابع تفاصيل دمشق في هذه الفترة (وبالتحديد مع نهاية 1908) أنّ هناك صورة أخرى مختلفة بعض الشيء عن أوضاع المدينة وأهلها وعلاقتهم بالترامواي، أو بالإدارة العثمانية.
وهنا لا بد من الانتباه لنقطة، أنّ الصورة المرسومة في كتاب الحافظ مقتطعة من سياق وتفاصيل أوسع رصدتها الصحيفة. كما يبدو أنّ الصحيفة ذاتها كانت تتبنى خطا إصلاحيا، يظهر من خلال تعليقاتها على بعض الحوادث الاجتماعية، أو تغطيتها لنشاطات الإصلاحي الدمشقي جمال الدين القاسمي، وبالتالي ربما الصورة التي نعثر عليها في الكتاب خضعت لمزاجين، الأول مزاج محمد كردي علي وباقي فريقه، والمزاج الآخر مزاج الحافظ الذي حاول البحث عن روح البدير الحلاق في دمشق بدايات القرن العشرين. وربما جاء ذلك على حساب رصد تفاصيل أخرى منشورة في الصحيفة. لكن في كل الأحوال، فإنّ الصورة المجموعة في هذا الكتاب طريفة ومدهشة وتضم صورا جديدة عن دمشق.
ستبدأ الصحيفة عملها في 17 ديسمبر من عام 1908، وخلال هذا اليوم سترصد لنا خبر تعيين والٍ جديد لدمشق. وفي الأيام اللاحقة ستعود الصحيفة للتركيز على احتفالات الدمشقيين بافتتاح مجلس النواب العثماني، وكيف أيّد عبر بعض علماء دمشق مثل الشيخ محمد الداوودي عودة الدستور والحرية مقارنة بما سموه أهوال الاستبداد الحميدي. ولأنّ الفترة هي فترة تحولات وإصلاحات، ستعمل الصحيفة على فتح ملف البوليس مطالبة بإصلاحه، إذ أنّ هناك شكوى في المدينة من تصرفات بعض عناصر الشرطة، وفساد بعضهم الآخر. كما ترصد الصحيفة قصة أحد أفراد الشرطة المعزولين، الذي ظل يرتدي لباسه الرسمي كل يوم، ويطالب أصحاب المحال ببعض الرشاوى، دون علم دائرة البوليس. وقد حاولت الجريدة إيصال رسالة مفادها أنّ فساد الجهاز البوليسي في المدينة أخذ ينعكس على الواقع الأمني فيها.
ولذلك نراها ترصد في أعدادها تفاصيل كثيرة عن غياب الأمن والسرقات، ومطالب الناس بالقبض على بعض الأشقياء في حي الأكراد، الذين يجري التغاضي عنهم بسبب الرشاوى. ويبدو أن سلوك الرشوة انتشر في المدينة خلال تلك الفترة، وهذا ما تعكسه خطبة الشيخ سعيد الكزبري التي ألقاها في دار الحكومة، إذ تحدث فيها أمام الوالي الجديد عن تطبيق القانون ومنع الرشوة التي، وفق تعبيره، هي «وباء ذريع يبيد الأمم، فإذا تطهّرت الدوائر من الجراثيم الفاتكة تسنى للقانون أن يسير على محوره».
وفي السياق ذاته، ترد رسالة في الجريدة بعنوان «شكوى أهالي القيمرية من الأشقياء» تتحدث عن اختلال الأمن في محلّتهم. ويبدو أنّ موضوع إصلاح البوليس والحالة الأمنية في المدينة ستبقى له زاوية دائمة في الصحيفة، إذ ستعود في كل فترة لنشر أخبار عن السرقات، مثل سرقة صندوق الحديد من دكان عبد الفتاح السمان في منطقة مئذنة الشحم، واضطرار أهالي حي الميدان الفوقاني والتحتاني إلى إقامة بوابات على حاراتهم ليأمنوا على أرواحهم وبيوتهم، وعن مشاجرات بين شباب من باب السريجة والقنوات، «دون أن يحضر أحد من رجال الشرطة».
