أبحاث

ما هي معايير الدولة الحديثة المطلوبة في سورية؟/ رسلان عامر

فهرس الدراسة:

    – مقدمة

    – علمانية الدولة

    – ديمقراطية الدولة

    – اجتماعية الدولة

    – أممية الدولة

    – دولة المساواة

    – لاجنسانية الدولة

    – جدلية وتكامل العوامل السابقة في الدولة الحديثة

    – الواقعية والإمكان في الساحة السورية

    – الاستفادة من تجارب الماضي والغير

    – خاتمة

– مقدمة:

عشر سنوات مرت على انطلاق الربيع العربي، الذي وإن لم يصل بعد إلى أهدافه المطلوبة في بناء الدول العربية الحديثة، فقد غيّر كثيرًا على المستويات الفكرية والسياسية والثقافية في المنطقة العربية. وبما أن الأهداف ما تزال قائمة، وأن مسألة الدولة الحديثة تحتل الموقع المركزي وتحظى بالجانب الأكبر من حديث التغيير الدائر والمتوسع، فمن الضروري التركيز على أهم صفات الدولة الحديثة، واستقراء ذلك من واقع التجارب السياسية الناجحة في العالم المعاصر، التي تمثلها الدول الحديثة ليس في الغرب الأوروأميركي فحسب، بل وفي بقية قارات العالم.

وفي هذه الدراسة سنركز على أهم الصفات المشتركة في التجارب السياسية الحديثة المختلفة، سواء كانت هذه الدول المبنية على هذه التجارب رئاسية أم برلمانية أم فيدرالية أم غير ذلك، وسننظر في مدى واقعية بناء الدولة الحديثة في سورية، التي دفعت حتى الآن ثمنًا من أبهظ الأثمان في سبيل ذلك.

– مسؤولية الدولة:

إن مسؤولية الدولة مسألة جوهرية في الفكر السياسي الحديث، وفيها تتحدد واجبات ومهام ودور الدولة، التي يُحكم بموجب قدرة الدولة على تحقيقها والقيام بها بالنجاح والفشل على الدولة نفسها. ويعد شكلها صالحًا أو طالحًا؛ ما يعني أن صفات الدولة الحديثة يجب أن ينظر إليها وفق مدى ملاءمتها للالتزامات التي يجب أن تلتزم بها الدولة بحسب المعايير السياسية الحديثة. ونجد التعبير الواضح عن هذه الالتزامات في دساتير الدول الحديثة. فمثلًا يقول الدستور الإيطالي في مادته الثانية: »تعترف الجمهورية بحقوق الإنسان غير القابلة للانتهاك وتضمنها له سواء كفرد أو من خلال المجموعات الاجتماعية التي يعبر من خلالها عن شخصيته الإنسانية. على الجمهورية أن تضمن واجب التضامن السياسي والاقتصادي والاجتماعي«، ويضيف في مادته الثالثة:»على الجمهورية رفع جميع العوائق الاقتصادية والاجتماعية التي تحد من حرية المواطنين والمساواة بينهم وتحول دون التنمية الكاملة للشخصية الإنسانية والمشاركة الفعلية لكل العمال في هيئات البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.«([1]) فيما يقول الدستور الروسي في مادته الثانية: »يجب أن تُعطى القيمة العليا للإنسان وحقوقه وحرياته. واجب الدولة الاعتراف بالحريات والحقوق الإنسانية والمدنية واحترامها وحمايتها«، ويضيف في مادته الثامنة عشرة: »يجب أن يكون تنفيذ الحريات والحقوق الإنسانية والمدنية مباشراً. ويجب أن تحدد هذه الحقوق والحريات معنى القوانين ومحتواها وتنفيذها، وعمل السلطة التشريعية والتنفيذية والحكومة الذاتية المحلية، كما يجب أن يضمنها القانون«.([2]) أما “إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي”، الصادر في 26 آب/ أغسطس 1789، فيقول في مادتيه الثانية والثالثة: «يولد الناس ويظلون أحرارًا ومتساوين في الحقوق. ويمكن أن تستند الفروق الاجتماعية فقط إلى اعتبارات الصالح العام. الهدف من كل مجتمع سياسي هو المحافظة على الحقوق الطبيعية للإنسان والحقوق التي لا تسقط بالتقادم. وهذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الظلم.»([3]) ويقول الدستور الإسباني في فقرتيه التاسعة والعاشرة: «يلتزم المواطنون والسلطات العمومية بالدستور وبباقي التشريعات القانونية. تضطلع السلطات العمومية بتعزيز الظروف الملائمة لتمتع الفرد والجماعات التي ينتمي إليها بالحرية والمساواة بشكل حقيقي وفعلي، كما تضطلع بمهمة تذليل العقبات التي تقف في وجه الحرية والمساواة أو تقلصها، كما تتولى تسهيل مشاركة كل المواطنين في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. تشكل كرامة الإنسان وحقوقه المصونة المتأصلة وحرية تكوين الشخصية واحترام القانون وحقوق الآخرين أساس النظام السياسي والسلام الاجتماعي».([4])

وكما نرى في الأمثلة الواردة أعلاه، تشكل حقوق الإنسان المحور الرئيس الذي تتحدد من خلاله واجبات الدولة الحديثة ومسؤولياتها، بحيث يمكن القول إن الغاية من وجود الدولة في الفكر السياسي الحديث هي تحقيق وحماية الحقوق الإنسانية لمواطنيها، وصلاحها أو فشلها يتحدد من خلال نجاحها في القيام بهذه المهة.

– علمانية الدولة:

تشكل علمانية الدولة أساسًا رئيسًا من أسس الدولة الحديثة، ففي الفكر السياسي الحديث يعد الفصل بين الدين والدولة شرطًا أساسيًا من أسس بناء الدولة والمجتمع الحديثين، وهذا مرتبط من ناحية بضرورة اعتماد الدولة على العقل والعلم في تحديد سياساتها وتنفيذ مهامها، وليس -كما هو الحال في الدين- على الإيمانيات والغيبيات والماورائيات، التي تتصف عادة بطابعها المقدس المطلق الذي لا يقبل الاختلاف والتغيير، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى عرقلة حركة تطور المجتمع أو تقييدها. ومن ناحية أخرى هو مرتبط بضرورة حيادية الدولة إزاء كل الجماعات والتيارات العقائدية والفكرية لسكانها تحقيقًا للمساواة بينهم وصونًا لمبدأ حرية الضمير لهم، إضافة إلى ما يمكن أن يثيره التدين في الشروط الملائمة من خلافات بين المتدينين وغير المتدينين، أو في أوساط المتدينين أنفسهم بين أتباع الأديان المختلفة أو حتى بين المذاهب المختلفة في الدين نفسه، ويمكن أن يبلغ بسبب التعصب أو الاستغلال حد الصراعات التي تلحق الدمار الكبير بالجميع. وفي مقابل هذا الفصل تضمن الدولة للجميع حقوق حرية الاعتقاد والفكر والتعبير والعبادة، ولا تتدخل في شؤون مواطنيها على هذه الصعد، بشرط أن يجري التمتع بهذه الحقوق بشكل سلمي تام، ولا ينتج عنه أي عنف أو ضرر.

في الدول الحديثة تشير الدساتير إلى علمانية الدولة بشكل واضح، وقد يجري ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. فمثلا يقول الدستور الفرنسي: «الجمهورية الفرنسية جمهورية غير قابلة للتجزئة، علمانية، ديمقراطية واشتراكية. تكفل المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دون تمييز في الأصل أو العرق أو الدين. وتحترم جميع المعتقدات…»([5])، ويقول الدستور الإيطالي في مادتيه السابعة والثامنة: «الدولة والكنيسة الكاثوليكية، كل واحدة ضمن المجال الخاص بها، هما كيانان سيدان مستقلان. جميع الملل الدينية حرة سواء أمام القانون.»([6]) ويرد في (تمهيد) الدستور الهندي: «نحن، شعب الهند، عزمنا على أن نشكل الهند كجمهورية ديمقراطية اشتراكية علمانية ذات سيادة تضمن لجميع مواطنيها: العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ حرية الفكر والتعبير والاعتقاد والإيمان والعبادة؛ المساواة في الوضع والفرص؛ ونشجع لديهم جميعاً الأخوة ضمانًا لكرامة الفرد ووحدة وسلامة الأمة…»([7])، فيما يرد في المادة 14 من الدستور الروسي: «يكوّن الاتحاد الروسي دولة علمانية. ولا يجوز اعتماد أيّ ديانة كدين للدولة أو اعتبارها ملزمة. يجب أن تكون الجمعيات الدينية منفصلة عن الدولة وأن تكون على قدم المساواة أمام القانون.»([8]) أما في  الدستور الأميركي فيرد في التعديل الأول من التعديلات العشرة الأولى التي تضمنتها (وثيقة الحقوق) التي أُقرّت في 15 كانون الأول/ ديسمبر 1791: «لا يصدر الكونغرس أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية التعبير أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلميًا، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف».([9])

– ديمقراطية الدولة:

الديمقراطية ليست صفة بالنسبة إلى الدولة الحديثة، بل هي هوية تحدد طبيعة وماهية الدولة الحديثة، الموجودة أساسًا لخدمة شعبها ومجتمعها ككل. أما الدولة القديمة، فكانت دولة مستبدة، وهي بعكس الدولة الحديثة قائمة على استغلال وقمع شعبها وتسخيره لخدمة فئة محددة، تتركز في يدها عادة السلطة والثروة، ويتربع على قمة هرمها حاكم مستبد تتشخص فيه سلطة هذه الفئة.

بالنسبة إلى الدولة الحديثة تعد الديمقراطية مسألة مصيرية، ولذا تنص دساتير الدول الحديثة بوضوح على طبيعتها الديمقراطية. فكما رأينا في الفقرة السابقة، يقول الدستور الفرنسي إن “الجمهورية الفرنسية هي جمهورية ديمقراطية”، ويضيف في فقرته الثالثة: «السيادة الوطنية ملك للشعب يمارسها عن طريق ممثليه وعن طريق الاستفتاء الشعبي. لا يحق لأي فئة من الشعب أو أي فرد أن يدعي لنفسه حق ممارسة السيادة الوطنية.»([10])وهذا ما يفعله أيضًا الدستور الهندي الذي ينص على أن “الهند جمهورية ديمقراطية”([11])، فيما تقول المادة الأولى من الدستور الإيطالي: «إيطاليا جمهورية ديمقراطية قائمة على العمل. السيادة ملك الشعب الذي يمارسها وفقًا لصيغة الدستور وضمن حدوده.»([12]) وينص الدستور البرتغالي على أن «الجمهورية البرتغالية دولة ديمقراطية تقوم على حكم القانون، وسيادة الشعب، وعلى التعبير والتنظيم على نحو ديمقراطي تعددي، وعلى احترام الحقوق والحريات الأساسية وضمان تنفيذها على نحو فعَّال، والفصل بين السلطات مع اعتمادها على بعضها البعض. وكل ذلك في سبيل تحقيق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعميق الديمقراطية التشاركية».([13]) كما نجد في الفقرة الأولى من الدستور الروسي: «الاتحاد الروسي- روسيا دولة اتحادية ديمقراطية يحكمها القانون، لحكومتها شكل جمهوري».([14])