رسائل متخيلة
سيظهر واقع غياب الأمن والخدمات عن المدينة عبر الجريدة، في شكل أوضح من خلال مقالة نشرها أحمد حلمي خيمي بتاريخ 16 يونيو/حزيران 1909 بعنوان «حديث مع أحد المصريين الزائرين لدمشق عن الحياة فيها». وفي هذه المقالة، سيروي لنا صديقه، الذي يبدو لنا شخصية خيالية صنعها الكاتب كي يتلافى أي أسئلة سياسية لاحقا، أنّه شعر بالابتهاج عندما مرّ بغوطة دمشق في طريقه للمدينة، لكن الواقع سرعان ما تغير ما أن وصل إلى منطقة البرامكة «لأني رأيت المحطة حقيرة لا تصلح لمدينة كدمشق.. كأنّ القيامة قامت ولم أر فيها أثرا للترتيب» في إشارة للحمالين والحوذيين. ويكمل صاحبه المصري فيتحدث عن إطلاق الأعيرة النارية ليلا في البساتين المحيطة بالمدينة، وهو موضوع شغل اهتمام الصحيفة، إذ رصدت في أكثر من عدد انتشار هذه الظاهرة في بساتين المزة. كما طالبت أيضا بترخيص حمل السلاح، بعد أن غدا متوفرا في الشارع بسبب نزول أثمان الأسلحة والخرطوش. ويتحدث هذا الضيف المتخيل عن شوارع المدينة التي تحتاج إلى ترميم وإصلاح، وبالأخص شارع الحميدية ومدحت باشا، وعن انتشار ظاهرة المقاهي ليلا على الأرصفة، وهذا ما رآه الضيف مثالا على تدهور وضع دمشق، ولعل رسالة الضيف هذه، تعكس رؤية كرد علي والعاملين في الصحيفة، الذين طالما اشتكوا من سلوكيات العامة وحضورهم في المجال العام.
اللباس الافرنجي ومقاهي القمار
ترصد الصحيفة سلوكيات اللهو والمقاهي في المدينة، إذ يرد خبر عن شكوى الأهالي في أحد أحياء باب توما، من إحدى الحانات التي أنشئت منذ مدة على مقربة من ثلاثة جوامع، وهناك قصة أخرى عن اقتحام البوليس لقهوة الدرويشية الواقعة إلى جانب الجامع الشهير، وقبضهم على (صالح أبي العكاكيز) للاشتباه في لعبه القمار. كما تشتكي الصحيفة في خبر آخر ممن تسميهم بالأوباش الذي لا عمل لهم إلا القعود في القهاوي نهارا والتجوال في الليل في القهاوي والمسارح، وربما يعكس هذا الخبر من ناحية أخرى تردي الأوضاع الاقتصادية وعطالة الشبان. وفي سياق اللهو ومظاهر الحداثة أيضا، تتحدث الصحيفة عن عقد مسرحية هاملت، خلافا لمنع المسرح في زمن السلطان عبد الحميد.
واللافت، أنّ القائمين على الصحيفة يدون موقفا محافظا أحيانا من بعض المظاهر الجديدة في المدينة، مثل انتشار آلة الفونغراف، إذ تورد خبرا بعنوان «كثرة آلات اللهو في الشوارع» تتحدث فيه عن انتشار آلات التسجيل هذه. وتكمل الصحيفة بالقول إنّ صديقهم الدكتور عبد الرحمن أفندي شهبندر حدثهم أنّ الكثير من مرضاه يشكون من سوء تأثير هذه الآلة في أنفسهم، ولاسيما بعد منتصف الليل، ما يدل على انتشارها في زوايا المدينة. كذلك تكتب الصحيفة ردا على شكوى إحدى السيدات من التعصب الذميم، فتقول «لم يكفنا التقليد في الدين والاستسلام لأقوال ليس لها مستند، حتى أضفنا إلى هذه السيئة سيئة لا تقل عنها ضررا، وهي التقليد في الأزياء والعادات والأحلام، لقوم لا تناسب بين عاداتنا وعاداتهم وأخلاقنا وأخلاقهم». وبالتالي تبدو الصحيفة هنا رافضة اللباس الأوروبي، مع أنّ محمد كرد علي يظهر في هذه الفترة مرتدياً هذا اللباس! أو لعل ما أرادت الصحيفة قوله إنّ تقليد الغربيين لا يكون باللباس فقط، بل بالمضمون أيضا، وهذا رأي عبّر عنه كثير من إصلاحي تلك الفترة، ويتوافق مع العبارة الواردة في المقال «ولو أنّ ذلك الغر قلد الغربي في اللباب دون القشور لنفع نفسه وبنى جنسه».
تحرش في الترامواي
نعثر في الصحيفة على شكاوى عديدة حول الترامواي، فهذه الوسيلة، التي ربطت عادة بقدوم الحداثة إلى المدينة، تظهر في الصحيفة وهي تعاني تارة من عدم التزام الشركة بمدّ خطوطه إلى الجهات المتفق عليها، وتارة أخرى تظهر شكاوى من عدم دفع بعض المتنفذين لأجرة الركوب. كما يظهر الترامواي أحيانا المسؤول عن فوضى بعض الأحياء، وعن تسبّبه في دعس بعض الأطفال. والطريف أيضا أنّ هناك شكوى حول قيام بعض الرجال بالتحرش بالنساء، فيصبحن «عرضة لهمز هؤلاء ولمزهم» لكن بالمقابل تعكس هذه الشكوى ظهور النساء بشكل أوسع في المجال العام. وبالتالي نعثر هنا على حياة أخرى للتراموي، تعكس بأحداثها (تحرشا، عدم التزام الشركة، متنفذين لا يدفعون) جزءا من صورة المدينة في تلك الفترة، وهنا تكمن أهمية ما دونته المقتبس وجمعه الحافظ لاحقا.
كاتب سوري
القدس العربي