– اجتماعية الدولة:

المقصود باجتماعية الدولة هو التزامها بتحقيق الغايات الاجتماعية وتدخلها لتلبية الحاجات الاجتماعية لمواطنيها، واعتمادها سياسات اجتماعية وبرامج رعاية  اجتماعية محددة من أجل هذا الغرض. وفي هذا الخصوص يقول (ملتقى الباحثتين السياسيين العرب) إنه عن طريق السياسة الاجتماعية يمكن إشباع أقصى قدر من احتياجات الأفراد فى المجتمع،  وإن وظائفها تتحدد فيما يلي:

«-الوظيفة التنموية: وتعطي مكانة متميزة لدور الإنسان فى التنمية وتنطوي هذه الوظيفة على دعم وتقوية الأسرة.

-الوظيفة الوقائية: وتتجه نحو الفئات التي يمكن أن تكون عرضة للتأثير السلبي فى المستقبل المنظور من عملية التنمية.

-الوظيفة العلاجية: وتتجه بصفة خاصة إلى بعض الفئات المحرومة التي يطلق عليها فيما بعد الجماعات الهامشية كالأطفال المهملين وكبار السن.

الوظيفة الاندماجية: التي اعتبرتها المنظمة الدولية للأمم المتحدة نقلة أساسية فى سياسة الرفاهية».([15])

تحظى اجتماعية الدولة بأهمية كبيرة في الدولة الحديثة؛ كونها تدل على التزام الدولة بالقيام بواجبها في تفعيل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها وتحقيقها، فيما تدل ديمقراطية الدولة على التزامها بضمان الحقوق المدنية والسياسية لهؤلاء الموطنين. ولذلك ركزت دساتير الدول الحديثة المتقدمة على موضوع اجتماعية الدولة، وأولته العناية الكافية. فكما رأينا أعلاه، ينص الدستور الإيطالي أنه “على الجمهورية أن تضمن واجب التضامن السياسي والاقتصادي والاجتماعي… ورفع جميع العوائق الاقتصادية والاجتماعية التي تحد من حرية المواطنين والمساواة بينهم…”([16])، فيما يقول الدستور الإسباني في مادته الأولى: «تتأسس إسبانيا بموجب هذا الدستور كدولة اجتماعية وديمقراطية، تخضع لسيادة القانون، وتدافع عن الحرية والعدل والمساواة والتعددية السياسية كقيم عليا لنظامها القانوني»([17])، فيما تذهب دساتير أخرى أبعد من ذلك وتنص بشكل صريح على “اشتراكية الدولة”، كالدستور الفرنسي الذي يعرف فرنسا في مادته الأولى أنها “جمهورية اشتراكية” كما سلف الذكر.([18]) وبالمثل يعرف الدستور الهندي الهند أنها “جمهورية اشتراكية”، وأنها “تضمن لجميع مواطنيها: العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمساواة في الوضع والفرص”.([19]) بدوره أيضًا يؤكد الدستور البرتغالي في ديباجته “عزم الشعب البرتغالي على فتح الطريق أمام قيام مجتمع اشتراكي، مع احترام إرادة الشعب البرتغالي، والسعي لبناء بلد أكثر حرية وأكثر عدالة وأكثر إخاء”.([20])

– أممية الدولة:

في الوقت الذي تكون فيه علمانية الدولة الأساس الذي تتحقق فيه المساواة بين المواطنين المختلفين على الصعد الدينية والعقائدية، تشكل أممية الدولة الأساس الذي تتحقق فيه المساواة بين هؤلاء المواطنين على صعد الاختلاف القومي والإثني واللغوي، ولذلك يشترط في الدولة الناجحة أن تتموضع على مسافة واحدة من كل المكونات الجماعوية الداخلة في تركيببتها السكانية، من جماعات دينية أو إثنية أو لغوية أو سواها. ولذلك لا تتضمن دساتير الدول الحديثة أي عبارات مرتبطة بالقومية أو العرق أو أي هوية فئوية أخرى تدل على هوية الدولة، لأن هذا يعد اليوم أمرًا مناقضًا لوحدة الهوية الوطنية ولمبدأ المساواة بين جميع المواطنين. وعلى عكس ذلك، نجد أن النصوص الدستورية تؤكد مساواتها بين جميع الجماعات السكانية و”ضمانها لكل الحقوق الإنسانية المرتبطة بكونهم جماعة”.

يقول الدستور الألماني مثلًا في الفقرتين الأولى والثالثة من مادته الثالثة، مؤكدًا مساواة الأشخاص المختلفين في العرق أو اللغة أو الموطن أو سوى ذلك: «جميع الأشخاص متساوون أمام القانون. لا يجوز تفضيل أو استهجان أي شخص على أساس الجنس، أو النسب، أو العرق، أو اللغة، أو الموطن، أو الأصل، أو المعتقد، أو الدين أو الأفكار الدينية أو السياسية. كما لا يجوز استهجان أي شخص بسبب عجزه».([21])وفي السياق نفسه، ينص الدستور الإيطالي في مادته الثالثة على أنه: «لكل المواطنين نفس القدر من الكرامة الاجتماعية وهم سواء أمام القانون دون تمييز في الجنس أو العرق أو اللغة أو الدين أو الآراء السياسية أو الأوضاع الشخصية والاجتماعية»([22])، كما يؤكد الدستور البرازيلي ذلك في الفقرة الرابعة من مادته الثالثة؛ فيقول إن من أهداف جمهورية البرازيل: «السعي لتحقيق الرفاه للجميع، دون تمييز على أساس الأصل أو العرق أو الجنس أو اللون أو العمر، أو أي شكل آخر من التمييز.»([23])وفي الدستور الروسي نجد مقاربة مميزة لمفهوم الشعب، يُطرح فيها “مفهوم الشعب الواحد متعدد القوميات”، حيث يبتدئ الدستور مطلع ديباجته بالقول: «نحن، الشعب متعدد القوميات في الاتحاد الروسي، موحّدون بمصير مشترك على أرضنا…»، ثم يضيف في مادته الثالثة مؤكدًا هذه الوحدة التعددية: «شعب الاتحاد الروسي متعدد القوميات هو صاحب السيادة ومصدر السلطة الوحيد في البلاد». ([24])

– دولة المساواة:

تعد “المساواة الإنسانية” اليوم في الفكر الإنساني المعاصر “حقًا من حقوق الإنسان”، وهذا ما توثقه المواثيق الدولية، فينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته السابعة مثلًا على أن “كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعًا الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا.([25]) وقد أصبح ضمان هذا الحق واجبًا من واجبات الدولة الحديثة، وتعني المساواة بين الناس المساواة بينهم جميعًا، وعدم التمييز بينهم بتاتًا بسبب الجنس، أو النسب، أو العرق، أو اللغة، أو الموطن، أو الأصل، أو المعتقد، أو الدين أو الأفكار الدينية أو السياسية، أو الإعاقة، أو اللون، أو العمر، أو الأوضاع الشخصية والاجتماعية، أو الأصل العائلي، أو أي شكل آخر من أشكال الاختلاف البشري. وهذا ما أصبحت تؤكده وتوثقه الدساتير الحديثة؛ فمثلًا ينص الدستور الياباني في المادة 14 على أن: «جميع الناس سواسية تحت القانون، ولا يكون هناك تمييز في العلاقات السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية بسبب العرق، أو المعتقد، أو الجنس، أو الوضع الاجتماعي، أو أصل العائلة».([26]) وقد رأينا في الفقرات السابقة مثل هذه التأكيدات في دساتير ألمانيا([27]) وإيطاليا([28]) والبرازيل([29]) وروسيا([30])، وهذا ما يمكن أن نجده في دساتير الدول الحديثة الأخرى. 

– لاجنسانية الدولة:

تعني لا جنسانية الدولة عدم تمييزها بين الرجل أو المرأة على أساس جنسي أو جنساني في أي مجال من مجالات الحياة، وهذا يعني “المساواة بين الجنسين”، وهي أحد ميادين المساواة العامة. وتجدر الإشارة بصورة خاصة إلى قضية المرأة نظرًا إلى أهميتها في المجتمعات الإنسانية عمومًا، وإشكاليتها الخاصة في المجتمعات التقليدية ومن بينها المجتمع السوري والمجتمعات العربية كافة.

بهذا الشأن تقول اليونسكو على موقعها الإلكتروني: «المساواة بين الجنسين هي مسالة أساسية من أجل تحقيق التنمية البشرية، وعليه فإن منظمة اليونسكو تسعى إلى تحقيق هذا الهدف وتعتبره من أولوياتها. كما أن هدف المساواة هو واحد من أهداف الألفية للأمم المتحدة والذي يسعى إلى تحقيق المساواة بين الجنسين وخلق التكافؤ من أجل المشاركة في التنمية وبناء المجتمع. تشير اتفاقية إنهاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة أنه في الدول العربية بالرغم من بعض التقدم في مسالة المساواة إلا أن التمييز وعدم المساواة ما زال متأصلًا في الإطار القانوني، ولا زالت الفتيات والنساء تعانين من ظروف معيشية سيئة ونظرة اجتماعية متدنية ويمارس ضدهن التمييز لأنهن نساء…».([31])

 في الدول الحديثة قطعت مسألة المساواة بين الجنسين أشواطًا كبيرة ككل فروع المساواة الأخرى، ووُثق مبدأ المساواة الجنسانية في دساتير هذه الدول إما من خلال الفقرات العامة التي تنص على المساواة الإنسانية بشكل عام كما رأينا في الفقرات السابقة من هذه الدراسة، أو من خلال بنود دستورية محددة تنص على المساواة بين الجنسين؛ كما يفعل البند الثاني من المادة الثالثة من الدستور الألماني الذي يقول: «الرجال والنساء متساوون في الحقوق. وتَدعم الدولة التنفيذ الفعلي للمساواة بين النساء والرجال، وتتخذ الخطوات اللازمة للقضاء على العوامل السلبية السائدة حاليًا».([32])

– جدلية وتكامل العوامل السابقة في الدولة الحديثة:

الدولة الحديثة كيان متكامل تتفاعل وتتكامل فيه العوامل المختلفة، ولذا لا يمكن لدولة أن تتطور وتتحدث بشكل سليم من دون أن تتلازم فيها العلمانية والديمقراطية والاجتماعية والأممية والمساواة الإنسانية الشاملة. فالديمقراطية مثلًا لا يمكنها أن تتحقق في دولة دينية، لأن التركيبات الدينية التقليدية عمومًا لا تقبل الاختلاف والتغيير، وتصر على صحتها المطلقة والسرمدية. وكثيرًا ما تكون الدولة الدينية دولة مذهب أو طائفة يستأثران بالسلطة، ويضطهدان أو يقمعان أو يهمشان الآخرين، والغالب فيها أن تتسلط السلطة الدينية على الجميع؛ بما في ذلك جماعتها الخاصة التي تستخدمها وتستغلها لتكريس وممارسة تسلطها. وفي المقابل، تصنع العلمانية من دون ديمقراطية استبدادًا لادينيًا، وتتحول فيه إلى ما يشبه الدين الوضعي الذي بدوره لا يقبل الاختلاف والتغيير. أما من دون الاجتماعية فتصبح كل من العلمانية والديمقراطية مجرد قوالب شكلية لا يستطيع الإنسان فيهما أن يحقق ويطور إنسانيته، وتكون دولة مثل هذه الدولة عرضة للنكوص والعنف الداخلي. وفي هذا الشأن يقول عالم الاجتماع السياسي الأميركي سيمور مارتن ليبست (Seymour Martin Lipset): «يمنع التوزيع العادل والمساواة المواطنين من الثورة، وتنتج المساواة الاقتصادية ديمقراطية فعالة. إن مجتمعًا منقسمًا إلى كتلة كبيرة فقيرة ونخبة صغيرة محتكرة يؤدي إلى الاستبداد والأوليغارشية.»([33])

لا تستطيع الدولة القومية بدورها أن تكون دولة ديمقراطية، فهي دولة فئة أو جماعة محددة، وهي عادة تحاول أن تفرض هويتها على الجماعات المختلفة فيها، وتحاول إلغاء هوياتهم، أو تنتقص من حقوقهم بسبب ذلك، كما تحاول فرض أيديولوجيتها على الساحات الفكرية والسياسية والإعلامية في مجتمعها، وتهمش أو تضطهد المخالفين. وفي هذا الصدد يقول عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين (Alain Touraine): «إن ميلاد الديمقراطية في الولايات المتحدة وفي فرنسا، اقترن بشكل لصيق، لا بل تماهى، مع تثبيت الأمة وحريتها. لكن الديمقراطية الحديثة كانت، بذات القدر، عرضة للتهديد وغالبًا للتدمير على يد القومية… فالديمقراطية تدخل في وفاق مع مفهوم ما للدولة وفي خلاف مع مفهوم آخر. فحين تتجلى الدولة كتعبير عن كائن جماعي، سياسي واجتماعي وثقافي -الأمة، الشعب- وعما هو أكثر خطورة أيضًا، أي إله أو مبدأ يكون هذا الشعب وتلك الأمة والدولة نفسها بمكانة وكلائه المفضلين والذين دعاهم القدر للدفاع عنه، لا يبقى للديمقراطية من مكان حتى إذا سمح السياق الاقتصادي لبعض الحريات بالبقاء».([34])

وهكذا تتحول دينية الدولة أو قومويتها إلى عوامل للتمييز والتفرقة فيها بين أصحاب الديانات أو القوميات المختلفة، وفي كثير من الأحيان قد يغدو الدين نفسه ذريعة وحماية للتمييز بين الجنسين والانتقاص من حق وقيمة المرأة. 

وعليه يمكن القول إن كلًا من العلمانية والديمقراطية والاجتماعية والأممية هي شروط متلازمة متكاملة لتحقيق المساواة الإنسانية المتكاملة وبناء الدولة الحديثة الحقيقية.

وعدا عما تقدم، فمن الضروري جدًا التركيز أيضًا على أهمية العامل الاقتصادي في الدولة الحديثة وللدولة الحديثة، فقوة الاقتصاد وحداثة الدولة هما أمران جدليان، والدولة الحديثة هي الدولة الأفضل لتهيئة البيئة اللازمة لنمو اقتصاد حديث قوي، ووجود مثل هذا الاقتصاد ضروري جدًا لهذه الدولة لتقوم بواجباتها الاجتماعية؛ فدولة فقيرة لا يمكنها أن تكون دولة عدالة ومساواة “إلا في أن تعدل في توزيع الفقر وما يرتبط به من بؤس وجهل وتوتر على الجميع”، وهذا تهديد خطر جلي على استقرار هذه الدولة واستمرارها، حتى وإن كانت دولة علمانية ديمقراطية أممية وذات توجه اجتماعي. وفي المقابل، فإن اقتصادًا غنيًا تستأثر به أقلية وتحرم منه الأكثرية في دولة غير اجتماعية لا يصنع هو الآخر عدالة ومساواة اجتماعيتين، ولا يحقق مستوى رفيعًا من مستويات المعيشة الإنسانية، ولا يضمن حقوق الإنسان، ويبقى الفقر وأخطاره يهددان سلم وتطور الدولة والمجتمع.

وإذا ما تأملنا في الدول الحديثة، فسنجد أنها جميعها تجمع اليوم بين اقتصاد متطور، صناعي في معظم الأحيان، وبين نظام سياسي علماني ديمقراطي أممي واجتماعي. وبالطبع هذا لا يعني مثالية الأنظمة في هذه الدول، أو أن العيوب والمشاكل فيها قد تلاشت، فالعيوب والمشاكل ما تزال كثيرة، ولكنها لم تعد بالقوة الخطرة التي تهدد الأمن والسلم الاجتماعيين وتهدد بقاء وتطور الدولة والمجتمع، وهذا يعطي تلك الدول المجال لتستقر وتتطور أكثر فأكثر.

– الواقعية والإمكان في الساحة السورية:

بناء على ما تقدم يمكن القول من حيث المبدأ إن “الدولة الحديثة” بكل شروطها هي الحل في سورية، ولكن هل الأمر كذلك من حيث الواقع، وهل أصبح السوريون جاهزين بما يكفي للبدء ببناء الدولة الحديثة المتكاملة؟

واقعيًا يمكن القول إن ديمقراطية واجتماعية الدولة لن تلقيا أي ممانعة على الساحة السورية إلا من طرف بعض المتعصبين والانتهازيين الذين لا يشكلون إلا قلة، لكن ماذا عن علمانية وأممية الدولة؟

هنا يمكن القول إن الأمر ما يزال مختلفًا؛ فمنذ مرحلة الاستقلال وحتى اليوم نصت الدساتير السورية المختلفة، حتى دستور 1950 الذي يمثل بينها الاستثناء الديمقراطي الوحيد في حين اقترنت بقية دساتير بالاستبداد وصيغت لخدمته، نصت على عروبة الدولة وعلى أن الإسلام هو دين رئيسها والمصدر الأساسي للتشريع فيها. فمثلًا تقول المادة الأولى في دستور 1950 إن “سورية جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامة”، فيما تقول المادة الثالثة منه إن “دين رئيس الجمهورية الإسلام. والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع…”([35])، ولكن مع ذلك فالدولة القائمة على ذلك الدستور لم تكن دولة قومية عروبية ولا دولة إسلامية، بل كانت رغم ذلك دولة مدنية على قدر حسن من الديمقراطية، وكانت حرية التعبير فيها مضمونة، وقد نوقشت فيها حتى مسألة وضع الإسلام في الدولة على مستوى اللجنة الدستورية التي أعدت ذلك الدستور، وعلى الساحة الشعبية أيضًا.([36]) لكن حتى هذه الدولة التي لم تساو مبدئيًا بين جميع جماعات مكوناتها السكانية لم تساو أيضًا بين الرجل والمرأة، وبقيت الأحوال الشخصية لجميع الطوائف منظمة على أساس ديني مذهبي يتميز فيه الرجال.

لاحقًا، ومع استحواذ (البعث) على السلطة، أصبحت (العروبة) منهجًا سياسيًا رسميًا؛ ما أنتج مشكلة فعلية مع جماعات إثنية غير عربية تعيش في موطنها التاريخي كالأكراد والآشوريين مثلًا.

واليوم، ورغم أن مشروع دولة إسلامية في سورية لا تطرحه إلا بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة، ولا يعد مشروعًا جادًا على الساحة السورية، ما تزال مسألة القومية والدين -وبالأخص الدين- قائمة، وما يزال الوضع على هذا المستوى عقائديًا وأيديولوجيًا بدرجة ما مشابهًا لما كان الحال عليه في مرحلة ما بعد الاستقلال.

وهذا ما يجب أن نعيه جيدًا وأن نستفيد منه في تجارب الماضي الخاصة بنا عند سعينا إلى إيجاد الحل الصحيح لمستقبل سورية.

– الاستفادة من تجارب الماضي والغير:

عند مناقشة مشروع دستور 1950 اعترض النائب الياس دمر على تحديد إسلامية دين رئيس الدولة وقال: «.. يوجد في الدستور الملغى مادة تتعلق بدين رئيس الجمهورية ووجوب كونه مسلماً وربما جاءت مادة مماثلة لها في مشروع الدستور الجديد، أفلا ترون ذلك شذوذاً ومخالفة لأبسط قواعد الديمقراطية التي سار عليها العالم المتمدن، هل يجوز حرمان المواطنين غير المسلمين من حق شرعي باعتبارهم مواطنين سوريين عرباً، عليهم نفس الواجبات المترتبة على المسلمين ولهم نفس الحقوق؟ ألا ترون أن ذلك يتعارض مع مبادئ الديمقراطية العربية الصحيحة التي هي مبدأ المساواة لأصحاب القومية الواحدة؟ فإن عدم تقييد الدولة ورئيسها بدين معين يفسح المجال أمام الكفاءات التي هي مقومات الرجل لا دينه -هذا مع العلم أن وجود مادة في الدستور أو عبارة مصبوغة بصبغة دينية أو بأي قيد آخر من هذا النوع يترك أثراً نفسياً غير مستحب في كل روح عربي غير مسلم، إذ يُشعر هذا غير المسلم العربي الذي يمكن أن يكون مثالاً على الإخلاص والتضحية والوطنية- والذي يجاهد جنباً إلى جنب مع أخيه المسلم بأنه غريب في وطنه، ولا يتمتع بنفس الحقوق التي لأخيه المسلم شريكه بالجهاد والتضحيةـ لا لسبب إلا لأن دينه يختلف عن دين أخيه»([37])، وذلك ما رد عليه مصطفى السباعي، العضو الوحيد من الإخوان المسلمين في اللجنة الدستورية، قائلًا: «..أما الزعم بأن النص على دين الدولة تفرقة بين أبناء الشعب وإثارة للنعرة الطائفية، فهو زعم باطل؛ لأننا لا نريد بهذا النص تمييز المسلمين عن غيرهم، ولا افتئاتًا على حقوق المواطنين المسيحيين. وحسبكم أن ترجعوا إلى نص المادة كما جاءت في المشروع، لتعلموا أنها كتبت بروح نبيلة تشعر بالإخاء بين المواطنين، وليس القصد منها إلا تحقيق أهداف سياسية وقومية واجتماعية هي في مصلحة هذا الشعب مسلميه ومسيحيه على السواء، ولو كان النص على دين الدولة يؤدي إلى التفرقة بين أبناء الوطن الواحد لما جاز لكثير من دول أوروبا وأميركا أن تنص عليه في دساتيرها».([38])

واليوم وبما أنه على الرغم من كل الملابسات والعقبات والتخبطات والمناورات المغرضة ثمة مشروع لإعداد دستور سوري جديد، فغير المسلم في سورية يستطيع أن يكرر الكلام نفسه الذي قاله الياس دمر منذ حوالى سبعين سنة، وغير العربي يستطيع أن يقول كلامًا مشابهًا بشأن عروبة هوية الدولة.

إن وجود مثل هذه الفقرات المجرد في الدستور وحده كفيل بخلق مشكلة هوية معنوية لأبناء الجماعات غير العربية وغير الإسلامية، حتى وإن كانت هذه المواد بلا مفعولات على أرض الواقع، وهذا ما لن يحدث عمليًا، إذ سيترتب عليها في حال وجودها مفعولات واقعية سياسية واجتماعية، وسيخل ذلك بقضية المساواة بين أبناء الوطن، فنص الدستور على إسلامية الرئيس مثلًا سيحول دون رئاسة المسيحي، والربط بين الفقه والتشريع سيطال النساء أيضًا، حيث ستستغل مثلًا فقرة مثل “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع” لترسيخ التمييز القائم ضد النساء وعدم مساواتهن بالرجال.

عدا ما تقدم يجب الانتباه إلى مسألة هامة، فمن المآخذ على دستور عام 1950، وعلى التجربة السياسية المبنية عليه، أن هذا الدستور “كان شديد الليبرالية في حيزه الاقتصادي؛ وبذا يكون موالياً وأداة للطبقة الغنية؛ ما يؤدي إلى سيطرة رؤية اقتصادية بالغة الليبرالية على الحياة السورية، ومن ثم تراكم ملايين الفقراء من السوريين”.([39]) وهذا كان أمرًا بالغ الخطورة، وشكل عاملًا مهمًا من عوامل فشل التجربة الديمقراطية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وساهم في تمكين حزب شمولي كالبعث من الاستحواذ على السلطة؛ معززًا بيسارية طروحاته وتبنيه الاشتراكية، وهذا ما يمكن أن يتكرر اليوم ويفشل أي تجربة جديدة، ويدفع الفقراء بسبب ما يسببه الفقر من يأس وغبن وجهل وما يشبه ذلك من رزايا إلى أيدي الحركات الإسلامية المتطرفة.

ولذا علينا أن نستفيد من دروس الماضي وألا نكرر الأخطاء نفسها، وأن نستفيد أيضًا من تجارب الآخرين. وبما أن علمنة الدولة هي موضع المشكلة الأكبر، فمن الخير لنا أن نستفيد من تجربة الهند في هذا المجال. فالهند أكثر شبهًا بنا بكثير من الدول التي تعود بداية نهضتها إلى قرون كالغرب الأوروبي مثلًا، فهي دولة حديثة الاستقلال، وقد استقلت عام 1947، أي في وقت قريب جدًا من استقلال سورية، والمجتمع الهندي يشبه كثيرًا المجتمع السوري من حيث المحافظة والتدين والتعدد القومي والديني وتقليدية الإنتاج الاقتصادي. ومع ذلك لم يمنع كل هذا الهند من تبني العلمانية، ومن تطوير ديمقراطيتها ومجتمعها وحماية نفسها من الصراعات الإثنية والطائفية؛ على الرغم من أن الحلول المطلوبة لمثل هذه المشاكل لم تتحقق بعد بالقدر المطلوب. وعن تبني العلمانية في الهند يقول جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال: «نتكلم عن علمانية الهند.. البعض يظن بأن ذلك معارض للدين، وهذا خطا واضح.. ما تعنيه حقيقة تلك العلمانية هي بأن الدولة تقدّر العقيدة الدينية للجميع بالتساوي وتمنحهم فرصًا متساوية في كل شيء، ولدى الهند تاريخ عريق من التعايش الديني.. في بلد كالهند حيث يوجد العديد من العقائد الدينية لا يمكن أن تبنى الوطنية على أي أساس غير العلمانية.»([40])

وما لا شك فيه أن علمانية الهند ليست نسخة مقلدة عن أي علمانية غربية أو سواها، وأنها علمانية ذات خصوصية هندية. ففي الوقت الذي تشير فيه كلمة (علمانية) في الغرب إلى ثلاثة أشياء: “حرية الدين، والمواطنة المتساوية لكل مواطن بغض النظر عن دينه، وفصل الدين عن الدولة”، مقابل ذلك لا تعني كلمة علمانية في الهند “الفصل التام بين الدين والدولة”، كما يقول البروفيسور دونالد سميث (Donald Eugene Smith) مؤلف كتاب “الهند كدولة علمانية”. ومع ذلك، يوجد بعض الانفصال، فوفق دستور الهند، كما يقول سميث، لا يوجد دين رسمي للدولة في الهند، والمدارس المملوكة بالكامل للدولة لا يمكنها فرض تعليم ديني. ووفقًا للقاضي والكاتب الهندي ر. أ. جاهاغيردار (R.A. Jahagirdar)، في السياق الهندي، تُفسّر العلمانية على أنها معاملة متساوية لجميع الأديان، وعلى وجه الخصوص يسمح الدستور الهندي أن يكون قانون الأحوال الشخصية الساري مختلفًا إذا كان دين الفرد هو الهندوسية (أو ديانة هندية أخرى) أو الإسلام أو المسيحية، ومع ذلك، تضيف المادة 44 من المبادئ التوجيهية لسياسة الدولة أنه “يجب على الدولة أن تسعى إلى تأمين قانون مدني موحد في جميع أنحاء أراضي الهند للمواطنين”.([41])

وفحوى عرض ما تقدم عن الهند القول إن العلمانية ليست نسقًا أيديولوجيًا محددًا، ولكنها منهجية منفتحة قابلة للتعدد والتنوع، ويمكن تكييفها بما يتناسب مع خصوصيات المجتمعات المختلفة لا فرضها قسرًا عليها، ما يعني من حيث المبدأ إمكان تطوير علمانية عربية أو حتى سورية.

– خاتمة:

بناء على ما تقدم، يمكن القول إن الحل الجذري النموذجي لمستقبل سورية هو في العمل على بناء دولة حديثة متكاملة علمانية ديمقراطية اجتماعية أممية. ولكن بما أن السياسة في أحد تعريفاتها تعرّف أنها “فن الممكن”، فعلينا التوفيق بين الواجب نظريًا والممكن واقعيًا، والساحة السياسية السورية الواقعية اليوم، بعد عقود من الشلل والعقم اللذين أصيبت بهما بسبب وقوعها تحت نير الديكتاتورية، إضافة إلى ما أصاب المجتمع السوري من كوارث خلال الأزمة المستفحلة التي بلغت عقدًا من الزمن ولم تؤدِّ بعد إلى الخلاص من الدكتاتورية، ما تزال -أي الساحة السياسية السورية- غير قادرة على القيام بنقلة نوعية تتبنى فيها مشروعًا علمانيًا واقعيًا متكاملًا. ولذلك، فمن العقلانية والواقعية أكثر اليوم السعي -بعد الخلاص من الديكتاتورية- إلى بناء (دولة مدنية) تقترب بأكبر قدر ممكن من معايير الدولة العلمانية النموذجية، وتستفيد من حسنات وأخطاء تجربة الخمسينيات الماضية الديمقراطية في سورية. ومع أن كل جوانب الدولة الحديثة ذات أهمية جوهرية كبرى لا يمكن قطعًا تجاهلها، هناك بينها ما هو أكثر إلحاحًا من سواه، ما يعني أنه على المدى القريب يجب التركيز أكثر على مسألة الديمقراطية بمفهومها الضيق المتضمن التعددية السياسية وتداول السلطة والتصويت وحرية الرأي والاعتقاد والاجتماع والتظاهر وما شابه، وعلى الرعاية الاجتماعية وتحسين مستوى المعيشة وحل المشكلات ذات الطابع العرقي والقومي والجنساني، وفي وقت لاحق يمكن العمل أكثر على المسائل الحساسة ذات الطابع العلماني، التي تتطابق أكثر مع الديمقراطية في مفهومها الموسع الشامل.

[1] – دستور إيطاليا لعام 1947، المعدل عام 2012، موقع Constitute.

[2] – دستور روسيا لعام 1993 ،المعدل 2014، موقع Constitute.

[3] – دستور فرنسا لعام 1958، المعدل 2008، موقع Constitute.

[4] – دستور إسبانيا لعام 1978، المعدل 2011، موقع Constitute.

[5] – الدستور الفرنسي- مرجع سابق.

[6] – الدستور الإيطالي-مرجع سابق.

[7] – دستور الهند لعام 1949، المعدل عام 2016، موقع Constitute.

[8] – الدستور الروسي-مرجع سابق.

[9] – دستور الولايــــات المتحـدة الأميركـية- جامعة منيسوتا، مكتبة حقوق الإنسان.

[10] – الدستور الفرنسي- مرجع سابق.

[11] —الدستور الهندي- مرجع سابق.

[12] – الدستور الإيطالي-مرجع سابق.

[13] – دستور البرتغال لعام 1976، المعدل 2005، موقع Constitute.

[14] – الدستور الروسي- مرجع سابق.

[15] – ملتقى الباحثين السياسيين العرب، مفهوم السياسة الاجتماعية وماهيتها وكيفية صياغتها.

[16] – الدستور الإيطالي-مرجع سابق.

[17] – الدستور الإسباني-مرجع سابق.

[18] – الدستور الفرنسي- مرجع سابق.

[19] – الدستور الهندي- مرجع سابق.

[20] – دستور البرتغال لعام 1976 مع تعديلاته حتى عام 2005، ConstitutionNet

[21] – دستور ألمانيا  لعام 1949، المعدل 2014، ملتقى الباحثين السياسيين العرب.

[22] – الدستور الإيطالي-مرجع سابق.

[23] – دستور البرازيل لعام 1988، المعدل عام 2017، موقع Constitute.

[24] – الدستور الروسي- مرجع سابق.

[25] – الإعلان العلمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة.

[26] –دستور اليابان كاملا باللغة العربية، موقع “يا مسافر”.

[27] – الدستور الألماني –  مرجع سابق.

[28] – الدستور الإيطالي-مرجع سابق.

[29] – الدستور البرازيلي-مرجع سابق.

[30] – الدستور الروسي- مرجع سابق.

[31] -ا لمساواة بين الجنسين، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، مكتب اليونسكو في بيروت.

[32] – الدستور الألماني – مرجع سابق.

[33] – المرجع السابق.

[34] – ألان تورين، ما الديمقراطية، ترجمة عبود كاسوحة، وزارة الثقافة، دمشق-سورية، 2000 م. ص 118.

[35] – مركز إدراك للدراسات والاستشارات، الدساتير المتعاقبة في سورية.. تحليل ومقارنة.

[36] – المرجع السابق

[37] – مركز عمران للدراسات الإستراتيجية – الدين والدولة بين التيارات الليبرالية والمحافظة السورية: قراءة في ثلاثة دساتير سورية 1920-1950-1973

[38] – مركز إدراك للدراسات والاستشارات- مرجع سابق.

[39] – المرجع السابق.

[40] – جواهر لال نهرو، نتكلم عن علمانية الهند، موقع حكم  Hekmas.

[41] – Secularism in India – Wikipedia

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى